أربع روايات لفونيجت في ضوء النقد الأدبي

ليندزي دي. كلارك


حجم الخط-+=

ترجمة: فاطمة مصطفى 

أنا معجبة بكورت فونيجت لأنه مبتكرٌ واستثنائي، ينهلّ صوته الأدبي من حقبة زمنية أحبها، حين كان، حسب الناقد توم فيردي، “يساهمُ في بث الحياة في جنس أدبي جديد: الأدب الشعبي الحديث”. وعلى الرغم من أنه لم يكن راديكاليًا، وأن معظم معتقداته (كما ذكر بنفسه) تفتّحت في طفولته إبّان الكساد الكبير، فإن ما ناله من حرية في ظل اضطراب ستينات القرن العشرين وسبعيناته لم يقف عند حدود موضوعات الكتابة -كالعلم في عصر التقدم التكنولوجي المذهل، أو الدين والجنس والتقاليد في عصر التحولات الثقافية، أو الاشتراكية والسلمية في عصر مسيرات السلام- بل نال أيضًا حريةً أسلوبية. ولهذا السبب عينه، تجاهلتُ حتى الآن آراء المختصين. إذ خشيتُ أن أجد جحافل من النقاد المتحجرين ينعون موت السرد، ويلعنون فونيجت لمساهمته في انحطاط الإنسانية (وهو بدوره كان سيوافقهم الرأي بسخريته الذاتية المعتادة)، ويتغنون بأوستن وهوثورن وغيرهما من الكتّاب الذين يسببون لي النعاس، ويبذلون قصارى جهدهم لتدمير تجربتي القرائية.

إنّ الأساس الكامن في أعمال فونيجت كلها هي الإنسانية. فقد اتفق غالبية النقاد على أن أهم جانب من كتابة فونيجت هو إيمانه بـ”كرامة الإنسان”، وهو مصطلح وجدته في ثلاث مقالات نقدية. فرواية إفطار الأبطال تستكشف فكرة الإنسان كآلة بحتة، حيث يقوم كل شخصٍ بما هو مبرمجٌ عليه، دون كرامةٍ أو احترامٍ لذاته، وأصدق تجسيد لهذه الفكرة هم الفقراء في أمريكا: أولئك الذين تحاصرهم رتابة الحياة الآلية لتوفير لقمة عيشهم.

غالبًا ما يُعتَقَد في ثقافتنا أن هؤلاء الناس لا يستحقون الاحترام، ويشمئز فونيجت من هذه النظرة، يقول جيروم كلينكويتز أن “فونيجت يُصِرُّ على أن الحل الرئيس لمشكلات الإنسان إنما هو إقرار الكرامة في كل نفس بشرية، حتى في أولئك الذين يبدو أنهم الأدنى استحقاقًا لها.” ويواصل موضحًا أن فونيجت يرى أن الكرامة ليست امتيازًا حصريًا لميسوري الحال أو الناجحين، بل هي جزء جوهري من كونك إنسانًا. يسهل تطبيق هذا المفهوم على سكان جزيرة سان لورينزو المُعدَمين في رواية مهد القطة، وعلى الجنود في رواية مسلخ رقم خمسة. ففي الأخيرة، يكشفُ الجو الخانق والمهيمن الذي عاشه بيلي بيلغرام وبقية الجنود -الذين كانوا، كما هي الحال غالبًا، شبابًا وفقراء- حتمية الموت المحدق بهم، وكأنهم مجرد أدوات حربية يسهل الاستغناء عنها؛ فإذا ماتوا، من ذا الذي يكترث؟ فلقد كانوا مجرد آلات في نهاية المطاف.

يشير الناقد بيتر ج. ريد إلى أن فونيجت يعلم أن تجاوز هذه المشكلة يقتضي إدراكًا أساسيًا بأهمية كل فرد، وهو فعلٌ من وحي الضمير “[يتضمن] الاعتراف بالهوية المتفردة، والتميز، و”القداسة” لذلك الكائن البشري.” يُعرِضُ شخصيات مسلخ رقم خمسة عن العالم بسبب ظروفهم، مستسلمين لإرادة القدر، وهو فعل وصفه الناقد كونراد فيستا بأنه “أدنى من كرامة الإنسان.” وعند الحديث عن الكرامة الإنسانية، يفرض علينا المقام أن نذكر المسؤولية الإنسانية أيضًا. أشار معظم النقاد الذين اطّلعت على آرائهم إلى أن شخصيات فونيجت تميل إلى الانكفاء على ذاتها هروبًا من تحمل المسؤولية. وكتب كونراد فيستا أن “نزوع الإنسان إلى تجنب الواقع المؤلم” يمثل “الموضوع المركزي للسخرية” في كتابات فونيجت. ففي رواية مسلخ رقم خمسة، حين تخبر الكائنات الغريبة وغير المحبوبة القادمة من كوكب ترالفامادور بيلي بيلغرام بأن جميع الأحداث ثابتة لا تتغير ولا فكاك منها، يستسلم للا مبالاة والانفصال العاطفي، فينعكس ذلك في نبرة السرد ويراد به إحباط القارئ. غير أنني أغفلتُ ذكر الاستخدام المتكرر لعبارة “وهكذا تسير الأمور”، التي تُعد أداة فعالة، كما يوضح فيستا، إذ إن “تكرارها واستخدامها لشرح كل حالة وفاة… يثير فينا غضبًا محتدمًا من تفاهتها وخلوها من المعنى”. ومن ثم، يستثير فونيجت ضمير القارئ، ففعالية رواية إفطار الأبطال على سبيل المثال، تقوم على تشبعها بالأساليب الأخلاقية. يكمل فيستا واصفًا رواية مسلخ رقم خمسة على أنها هجوم على فعل الارتماء في عوالم خيالية شخصية هربًا من “آلام الحياة ومخاطرها ومشكلاتها”. يرتبط الموضوع ارتباطًا وثيقًا أيضًا بروايتي مهد القطة وإفطار الأبطال، وإن لم أجد ناقدًا يصرح بذلك مباشرة. ففي مهد القطة يهاجم فونيجت الفيزيائي النووي فليكس هوينيكر لمساهمته في إنتاج ابتكارات علمية متفجرة، متجاهلًا تمامًا العواقب الإنسانية ومسؤولية أفعاله.

وفي رواية إفطار الأبطال، نجد الشخصيات في غفلةٍ تامة عن بعضها، لدرجة أن القصة نفسها تُشعِر القارئ بالغربة، وتُفهَم كدعوة باردة للانصراف، حتى بعد أن يُقحم فونيجت نفسه في النص، وهو ما يراه بيتر ريد سببًا لنشعر بأننا “مستبعَدون”. لكنني لا أوافقه الرأي في أن ذلك يضر بالعمل، بل أرى أنه مناسب تمامًا للرسالة، أرى أن شعور القارئ بالاغتراب يتلاءم تمامًا مع مغزى الرسالة. ويشير الناقد توم فيردي إلى أن “موضوعات الوحدة والانفصال في المجتمع المعاصر” جعلت الرواية “قاتمة” و”كئيبة”. بوجه عام، وبناءً على الإجماع النقدي، يمكن التأكيد بأن من أهم أهداف فونيجت في كتاباته هو التعبير عن إيمانه المطلق بالمسؤولية الشخصية تجاه الذات، والمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين والإنسانية جمعاء.

لكن يبدو أن بعض النقاد فاتتهم تمامًا السخرية في شخصيات فونيجت المنعزلة. فحسب مصدر في الإنترنت، يُعابُ على مسلخ رقم خمسة لـ” تأييدها بالقبول الخاضع في استجابة ملائمة لأفعال الشر”، وفي الواقع، هذا بالضبط ما يحذرنا منه الكتاب. قد يكون هذا الالتباس ناتجًا عما يراه كثيرٌ من النقاد درجةً من الغموض في كتابة فونيجت، وهو ما دفع بعضهم إلى التشكيك في استحقاقه للقب ساخرٍ بارع، فيما سعى آخرون إلى الدفاع عنه. أجمعت معظم الآراء النقدية التي وجدتها على أن الغموض أساسيٌ لفهم فونيجت. فقد عبّر فيستا عن رأيه بأن كتاباته كثيرًا ما “تعجز عن تلبية بعض التوقعات المتعلقة باتساق الفكرة، و…تعجز عن الإفضاء إلى تفسير شامل خالٍ من الالتباس.” وهو مُحقٌ في ملاحظته، غير أنني لا أتفق مع استعماله لكلمة “تعجز”. فأنا لا أرى أن الغموض في الكتب التي قرأتها مربكًا، بل أجده جاذبًا ومؤثرًا.

إحدى الموضوعات التي دائمًا ما يُساء فهمها على أنها غامضة هو موقف فونيجت من الدين والتكنولوجيا. ولأنه يقف ضد من يتغافلون عن الواقع، ويعلن صراحةً أنه لا أدريّ، فقد يُستنتج طبيعيًا أنه سيزدري الدين، وأي موقف مغاير يُعَد تناقضًا صارخًا. لكن فونيجت لا يزدري الدين، إذ يؤكد ريد في مقاله “فونيجت في الأوساط الأكاديمية” أن أي قارئ مُلم بأدب فونيجت لن يجرؤ على وصفه بأنه لا ديني. وهذا الالتباس الذي يواجهه بكثرة يمكن تبديده بسهولة. “فإن كان ما يميزه”، كما كتَبَ كونراد فيستا، فهو أن فونيجت “ناشطٌ يهتم بما يمكن إنجازه من خير ملموس، ولا صبر له على التجريدات كافة، بما فيها…الدوغمائيات أياً كان نوعها.”

إن فونيجت إنسانيٌ أولًا، ويعارض الدين إن حال دون كرامة الإنسان، لكن إن اختار الناس عن وعي، أن ينخدعوا بدينٍ رحيم، يُعلي من شأن الصلة الإنسانية والاعتداد بالذات، فذلك أمرٌ محمود، لأنه يسهم في السعادة الجماعية (وهي عقيدة ذات نزعة اشتراكية جعلت فونيجت، في وقتٍ ما، كما يشير الناقد الأدبي دونالد فيني، محبوبًا في الاتحاد السوفيتي). وأحيانًا تكون الأكاذيب البريئة ضرورية لبلوغ راحة نفسية يستحيل نيلها بغيرها، إذ يقول جيروم كلينكوفيتز: “إن خرافات الطبقة الوسطى ديمقراطية في جوهرها، ولهذا يجدها فونيجت نافعة في مشروعه لإنقاذ الحياة البشرية، في زمنٍ يتهددها خطر أن تغدو غير محتملة.”

يُعبر فونيجت عن هذه الفكرة بأوضح صورة في رواية مهد القطة، من خلال الديانة “البوكونونية”، تلك الديانة المختلَقة التي تعترف بعبثيتها وتناقضاتها، وفي الوقت نفسه تكشف عن حقائق بسيطة وجميلة حول الحب والإيثار، فقد وُجدت هذه الديانة لتبعث السلوى في نفوس أتباعها البائسين المعدَمين من سكان الجزيرة. ومن خلال البوكونونية، يرفض فونيجت، بتعبير فيستا، “الشرور في مجتمعنا التي تجعل الحياة مؤلمة وخطرة ومدمرة بلا داعٍ”. تشمل هذه الشرور كلاً من التكنولوجيا والعلم، إذا ما نجم عنها نتائج مدمرة، من القنابل الذرية، ومادة “الجليد-تسعة”، وصولًا إلى الوظائف الصناعية المملة التي تُنفذ بلا تفكير. كان فونيجت يخشى تصادم العلم المتفجر مع الغباء البشري -ذلك الثابت الذي أكدَّ التاريخ صحته- سيؤدي إلى توليد كل أنواع التبريرات المعقدة التي سرعان ما يتبين خلوها من المعنى، أو إلى ما يسميه فيستا “قدرة الإنسان على تجاهل المعرفة البسيطة المتاحة عن عمد، من أجل التمسك بأفكار ومواقف جنونية”.

إن افتتان فونيجت الممزوج بالأسى بدور الآلات في حياة البشر جعله، زمنا طويلا، يُحسب على كتّاب الخيال العلمي. لكنه لم يكن راضيًا قط بهذا القالب، مشتكيًا أن “نقادًا جادّين كُثُرًا يخطئون فيظنونه مبولة”. حتى بعدما “بذل جهدًا جهيدًا لينأى بنفسه عن الخيال العلمي بتصنيفه جنسا أدبيا” ظلت، على حد تعبير ويليز. إي. مكنيلي، بقاياه عالقة به. ويبدو أن مكانة فونيجت كاتبَ خيال علمي موضوعٌ خصب للنقاش. أما فونيجت نفسه فيكنُّ تقديرًا غريبًا للخيال العلمي، ويتجلّى ذلك في شخصياتٍ مثل كاتب الخيال العلمي كيلغور تراوت (الذي يُعَد، في رأي كثيرين، قرين فونيجت الأدبي)، وإليوت روزووتر في مسلخ رقم خمسة، الذي يبيّن الدور الذي يتيحَه الخيال العلمي -كما تفعل سائر أشكال اللا واقعية- لتجاوز ذواتنا، والابتعاد عن وطأة الحاضر، والنظر إلى أنفسنا من زاوية أخرى، لعلّنا نُبصر العالم بوضوحٍ أعمق، كما يبين ماكنيلي. لذا يستعير فونيجت أساليب الخيال العلمي ليعبر عن آرائه حول “شركة جنرال إلكتريك وفقدان الكرامة الإنسانية، فقدان الثقة بالحكومة، فقدان الثقة بالرب، فقدان الثقة ببراءة العلم…”. ومع ذلك، تبقى كتابات فونيجت قائمة على الإنسان قبل كل شيء، فلا يمكن تصنيفها خيالا علميا فحسب، كما أشار توم فيردي: “مهما كانت التكنولوجيا حاضرةً في كتبه يظل تركيزه إنسانيًا”. 

هكذا أعود إلى الإنسانية كأني عدت إلى نقطة البداية. فالسؤال، في الأقل بين النقّاد، يبدو ما يلي: ما موقف فونيجت من أهدافه الإنسانية؟ هل هو كاتب تشاؤمي أو إصلاحي؟ فقد يُنظر إلى انتحار بوكونون في نهاية رواية مهد القطة بوصفه فعلًا ساخرًا من إنساني انقلب على قناعاته. ويبدو أن كونراد فيستا يؤيد هذا التأويل، إذ يُبدي شكه في أمل فونيجت بإمكانية التغيير، بعدِّ أن “الإصلاح، حتى حين يتحقق في رواياته، سرعان ما يفسده الفساد”. هذا صحيح، غير أني أرى فيه أداة للسخرية أكثر منه دلالة على تشاؤم، أداة تثير الوعي وتنذر بأن الحماقة قد تعترض حتى النوايا الحسنة. يزعم جيروم كلينكوفيتز أن “رؤية فونيجت تبدو متشائمة إلى أقصى حد”، لكنني لا أوافقه، فقد كتبتُ في مقالتي عن إفطار الأبطال أنه أسوأ من كونه متشائمًا: إنه متفائل أبدي محكومٌ عليه بخيبة الأمل -“يحاكي وجودية لاذعة مُعاد النظر فيها”- وهو أكثر ميلًا إلى الاشتراكية والإنسانية من أن يُوصَف بالوجودي، إلا في حدود اعتقاده أن المستقبل متوقفٌ على البشر وحدهم، “أو فكاهة سوداوية قد تشير أو لا تشير إلى إلهٍ صغير الاسم، لا يتجاوز في أحسن الأحوال أن يكون محض صدفة عابرة”. هذا، على الأرجح، أقربُ إلى الحقيقة.

المضحك المبكي في وضعنا هو أننا عالقون، لم يبادِر أحدٌ لإنقاذنا، ولن يفعل أحدٌ ذلك مستقبلًا، فنحن وحيدون من الأساس، إلا من صحبتنا لبعضنا. فليس الأهم هو الإقرار بهذه الحقيقة، بل أن ندرك أن البشر من حولنا هم كل ما سنعرفه على هذه الأرض. وبالرغم من التاريخ الطويل للغباء يجب أن يعتمد الإنسان على الإنسان. 

يقول فيستا إن فونيجت يمنحنا “أملًا لا يأسًا -ولكنه ليس أملًا بلا فعل”. وهذا القول ما يزال صحيحًا، في الأقل في حدود ما قرأتُ له، غير أني لا أستطيع الجزم، فكم من كتبه لم أقرأ بعد. لكن حتى النقاد الذين قرؤوا كلَّ ما كتب، لم يظفروا بيقين. وربما سأل بعضهم المؤلف نفسه، ولعلّ ذلك قد حدث، غير أني أشك أن يكون هو أيضًا على يقين.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى