العقل المسكون
ناثانيال هوثورن
ترجمة: بلقيس الكثيري
————————
“في أعماقِ كلِّ قلبٍ قبرٌ وزنزانةٌ، قد ننسى وجودهما بما يعلو القلبَ من أضواء وصخب وموسيقى، وننسى أولئك المدفونين أو السجناء المخفيين فيهما، ولكن أحيانًا وعند منتصف الليل تحديدًا، تُفْتَحُ هذه الأوعية المظلمة على مصراعيها”.
————————–
ما أعظم تفرّد اللحظة الأولى! اللحظة التي بالكاد تستجمع فيها نفسك بعد أن تهبَّ يقِظًا من سبات في منتصف الليل. تفتح عينيك فجأة حتى يبدو وكأنك تفاجئ الشخصيات الظاهرة في منامك والمجتمعة حول سريرك، وتلقي نظرة فاحصة عليهم قبل أن يفروا إلى عالم الغموض. أو لنوغل في الاستعارة فنقول: أن تجد نفسك لوهلة يَقظًا تمامًا في عالم من الخيالات الوهمية، النوم جواز سفرك إليه؛ تنظر إلى سكّانه من الأشباح ومناظره العجيبة مع إدراكك غرابتهم كما لم يحدث من قبل، ما لم ينقطع المنام.
يأتي صوت ساعة الكنيسة من بعيد خافتًا تحمله الريح بوَهنٍ. فتسأل نفسك –شبه جاد- فيما إذا كان الصوت مسروقًا، محمولًا إلى أذنك اليقظة من برجٍ رمادي يقع في محيط أحلامك. وأنت في حالة ترقّب؛ تضرب ساعة أخرى بطنينها الثقيل على البلدة النائمة بصوت صاخب مميز، مثل همهمة طويلة في الأجواء المجاورة، حتى لكأنّك تتيقن أنه قادم من برج في أقرب منعطف؛ فتحصي دقاتها؛ واحد، اثنان… وعندها يتوقف الصوت بدَقةٍ مدوّيةٍ ثالثة كأنما حوصرتْ داخل الجرس.
ولو كان باستطاعتك اختيار ساعةَ يَقظة من الليل بطوله، لاخترتَ هذه. تكون فيها قد نِلتَ ما يكفي من الراحة للتخلص من عبء إرهاق الليلة الماضية مُذ ساعة نومك المتّزنة، عند الحادية عشرة، وأمامك حتى مطلع الشمس من “كاثاي البعيدة” وشروقها على نافذتك، مدة زمنية تقارب ليلة صيفية؛ ساعة لتقضيها في التفكير وعين عقلك نصف مغلقة، وساعتان تقضيهما في أحلام سعيدة، وساعتان في متعة من أغرب المتع؛ تتمثل في نسيان شبيه بالبهجة والويل.
أما لحظة النهوض فجزء من مدة زمنية أخرى، تبدو بعيدة جدًا ومن غير المتوقع أن تبدي استياء لمفارقة السرير الدافئ إلى الهواء البارد. ولّى الأمس بين طيات الماضي، والغد لم ينبثق من المستقبل بعد. وأنت في مساحة وسيطة لا تطالها مشاغل الحياة، حيث تتباطأ اللحظة العابرة وتصبح حاضرًا؛ بقعة يظن فيها أب الزمان أنَّ لا أحد يراقبه، فيجلس على قارعة الطريق لأخذ نَفَس. وحينها يغفو تاركًا البشر يعيشون دون أن يتقدموا في العُمر!
ما زلتَ مستلقًيا حتى الآن ساكنًا تمامًا لأن أدنى حركة منك، ستبعثر أجزاء نومك. وكونك قد استيقظتَ بشكل قطعي الآن، تحدّق من خلال ستار النافذة نصف المنسدل، لترى الزجاج مزخرفًا بشظايا وهمية من الصقيع، وكل لوح زجاجي أشبه بحلم مجمّد. قد تحظى بما يكفي من الوقت لتتبين التشابه ريثما تنتظر نداء الإفطار. وترى من خلال الجزء الزجاجي الشفاف الذي لا تعلوه قمم الجبال الفضية من مشهد الصقيع، الشيء الأكثر وضوحًا وهو برج الكنيسة، البرج الأبيض الذي يوجّه بصرك إلى البريق الشتوي للقبّة الزرقاء(1). ولربما استطعتَ تمييز الأرقام على محيط الساعة التي تنبؤك عن الوقت الحالي. قد تجعلك هذه السماء الباردة والأسقف المغطاة بالثلوج، والمشهد الممتد للشارع المتجمد، المكسوّة جميعها بالبياض، والمياه البعيدة المتصلّبة كالصخور، ترتجف حتى لو كنت متدثرًا بأربع دُثر ولحاف من صوف. لكن انظر إلى ذلك النجم العظيم ذي الأشعة المميزة عن البقية، وهو يعكس ظل النافذة على السرير بصبغة أعمق من ضوء القمر، وإن لم يكن دقيق الملامح.
تنزلق لأسفل وأنت تدس رأسك بين الأرْدِيَة، مرتجفًا طوال الوقت، من أثر الفكرة العارية للجو القطبي أكثر من رجفة جسدك بفعل البرد. الجو بارد جدًا حتى إنه يمنع الأفكار عن المجازفة بالخروج. تتأمل في نعمةِ احتواء كيان كامل في السرير مثل محار في قشرته، مفعم بنشوة الركود البطيئة، غير مدركٍ لأي شيء سوى الدفء اللذيذ الذي ينعم به كما تشعر الآن مجددًا. آه! هذه الفكرة تجلب فكرة شنيعة معها. تأخذك لتفكّر كيف يرقد الموتى في أكفانهم الباردة وتوابيتهم الضيقة وقبورهم خلال فصل الشتاء الموحش، وتعجز عن إقناع خيالك بأنهم لا يتقلصون ولا يرتجفون عندما تنجرف الثلوج من فوق التلال الصغيرة، وترتطم العاصفة المريرة بأبواب قبورهم. ثم تحشد هذه الفكرة الكئيبة جمهورًا كئيبًا من الأفكار، وتلقي بحسِّها على ساعة يقظتك. في أعماقِ كلِّ قلبٍ قبرٌ وزنزانةٌ، قد ننسى وجودهما بما يعلو القلبَ من أضواء وصخب وموسيقى، وننسى أولئك المدفونين أو السجناء المخفيين فيه، ولكن أحيانًا وعند منتصف الليل تحديدًا، تُفْتَحُ هذه الأوعية المظلمة على مصراعيها. في مثل تلك الساعة عندما ينعم العقل بإدراك انفعالي، وهو مسلوب القوة النشطة حيث يكون الخيال مرآة تضفي حيوية على جميع الأفكار، مع سلبك القدرة على اختيارها أو التحكم فيها، ادعُ أن تنام أحزانك وألا يفك أخوة الندم قيودها.
في وقت متأخر جدًا، يمر قطار جنائزي بجوار سريرك تتجسد فيه العاطفة والشعور، وتبدو حيثيات العقل أطيافًا معتمة أمام العين. هناك يقبع حزنك القديم في ثياب فتاة حزينة شاحبة شبيهة “بالحب الأول”، جمالها بسحنة من حزن، مع حلاوة مكرّسة في ملامحها الكئيبة، وفضيلة تتهدّل مع ردائها المنسوج من فرو السمور. بعد ذلك يظهر طيف ذو جمال متغضن يشوب خصلات شعرها الذهبي غبرة، تكسوها ملابس لامعة قد بهتت وتشوّهت، مطأطئة الرأس تختلس إليك النظر، وكأنما تخشى التقريع والعتب: كانت أملُك الأوحد، أملًا زائفًا، سمّه الآن “خيبة أمل”. يليه صورة أكثر صرامة بجبين ذي تجاعيد ونظرة وإيماءة لسلطة حديدية، لا يمكن أن يطلق عليه اسم غير “الموت” رمزًا لسلطة الشر الذي يتحكم في مصيرك، كشيطان سلّمت له نفسك بسبب خطأ في مستهل الحياة، وقُيّدتَ له عبدًا إلى الأبد عندما أطعتَه ذات مرة. انظر إلى سماته الموسومة بالشر والمنحوتة على الظلام، وشفته الملتوية باحتقار، وتلك السخرية الناضحة من عينيه، وإصبعه المشير بها في اتجاهك لامسًا بها موضع الألم في قلبك! هل تتذكر أي تصرّف من تصرفاتك الموغلة في الحماقة مما قد تحمر خجلاً عند تذكره حتى لو كنت في أبعد كهوف الأرض غورًا؟ إذن سلّم بخزيك!
تمر الفرقة البائسة! بصورة مبشِّرة لذلك اليَقِظ على نحو بائس، إذا لم تُحط به قبيلة أشد شراسة من شياطين القلب المذنب الذي يستعر جحيمه في داخله. ماذا لو اتخذ الندم ملامح صديق مجروح؟ ماذا لو جاء عفريت في ثياب امرأة ذات جمال شاحب وسط الخطيئة والدمار، واستلقى بجانبك؟ وماذا لو وقف عند سريرك في شكل جثة أكفانها ملطخة بالدماء؟ حسبك من كابوس الروح هذا -بدون الشعور بالذنب- أن تمتزج هذه الوطأة الثقيلة للروح، وهذه الكآبة الشتوية حول القلب، وهذا الرعب الغامض المثار في العقل بعتمة الغرفة.
تحاول بجهد يائس أن تنتصب لتتحرر من نومك الواعي محدقًا حول سريرك، وكأن ليس لتلك الشياطين مكان إلا في عقلك المسكون. في اللحظة نفسها، يرسل الجمر الناعس على الموقد نورًا يضيء بخفوت الغرفة الخارجية بأكملها متسللًا من خلال باب غرفة نومك، لكنه لا يبدد عتمتها تمامًا. تبحث عيناك عن أي شيء من شأنه أن يذكرك بعالم الأحياء. تدقق بشدة في الطاولة القريبة من المدفأة، والكتاب الذي يضم سكينًا عاجيًا بين أوراقه، والرسالة المفضوضة، والقبعة والقفاز الملقى عليها. وسرعان ما يختفي الوميض، ويتلاشى معه كامل المشهد، وتبقى صورته حاضرة في عين عقلك في حين يبتلع الظلام الحقيقة. وما زالت العتمة تكتنف جميع أنحاء الغرفة كما كانت من قبل، ولكن مع غياب ذلك الجزء الكئيب في صدرك.
وبمجرد أن تلقي رأسك على الوسادة، تفكر بصوت هامس: في مثل هذه العزلة الليلية ما أروع تلك الأنفاس الصاعدة والهابطة الأكثر ليونة من تنفسك، والضمة الرقيقة من حضن أرق، والخفقان الهادئ لقلب أنقى يضفي السكينة على قلبك المضطرب، كما لو أن العاشقة النائمة تشركك في حلمها. ويطالك تأثيرها، رغم عدم وجودها إلا في تلك الصورة اللحظية. تنزلق في بقعة مزهرة على حدود النوم واليقظة، في حين تتهادى أفكارك أمامك في صور، جميعها غير متصلة، ولكنها ممتلئة بالبهجة والجمال. تتبع الأسراب الرائعة التي تتلألأ في الشمس بهجة الأطفال حول باب مدرسة تحت الظل اللامع للأشجار المسنة في زاوية ممر ريفي. تقفُ تحت مطر من أشعة شمسية في يوم صيفي، وتتجولُ بين الأشجار المشمسة في غابة خريفية، وتنظر إلى أعلى لترى سطوع أقواس قزح التي تعلو الغطاء الثلجي لذلك الجزء الأمريكي من نياجرا. يكافح عقلك بسرور بين الألق الراقص حول شاب وعروسه، وسرب من الطيور المغرِّدة في الربيع حول عشها الجديد. تشعر ببهجة تحيط بسفينة أمام نفحات الريح، وترى الأقدام الرخيمة للفتيات متوردات يرقصن رقصتهن الأخيرة في غرفة رقص رائعة، وتجد نفسك في شرفة متأنقة لمسرح مزدحم مع انسدال الستار على مشهد وضاء بهيج.
بوثبة لا إرادية، تحكمُ قبضتك على الوعي، وتثبت لنفسك أنك شبه مستيقظ عن طريق إجراء موازنة مريبة بين حياة الإنسان والساعة التي انقضت الآن. في الحالتين، تخرج من دائرة الغموض، عابرًا أطوار تغيّر لا يمكنك التحكم فيها بشكل كامل، وتنتقل إلى لغز آخر. تدوّي جلجلة الساعة البعيدة بضربات أضعف فأضعف وأنت تغوص أكثر في غيابة النوم. ناقوس الموت المؤقت. تغادر روحك، وتبتعد كمواطن حر بين شعوب العالم المظلم ذوي الملامح الغريبة، التي لا يعتليها تعجّب أو ذعر. ربما يكون الهدوء سمة الطور الأخير بدون ضجة، كما لو أنه يحدث بين أشياء مألوفة، بدخول الروح إلى موطنها الأبدي.
[1] كناية عن السماء
من المجموعة القصصية: حين يُخال لامرأة أن منزلها يحترق