أرتور شوبنهاور (1788-1860)

Great Thinkers


حجم الخط-+=

ترجمة: موسى جعفر

أرتور شوبنهاور فيلسوف ألماني من القرن التاسع عشر يستحق أن يذكر اليوم بفضل الأفكار التي قدمها في أفضل أعماله: كتاب «العالم إرادة وتمثلًا». كان شوبنهاور أول فيلسوف غربي كبير يهتم بالبوذية، وأفضل طريقة لقراءة أفكاره هي بحسبها تفسيرا غربيا واستجابة للتشاؤمية المستنيرة في البوذية.  كتب شوبنهاور في سيرته الذاتية: «أحاط بي بؤس الحياة في عامي السابع عشر، كما حدث مع بوذا في شبابه حين أبصر المرض والألم والشيخوخة والموت. الحقيقة أن هذا العالم لا يمكن أن يكون صنيعة كائن محب، بل صنيعة شيطان جاء بالمخلوقات إلى الوجود ليتلذذ بمعاناتها». وكما بوذا كان هدفه تحليل المعاناة للوصول إلى حل. نذكر أن السبب الرئيس في عدم بزوغ نجم شوبنهاور بين العامة هو خطأ الجامعات التي درست أفكاره بطريقة أكاديمية متحجرة، وإلا فإنه رجل يستحق -أسوة ببوذا- تلاميذَ ومدارسَ وأعمالًا فنية وأديرة لوضع أفكاره في حيز التنفيذ.

تبدأ فلسفة شوبنهاور بتسمية قوة أساسية تطغى على السببية والمنطق والحس الأخلاقي وكل شيء آخر فينا، يسميها إرادة العيش؛ وهي قوة دائمة تجعلنا نندفع إلى الأمام ونتشبث بالوجود ونسعى إلى مصالحنا. هذه القوة جامحة وعمياء وغبية، وتركز أنظارنا على الجنس، فهي تضج في داخلنا من المراهقة صعودًا، لافتة نظرنا إلى سيناريوهات شهوانية باستمرار، جاعلة إيانا نفعل أشياء غريبة جدًا، أغربها الوقوع في الحب. احترم شوبنهاور الحب كما يحترم المرء إعصارًا أو نمرًا. وامتعض من التشويش الذي يحدثه الوله -أو الإعجاب- في عقول الأذكياء، ورفض عدَّه حدثًا عرضيًا أو غير متناسب، إذ كان الحب في عينه موصولًا بأهم (وأتعس) المشاريع الضمنية لإرادة العيش (ثم بكل الحياة)، لقد كان موصولًا بمشروع الإنجاب. يتساءل شوبنهاور: «لِمَ كل هذه الجلبة والضجة عن الحب؟ لِمَ كل هذا الصخب والإلحاح والكدح والعذاب؟» ثم يجيب: «لأن الهدف الأعظم من جميع العلاقات العاطفية أهم حقيقةً من سائر الأهداف في حياة أي منا، لذا فهو حقيق بالجدية البالغة التي يطارده بها الجميع». تهيمن الرومانسية على الحياة لأن «ما يحدد بها ليس أقل من خلق الجيل التالي… الهيئة الخاصة والوجود المستقبلي للجنس البشري». بالطبع فنحن نادرًا ما نفكر في أطفال المستقبل عندما نطلب موعدًا غراميًا؛ وتعليل شوبنهاور لذلك هو أن العقل «يظل مُبعدًا عن قرارات إرادته الحقيقية السرية». وإن كنت تسأل لِمَ كل هذا الخداع؟ فإنه يجيبك أننا لن نستطيع التناسل بثقة ما لم نفقد عقولنا قبل ذلك. فهو رجل شجب الملل والرتابة والتكلفة والتضحية الجسيمة المترافقة مع الأطفال. علاوة على ذلك، فقد حاجج بأننا غالبًا ما كنا سنختار شركاء مختلفين جدًا عن الذين انتهى بنا المطاف معهم، لو كانت عقولنا مسؤولة عن اختيار من نحب. لكننا في النهاية مقادون لحب لا الناس الذين ننسجم معهم بل أولئك الذين تعدُّهم إرادة العيش شركاء مثاليين لإنجاب من سماهم شوبنهاور «أطفالًا متزنين».  اعتقد شوبنهاور أننا جميعا غير متزنين قليلًا بغض النظر عن الحالة، فبعضنا خشن أو ناعم أكثر من اللازم، وبعضنا طويل أو قصير جدًا، وبعضنا مندفع أو عقلاني أكثر من اللازم. وإن سُمح باستمرار هذا الاختلال إلى الجيل التالي أو تفاقمه، فإن الجنس البشري سيغرق في الشذوذ بعد مدة قصيرة.  تبعًا لذلك فإن على إرادة العيش دفعنا نحو من يستطيع محو مشاكلنا بعدم اتزانهم المضاد، فجمع أنف كبير مع أنف صغير يَعِدُ بأنف مثالي. أيضًا فقد قال إن القصار عادة ما يعجبون بطوال القامة، وكذلك إن الرجال الناعمين ينجذبون إلى النساء الحازمات الأخشن، وهكذا. لسوء الحظ، قادت نظرية الانجذاب هذه شوبنهاور إلى استنتاج شديد الكآبة، هو أن الشريك المثالي لإنجاب طفل متزن يكاد لا يكون مناسبًا لنا تمامًا، لكننا نعجز عن إدراك ذلك في وقته لأن إرادة العيش تعمينا.  يجب ألا نندهش من زواج شخصين ما كانا ليترافقا، يقول شوبنهاور «بغض النظر عن الجنس، يلقي الحب شباكه على الناس الذين قد يكونون مكروهين وبغيضين وحتى مقيتين لنا. لكن إرادة النوع أقوى من إرادة الفرد، لذا يغض العشاق النظر عن كل شيء ويحكمون خطأً على كل شيء، ويربطون نفسهم للأبد بباعث على الشقاء». تشير نظرية شوبنهاور إلى أن قدرة إرادة العيش على خدمة نفسها بدلًا من سعادتنا يمكن أن تُكتشف بوضوح في لحظة الوحدة المخيفة التي تتلو بلوغ النشوة، وعلى حد تعبيره: «تُسمع ضحكات الشيطان بعد الجماع مباشرة». شعر شوبنهاور بالأسف الشديد على البشر وهو يشاهد مسرحيتهم المستمرة. فنحن كالحيوانات باستثناء أن وعينا الأفضل يجعلنا أقل سعادة منها! كتب شوبنهاور عن حيوات حيوانات مختلفة بطريقة مؤثرة، لكنه أسهب في الحديث عن الخلد فقال إنه: مسخ معاق يسكن الممرات الضيقة الرطبة، ونادرًا ما يرى ضوء الشمس، وأطفاله يشبهون الديدان الهلامية إلا أنه -رغم ذلك- يفعل كل ما في استطاعته لينجو ويتناسل! نحن مثيرون للشفقة كالخلد؛ نحن نقاد بعنف لدفع أنفسنا إلى الأمام، والحصول على عمل جيد لنعجب شركائنا المستقبليين، ونفكر دومًا في إيجاد «شريك العمر» متخيلين أنه سيسعدنا، لكننا في النهاية نغرى من شخص بما يكفي لننجب طفلًا، ثم نمضي الأربعين سنة القادمة في تعاسة لنكفر عن ذنبنا. 

إن شوبنهاور متشائم على نحوٍ جميل وهزليّ من الطبيعة البشرية، فهو القائل: «هناك عيب خلقي وحيد هو وهم أننا ولدنا لنكون سعداء… وسيبدو العالم مليئًا بالتناقضات ما دمنا نصر على هذا العيب الخلقي. قُدِّرَ لنا في كل خطوة، في الأشياء صغيرها وكبيرها، اختبار أن العالم والحياة ليسا منظمين بغية الإرضاء أبدًا. لهذا السبب تبدو وجوه معظم كبار السن محفورة بخيبة الأمل».

قدم شوبنهاور طريقتين لحل مشكلة الوجود: الطريقة الأولى هي لأفراد نادرين سماهم «الحكماء». وهم أناس يستطيعون -بجهود بطولية- الارتقاء فوق مطالب إرادة العيش؛ إنهم يبصرون دوافعهم الطبيعية تجاه الأنانية والجنس والخيلاء ويسيطرون عليها. إنهم يتغلبون على رغباتهم، ويعيشون وحدهم (بعيدًا عن المدن الكبيرة في الغالب)، ولا يتزوجون ويكبحون رغبتهم في الشهرة والمكانة. يشير شوبنهاور إلى أن هكذا شخص يسمى في البوذية بالراهب، لكنه يقرُّ بأن قلة قليلة تستطيع سلوك هذا الدرب. أما الطريقة الثانية فهي خيار أسهل تحصيلًا وأكثر عقلانية، وهي بقضاء أطول وقت ممكن مع الفلسفة والفن، إذ إن مهمتهما إمساك مرآة تعكس الجهود المسعورة والاضطرابات التعيسة التي صنعتها إرادة العيش فينا جميعًا. ورغم أننا قد لا نتمكن من كبح إرادة الحياة على الدوام، فإننا نستطيع في الأمسيات في المسرح وعند التمشي مع كتاب شعر أن ننظر إلى الحياة بلا وهم بُعيد نظرة الحياة اليومية. 

أحب شوبنهاور الفن المضاد للإحساس العاطفي الرقيق، مثل التراجيديا الإغريقية وأمثال لاروشفوكو والنظريات السياسية لهوبز ومكيافيلي. تتناول هكذا أعمال الغرور والمعاناة والأنانية ورعب الحياة الزوجية، وتهب مواساة سوداوية وحزينة وعظيمة للجنس البشري. طابقت أعمال شوبنهاور وصفه لما يجدر بالفلسفة والفن فعله. فهي شديدة المواساة بطريقتها التشاؤمية المريرة، على سبيل المثال فهي تتضمن: 

  • «الزواج يعني فعل كل شيء ممكن ليكون كل طرف موضع اشمئزاز للآخر».
  • «تاريخ كل حياة هو تاريخ من المعاناة».
  • «ليس للحياة قيمة فعلية؛ هي فقط مستمرة بفعل الإرادة والوهم».

وجد شوبنهاور في آخر حياته جمهورًا يحب كتاباته، وذلك بعد أن قضى الكثير من الوقت في محاولاته الفاشلة ليكون مشهورًا، ومحاولاته الفاشلة ليكون علاقات جيدة. وعاش بسلام في شقة في فرانكفورت برفقة كلبه القلطي الأبيض الذي اسماه أتمان (يعني روح العالم في البوذية)، لكن أطفال الحي كانوا يسمونه زوجة شوبنهاور. 

توفي شوبنهاور في 1860 عن عمر 72 عامًا وقد حقق الصفاء والسكينة، وصنع له نحات تمثالًا نصفيًا مشهورًا قبل وفاته بقليل. 

إن شوبنهاور هو حكيم عصرنا، وتمثاله يجب ألا يكون أقل شهرة من بوذا الذي أحبه ولا أقل تبجيلًا منه.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى