أجمل رسائل وليم بليك: في الدفاع المستميت عن الخيال والروح الإبداعية
ماريا بوبوفا
ترجمة: عهود سعدون
كتب شوبنهاور عن العبقري في تمييزه الخالد بين العبقرية والموهبة: “إنَّ العبقري يضيء عصرهُ كما يضيء مذنَّبٌ الدروبَ بين الكواكب، فيكون مساره منحرفًا وغير منتظم مقابلةً بمسارات هذه الكواكب”. على خلاف الشخص الموهوب، الذي يتجاوز عملُه في الامتياز عملَ معاصريه ويحظى بتقديرهم بسهولة. جادل شوبنهاور بأن الشخص العبقري ينتج عملاً لا يختلف فيه عن الآخرين في تميِّزه حسب ولكن في الرؤية أيضًا. لذلك غالبًا ما يستهزأ معاصرو المؤلف بعمله أو، حتى الأسوأ من ذلك، يتجاهلونه تمامًا، ولا يعيد اكتشافه وتقديره سوى الأجيال القادمة. يمكن القول إنه لا يوجد عبقري يجسد هذا المبدأ المأساوي أفضل من وليم بليك (28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1757- 12 آب/ أغسطس 1828)، الذي عاش وسط سخرية الناس وتوفي وطواه النسيان، لِيُلهم بعد ذلك أجيال من الفنانين إذ كان مصدر إلهام لموريس سينداك طوال حياته، وكان نوعًا من قديس الفن الحامي لباتي سميث. أنتج بليك فنًا مذهلاً لعمل ملتون “الجنة المفقودة” وأنتج رسومات على عمل دانتي “الكوميديا الإلهية” حتى يوم وفاته. بعد قرون عدة، تستمر أشعاره في إرواء عطش وجودي لا يتغير. تنبعث عبقرية بليك من نزعته الروحية وغير المعتادة، إذ كان منجذباً إلى الدين ومتضايقا منه في الوقت نفسه، اختار بدلاً من ذلك أن يعيش في عالم من الروحانية المجردة، وسط كونه الذاتي، ولا أدريته وغالبًا ما كان معاديًا بلا مواراة للكتاب المقدس. لقد كان تقديسًا يفتقر للوقار، جريئًا فكريًا ومزدريًا للعقيدة، يحركه إيمان راسخ بالروح البشرية، وبقدرتنا على السمو الذاتي، وفي القدرة على تحسين المحدودية المحزنة لحياتنا عن طريق الاتصال بالأبدية من خلال أسمى قنوات الحقيقة والجمال- الحقيقة والجمال اللذان لا يزالان يشعان من فنه. لربما قد مات فقيرًا، لكنه عاش غنيًا ومشحوننًا ببهجة الإبداع.
لا يوجد مكان تتألق فيه عبقرية بليك الفريدة وتوجهه الروحي بنحوٍ أكثر براعةً من الرسالة التي كتبها إلى القس جون تروسلر في صيف عام 1799، ووردت في كتاب “وليم بليك المتنقِّل (The Portable William Blake)”، الذي حرره ألفريد كازين العظيم. كان تروسلر كاهنًا ورجل أعمال رائدًا في مجال المساعدة الذاتية، لديه مؤلفات بعناوين مثل (Hogarth Moralized) مواعظ هوغارث، و(A Sure Way to Lengthen Life with Vigor) طريق أكيدة لحياة طويلة ومفعمة بالشباب، و(The Way to be Rich and Respectable) الطريق لتكون غنيًا ومحترمًا. واستطاع بممارسة تعاليمه جمع مبالغ طائلة من فكرته الذكية لبيع الخطب المطبوعة لتبدو مكتوبة بخط اليد، وذلك للتخفيف من مشقة التأليف. بعد مشاهدة عمل “العشاء الأخير” لبليك معروضًا في الأكاديمية الملكية في أيار/ مايو 1799 قرر تروسلر تكليفه بسلسلة من الأعمال الفنية ذات الطابع الأخلاقي، وتهدف إلى إرفاق بعض الرسومات إلى كتابات تروسلر عن مواضيع مثل الضغينة والإحسان والكبر والتواضع. لكن، كما هو متوقع عندما يحسب صاحب البصيرة أنه مجرد يد عاملة، تولَّدت مشكلة إذ لدى بليك رؤيته للفن، ولتروسلر أفكار محددة جدًا، وبدائية إلى حد ما مستوحاة من جماليات الرسوم الكاريكاتورية الشعبية في تلك الحقبة. كتب إلى بليك سلسلة من الانتقادات، وأدان منهجه فعدَّه مفرطًا في التعالي وغريبَ الأطوار، واتهمه بامتلاك خيال ينتمي إلى “عالم الأرواح” ولا يليق مع نوايا تروسلر الدنيوية. في السادس عشر من آب/ أغسطس 1799 رد بليك ذو الأربعين عامًا بوضوح وسخط فني في رسالة تفيض بالتآلف الغريب الذي يحمي فنه كله- من الانزعاج من الوضع الراهن، والعذاب الشخصي العميق، والطفو الإبداعي الذي لا يمكن تعويضه.
كتب إلى تروسلر: “أجد أكثرَ فأكثرَ أن أسلوبي في التصميم نوعٌ من الأنواع في حد ذاته، وفي هذا الذي أرسلته إليك، أجبرتني عبقريتي أو ملاكي على اتباعه حيث يريد، وإذا ما تصرفت بطريقة مغايرة فلن يتحقق الغرض الوحيد الذي أعيش من أجله، وهو… إعادة الفن الإغريقي المفقود. لقد حاولت كل صباح طوال أسبوعين اتباع إملاءاتِك، لكن عندما وجدت أن محاولاتي بلا جدوى عزمت على إظهار استقلالًا أعلم أنه سيرضي مؤلفًا خيرٌ من اتباع مسارٍ آخر بعبودية مهما بدا هذا المسار مثيرًا للإعجاب. عذري إني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك، لقد كان الأمر يفوق قدرتي! أعلم أنني توسلت إليك أن تزوِّدني بأفكارك ووعدتك بالبناء عليها، هنا تصرفت بدون إذن مُضيفي. أُقرُّ الآن بخطئي“.
في إحساس سيتردد صداه لدى تشايكوفسكي بعد قرن بالضبط في رثائيته حول مفارقة العمل المفوض والحرية الإبداعية، يجادل بليك بأن ما منعه من إطاعة مطالب تروسلر هو استحالة -لا، بل تدنيس المقدسات- من مصدر الإلهام: “لا أستطيع أن أصف بالكلمات ما أقصد تصميمه، خوفًا من أن أبدد روح إبداعي… ومع أني أنسبها لنفسي فأعلم أنها ليست لي، وهو من رأي ملتون نفسه عندما قال إن الإلهام يزور نائميه ويقظيه ويَحكمُ أغنيتَه عندما يزهر الشرق صباحًا، ويشارك أيضًا مأزقَ ذلك النبي الذي يقول: “لا أستطيع أن أتجاوز أمر الرب لأقول حقًا أو باطلا“.
كان تروسلر غاضبًا وأطلق المزيد من الانتقادات. وقبل الرد على تروسلر، أفضى بليك بتهكم إلى صديقه العزيز ومؤيده طوال حياته جورج كمبرلاند، الذي قدم تروسلر إلى بليك وأعماله مسهِّلًا المهمة بقوله: “لم أستطع التوقف عن الابتسام ورؤية الفرق بين مذاهب الدكتور تروسلر وعقائد المسيح”. في ما تبقى من رسالته الأعظم، ينافح بليك عن رؤيته عند تروسلر بكلماتٍ تشع دفاعًا أكبر، وأكثر شمولية وأبدية، عن الروح الإبداعية ضد كل القوى التي تحاول باستمرار إفسادها، وتقليصها، واحتوائها داخل مغزى خانق.
في الثالث والعشرين من آب/ أغسطس 1799 تناول بليك شكوى تروسلر بشيء من الجد والهزل في إشارته إلى أن فنه يستدعي تفسيرًا وهو ببساطة خيالي جدًا: “أعتذر بجدية لأنك تركتَ العالم الروحي، خاصةً حينما يجب عليَّ الإجابة عن ذلك… إذا كنتُ مخطئًا، فأنا مخطئ في رِفقة جيدة… ما هو عظيم هو بالضرورة مبهم في عيون الضعفاء. فما يمكن توضيحه للأبله لا يستحق اهتمامي“.
بتأكيده أن بصيرة تروسلر “قد أعمتها الرسوم الكاريكاتورية أكثر مما ينبغي”، يقدم بليك تعريفًا آسرًا للجمال (أو القبح) بكونه في عين الناظر، مما يعني ضمناً أن فن العيش يكمن إلى حد كبير في تدريب العين على الاهتمام بما هو جميل ونبيل، وهي حجة أكثر إلحاحًا وسط ثقافتنا الحالية التي تتفشى فيها السخرية ويتاجر فيها النظام البيئي الإعلامي بالغضب بعدِّه العملة الرئيسة.
كتب بليك: “أحب المرح، ولكن الإسراف فيه من أكثر الأمور بغاضةً. والتسلية خير من المرح، والسعادة خير من التسلية. يمكن أن يصبح المرء سعيدًا في هذا العالم. وأُيقنُ بأن هذا الكون هو عالم من الخيال والرؤية. أرى كل ما أرسمه في هذا العالم، لكن الآخرين لا يشاركوني هذه الرؤية. إنَّ الجنيه في عين البخيل أكثر روعةً من الشمس، ومحفظة النقود لها أبعاد أجمل من الكرمة المليئة بالعنب. والشجرة التي تجعل أعين بعض الناس تغرورق بدموع الفرح هي في أعين الآخرين شيء أخضر يقف في الطريق لا غير. يرى بعضٌ في الطبيعة كلَّ السخرية والتشوه، ولكن ذلك لن يغير رؤيتي، في حين أن بعضًا نادرًا لا يرى الطبيعة على الإطلاق. إنَّ الطبيعة في نظر المرء المُتخيِّل هي الخيال بحد ذاته. والإنسان يرى الأشياء على صورته […] إنك مخطئ بالتأكيد عندما تقول إن رؤى الخيال لا مكان لها في هذا الكون. هذا العالم ليس إلا رؤية واحدة مستمرة للتخيل أو الخيال، وأشعر بالإطراء عندما يقال لي ذلك“.
لا يوجد إثبات على سحر العالم الحقيقي، كما يقول بليك، أكثر من خيال الأطفال، الذين يرون العظمة والأبدية في المألوف، والذين سيقول عنهم إي. بي. وايت بعد ثلاثة قرون إنهم “أكثر القراء انتباهاً وفضولاً وتوقاً وملاحظةً وحساسيةً وسرعةً وتجانسًا عموما على وجه الأرض”.
كتب بليك: “يسعدني أن تستطيع الغالبية العظمى من البشر الفانين فَهْمَ رؤياي، وخاصةً الأطفال، الذين يجدون المتعة في تأمل صوري أكثر مما كنت أتمنى. لا الشباب ولا الأطفال حمقى أو عاجزون. بعض الأطفال حمقى، وكذلك بعض كبار السن، لكنهم أغلبية ساحقة على ضفة التخيل أو الإحساس الروحي“.
وامتثالًا لآداب العصر في الرسائل، يكمل بليك الرسالة بتوقيع لبق وهزلي في السياق المعارض لرسالته الجريئة: “أنا، يا سيدي الموقَّر، خادمك المطيع جدا، وليم بليك“.