ألكسندر بوشكين: «قرأتُ القرآن الكريم»
ترجمها عن الروسية: مؤمل الحطاب

اشدُدْ أزركَ، وازدرِ الخداعَ،
وسِرْ في درب الحقِّ بثبات،
وأحببِ اليتامى، وبلِّغْ قرآني
لتلك المخلوقات الراجفة.
– ألكسندر بوشكين، «محاكاة القرآن»، 1824م
قراءة القرآن الكريم، الكتاب المقدّس للمسلمين الذي أُنزل على نبيّهم محمدٍ، ليست بالأمر الهيّن. ومع ذلك، وجد ألكسندر سيركيفيتش بوشكين الوقت والعزيمة للقيام بهذه الرحلة الفكرية العميقة. ويعتقد الباحثون في الأدب أن انشغال بوشكين بالقرآن بدأ في أوديسا، حيث أقام رسميًا موظفًا في مهمة، في حين كان في الحقيقة منفيًا عن العاصمة. وفي إحدى مسوداته كتب: «في كهفٍ خفيٍّ، في يوم الاضطهاد، قرأتُ القرآن الكريم…».
ولكن أيّ نص من القرآن كان بين يديه؟
يُرجَّح أن بوشكين استخدم الترجمة الفرنسية التي أعدّها كلود سافاري سنة 1783م، وربما كانت النسخة الروسية المترجمة عن الفرنسية التي أنجزها فيريفكين ميخائيل إيفانوفيتش عام 1790م هي التي وصلت إليه في نهاية المطاف. وقد أتيح للكاتب كينادي ييغوروف (من مدينة قازان) أن يطالع هذا السفر النفيس في مكتبة جامعة قازان القديمة. مجلد سميك ذو غلاف جلدي، يضم ستمئة صفحة بحروف صغيرة، لغته مثقلة بالأساليب القديمة، ويغلب عليه الطابع الكلاسيكي. وعلى الرغم من أن المترجم لم يكن يعرف العربي فقد أصرّ على أن أسلوب القرآن هو «الأصفى والأجمل بين أساليب الكلام». وفي العصر الحديث، أكّد المترجم الإنجليزي الشهير أرثر ألبري أن «القرآن يمكنه، دون شك، أن يدّعي مكانةً بين أعظم الإنجازات الأدبية في تاريخ البشرية». فالقرآن، وهو دستورٌ أخلاقي وتشريعي للإسلام، مكتوب في أصله بلغةٍ رفيعةٍ مفعمةٍ بالسموّ الشعري.
حتى اليوم، لم يُفسِّر أحد من نقّاد بوشكين تفسيرًا مقنعًا لماذا استقرّ القرآن في نفس الشاعر وألهمه بهذا العمق. فبعد نفيه من أوديسا إلى ميخايلوفسكويه في أغسطس عام 1824م، بدأ في الشهر التالي مباشرة نظم قصيدته الشهيرة «محاكاة القرآن» (Подражание Корану). استغرق عمله على هذه القصيدة المؤلَّفة من تسعة مقاطع، نحو ثلاثة أشهر، وكان يتقدّم ببطء، إذ كُتبت أجزاؤها في مواضع متفرقة من دفتريه في أثناء العزلة. ومع أن محيطه لم يكن شرقيًّا البتة، فهو يعيش في قلب الريف الروسي الأرثوذكسي، فشغفه بالقرآن لم يخمد. ولم يكن في تلك الأنحاء من كتابٍ عربيٍّ مقدّس يمكن أن يعود إليه، لكنه كان ما يزال يحمل في ذاكرته صدى الشرق الذي عرفه في رحلاته إلى القرم والقوقاز، ذلك الشرق الروسي المدهش. وفي عزلته الريفية، ازداد ولع بوشكين بالقرآن، حتى إنه في رسالة إلى صديقه بيوتر فيازيمسكي شبَّه تنقّلاته القسرية في روسيا بهجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة، وكان يمازح أصدقاءه فيسمي مسودته «قرآنه» الخاص.
تلقّى بوشكين هذا الكتاب الشرقي الغريب تلقّيًا وجدانيًا وشعريًا، فكتب في أحد هوامشه على القصيدة قوله: «خالٍ من الفيزياء، ولكن يا له من شعرٍ جريء!». كان يرى في محمدٍ لا نبيًا فحسب، بل شاعرًا أيضًا. ولهذا، يضع النقّاد قصيدته «محاكاة القرآن» إلى جانب أعماله الكبرى ذات الطابع النبوي مثل: «زارع الحرية في الصحراء» (1823) و*«النبي»* (1826). ففي تلك المرحلة كانت تشغله فكرة رسالة الشاعر ودوره في إرشاد البشرية وتغيير مصائرها.
يرى الباحث نيكولاي ليرنر أن بوشكين قدّم في «محاكاة القرآن» «نموذجًا ساميًا من الحدس الديني والتاريخي العميق». وقد بهر شعره الموسيقي الرنّان معاصريه، ومنهم كوندراتي ريليف، أحد قادة الديسمبريين، الذي استقبل القصيدة بإعجاب شديد.
أما الشعراء الذين حاولوا تقليده في نظم أشعارٍ على غرار القرآن، فقد بدوا عاجزين عن بلوغ روحه وجلاله. ولم تتوقف النغمة الشرقية في شعر بوشكين عند هذه القصيدة، بل مهّدت الطريق لتقليدٍ أدبيٍّ طويلٍ تمثّل في حضور الإسلام في الثقافة الروسية. كتب أفانسي فيت عن سارة، حورية النبي1، وعن ابنته فاطمة، واستلهم إيفان بونين في أشعاره الغزلية صورًا ومفرداتٍ قرآنية وإنجيلية على السواء. أما نيكولاي غوميليف فقال: «كلّ ما في الوجود يسكن في الإنسان الذي يحبّ العالم ويؤمن بالله». وصرّح سيرغي يسينين، بعد زيارته لجورجيا، قائلًا: «الشعراء جميعًا من دمٍ واحد، وأنا نفسي آسيويٌّ في أفعالي وأفكاري وكلامي». أما فيليمير خليبنيكوف، الذي درس في جامعة قازان، فكان يشعر بقرابةٍ خفيةٍ بين روسيا والشرق، حتى كتب مازحًا: «إن المسلمين هم أنفسهم الروس، سوى أن عيونهم أضيق قليلًا…».
كانت تلك الأقوال تُقال في زمنٍ لم يكن يعرف بعد هذا المسخ المسمّى بالإرهاب. فالإسلام الصحيح، شأنه شأن المسيحية، يدعو إلى السلام والعدل ومساعدة المحتاجين، أي إلى أعمال الخير والمحبة. ولذلك ينبغي لنا أن نُفرّق بين الإسلام دينًا قيميًّا إنسانيًا، وبين الإسلاميّة المتطرفة وجهًا من وجوه التعصب الديني. وكما قال بوشكين في ختام المقطع الرابع من «محاكاة القرآن»:
«فلنهْرعْ نحن أيضًا إلى النور،
ولينقشعْ الضباب عن العيون».
***
يُعدّ ألكسندر سيرغييفيتش بوشكين (1799–1837) أحد أعظم رموز الأدب الروسي، وشاعرًا أحدث ثورة في اللغة والأدب بأسلوبه الفريد وموسيقاه اللغوية الآسرة. جمع بين عمق الفكر وجمال التعبير، فكان مؤسس الأدب الروسي الحديث وملهِم أجيالٍ من الأدباء بعده. تألقت في أعماله روح الحرية والعشق والوطن، فارتقت بالكلمة إلى مرتبة الفن الخالد. وما زال اسمه حتى اليوم يلمع جوهرةً في تاج الأدب العالمي.
1- لا وجود لهذه الشخصية ويبدو أن كاتب المقال قد التبس عليه الأمر أو ذكر معلومة خاطئة. المترجم.



