أثر إحياء طروادة في تبدّل إنياس في الإنيادة

سوجاي كلوشريسذا


حجم الخط-+=

ترجمة: أمجاد بنت عوده

يحكي فرجيل في الإنيادة مكابدة مهجّري طروادة، وعلى رأسهم إنياس، ضاربين في الأرض بحثًا عن بلاد يستوطنونها. سافر الطرواديّون بعد أن غَلبهم اليونانيون من قريب عهدٍ باحثين عن بلادٍ جديدة حتّى حطوا رحالهم في إيطاليا، ممّا أوجد في أنفس الإيطاليين عليهم وأوجسهم. إنّ منزلة بعث طروادة في الإنيادة منزلة عظيمة، فهي ملازمة لقدرِ إنياس، وقد نزلت منه منزلًا جعله يبدّل طباعه ويؤثر إعادة مجد طروادة على نفسه، فعلى مر الملحمة يعي حق الوعي أنّه كُتب عليه حمل همّ طروادة على عاتقيه طارحًا كل آماله ورغباته.

في أول الإنيادة كان الطرواديون شعبًا بلا أرض، وقد هاجر الناجون بعد أن شرّدتهم حرب طروادة بحثًا عن مكانٍ لاستيطانه. تحكي أول ستة كتب رحلتهم هذه. اتخذ الطرواديون إنياس أميرًا عليهم في زمن عسرتهم حتّى يردّ إليهم طروادة. ولم يخفَ على إنياس قدره بادئ بدءٍ، وفي نهاية أول كتابٍ نراه وقد غشيه الحنين الشديد وأصابته الغمّة عند رؤيته نقوشًا لمعارك طروادة. (1.610-77) حكى فرجيل أنّ إنياس قد آمن بقدره واستيقن أنّه لمُعين الطروادة في كربتهم هذه ومزيلها حين مشاهدته للنقوش في مملكة ديدو وقال: “الآن على قدمٍ وساقٍ قد اقتفى الأملُ للنجاة، مستيقنًا حتى في خضم المعاناة. خامر اليقين قلبه بأن بعد هذا العُسر يسرٌ”. (1.612-14) وإن دلّ هذا اليقين على شيء فيدل على عزم إنياس على إعمار طروادة، فلن يظفروا بشيء إن كان أميرهم مرتابًا مترددًا. حين تفحّص النقوش جاش قلبهُ، وخذفت عيناه بالدمع جهارًا وهو يرى نقشًا تلو الآخر. ما ذاك إلا لوعيه بحفظ إرث طروادة “رأى بأم عينيه معارك طروادة التي صارت أشهر من نارٍ على علم”. (1.619-20) إن رؤيته هذه النقوش حضّه على بعث طروادة حضًا كي لا يذهب كل شيء سُدى.

أسفرت هذه الملحمة إلى وعي إنياس بأنه وبعث طروادة لا ينفكان، لكثر ما تكرر كلامه عن مصيره. مثلًا في رابع كتابٍ لم يدّع أنّه المسؤول عن إعادة طروادة وكفى، بل صرّح وعرّض ألّا معيدَ لمجد طروادة سواه قائلًا: “إنّي لعازم على إعادة طروادة”. (4.472-77) فبعد مقالته هذه تجاسر لمهمته العظيمة وإن شابه التردد بدءًا. انقلب حاله وتبدلت شمائله من إدراكه مصيره، فيشمّر ساعديه ويستجمع قواه راغبًا عن نصيبه من السعادة في سبيل طروادة. وأكبر دليل على هذا تخلّيه عن محبوبته ديدو، التي خلفتْ زوجها المُتوفَّى في حكم قرطاجة، وإنّها لسكنٌ واستقرار لإنياس على خلاف ما يسعى إليه في استعادة طروادة، ولو أنّه اختار البقاء معها لكان آمنًا مُنعّما مطاعًا، ولحكمَ قرطاجة بلا صعاب، ولانصاع لإرادته كلُّ شيء، لكنّه أبى أن يسلك الطريق المُذلل كما يقول فرجيل: “يجاهد إنياس رغباته، آخذًا على نفسه ميثاقًا، يهذّبها ويسلّيها، ويحدّثها، ثم يستسلم لقدره المحتوم، ويعود إلى الأسطول”. (4.545-51) جليٌ هنا أن إنياس آثر واجبه -أو كما يقال له “الإخلاص لآلهته”- على رغباته. فما طمع بأكثر من مقامه عند ديدو، في الأقل ودَّ لو يسلّيها، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. يفضي إنياس برغبته الملحّة للمقام معها في جدالهم، ويكشف المستور فينبؤها أن الأقدار تجبره على الرحيل فلا حول له ولا قوة. لا أحب إلى قلب إنياس مقامه في قرطاجة مع محبوبته حتّى يقضي نحبه، ولكنّ إحياء طروادة وسعادة شعبه يدفعه دفعًا للإعراض عمّا تشتهي نفسه. وفي كلمات يسيرة إن إعادة طروادة لأولى في نفسه من سعادته، وقد غيّرت هذه الرحلة من شمائله حتى صار أشبه بآخيل.

تحتدم العداوة بين إنياس وطورنوس كبير اللاتينيين في النصف الثاني من الملحمة، وما أشبه هذه العداوة بما كان بين آخيل وهكتور. بلغ الغضب من إنياس مبلغًا وثارت ثائرته عندما قتلَ طورنوس بالاس -الأحب إلى قلبه- كما ثار آخيل لمقتل باتروكلوس على يد هكتور. يثخن إنياس من بعد هذا فيهم ببأس شديد، ولم تأخذه رأفة بمن استرحمه من الجنود، ومثّل في آخرين، وجعل من الأسرى قرابينَ بلا تؤدة (10.725-849). انقلب حاله من قائد شديدٍ تخالط قلبه الرحمة إلى سفّاح مسرفٍ في القتل من بعد موت صديقه بالاس، كما حدث لآخيل. وما كان هذا بواقعٍ إن لم يعهد على نفسه إحياء طروادة. لعلّ أظهر برهان على هذا التبدّل إباؤه العفوَ عن طورنوس في نهاية الملحمة، كما جاء عن حال إنياس: “مدججًا بالسلاح، متلفتًا يمينًا وشمالًا، شامخًا كالطود، ثم تردد هنيهة من كلام طورنوس ويده على غمده، ثمّ تطاير الشرر من عينيه، أنت العدو”. (12.1280-87) هنا كان قد رماه إنياس برمحه، ثم نظر في أمره لمّا طلب العفو عنه، وكاد أن يصفح عنه وبينه وبين أن يذيقه وبال أمره شعرةٌ. ظاهرٌ هاهنا معدن إنياس، بذرة الرحمة ما تزال راسخةً جذورها في نفسه. وعلى نهج آخيل تمكّن الغضب من إنياس لمّا رأى نطاق بالاس على كتف طورنوس، متفجرّة عروقه لرؤية سلب صديقه، فأجهز عليه ثأرًا لدم بالاس، كما أجهز آخيل على هكتور ثأرًا لباتروكلوس. فدل هذا الختام على مآب إحياء طروادة في نفس إنياس، فقد خلع آخر رحمة كاد يمنحها في نزوة غضبٍ ثائرًا متشفيًا لصديقه. فلحَمْلِه همّ إحياء طروادة قست طباعه، فكان عاقبته لا تُحمد على طورنوس.

إنّ حافز إحياء طروادة مركزيٌ في الإنيادة، وتدفَّقَ بعد مُديدة من سقوط طروادة. وجعل منه تداخلُ إحيائها بقَدَر إنياس مدبّرَ كل شيء لتحقيق مبتغاه. منذ وعى مصيره آثر شعبه على نفسه، فعلى مضض فارق ديدو، عارفًا أنه لا سبيل لمقامه وحكمه قرطاجة. فلا عجب بعد هذا أن يصير أشبه بآخيل في عنفه، فيُنكّل بأعدائه ويثخن فيهم بلا شفقة تشفيًا لمصاب صديقه الجندي، من بعد ما كان قائدًا سمحًا. كان حتمًا مقضيًا فداء إنياس بسعادته وراحته لإحياء طروادة.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى