العهد الأزْرق: البحر كربائِد للزّمن

منى جابر 


حجم الخط-+=

صَيْفاً عِند الأصِيل ما أكثر ما كانت شمس الأبيض المتوسّط ​​-الماري ماغنوم- كالذّهبِ السّائل على شاطئ صبراتة البهيّة، هذه المدينة التي “مُنذ الأزل تتدفأ تحت شمس شمال افريقيا المتوهّجة، بسمائها الصّافية، داكنة الزّرقة وبحرها اللازوردي وفي خلفيّة آثارها المجسّدة البديعة ترقُد الأحجار الكلسيّة المُذهّبة، رائعة من روائع قُرون خلت”. كما أشادت بها أغنس نيوتن كيث في مذكّراتها: “أهل الله” مسترسلة في سردٍ بديع: “إطلالة شَواطئها على هذا البحر الشّاسع حيث يتعالى هدير الأمْواج الرّغويّة وهي تتكسّر على ما كانت في الماضي ملاذاً لكل من أنهكه التّرحال، وحيث تمنح الرّمال الصّفراء دفئها لشِبَاك الصّيّادين ولمخاطيفهم، وأشجار السّرو ظلالها للعابرين والمتعبين، وجُدرانها العتيقة أمانها لكل من يخطو بقدمه نحو عتباتها، كل الحيويّة تُحيط بك وأنتَ هناك وكأنّ آثارها تعجّ ببشر أحياء -ربّما هي كذلك- فالمدينة العتيقة تتخلّى تماماً عن أي رُوح شرّيرة لساكنيها القُدامى، فتبدو أرواحهم الغافية أكثر سعادة تحت شمسها. لن تموت مدينة أبداً وشواطئها تُلامس بحراً يربطها بشواطئ أخرى تنبضُ بالحياة.”

“عَتيقة هي المُحيطات، قديمة قِدم الجبال، محمّلة أعماقها بذكريات وأحلام الزّمن، الزّمن الذي مضى، والزّمن الذي لا يمضي” – هوارد فيليبس لافكرافت.

جسداً كنتُ هُناك، لكنّ ذهني في مكانٍ آخر، أعمق وأبرد، مكان يتّسع لكلّ هذه التأملات والتّساؤلات التي تحوم حولي كنوارِس جائعة لا تشبع. جلستُ على الرّمال الدّافئة الجافة، وأحجار الآثار الرومانيّة المكسورة والمنثورة -كالرّبائد الهشّة- خلفي مباشرةً. كان أبنائي -حقا- رموزًا للبهجة في لوحة لازوردية لا متناهية لا تجفّ ألوانها أبداً، وابنتي، ذات السّت سنوات -في تلك اللحظة- كانت الفيلسوفة المثالية، تسبقها الأسئلة، مانحة خطواتها شيء من العجلة: “عجلة إنسان يستعجل كشف غطاء القدر”، وعقلها شيء من التأنّي: ومضة خاطفة بين تَفكّر وتدبّر لتتعلّم الحكمة من هذا التّأن.

كم عُمر البحر؟” تسألني وهي تقف على حافّة الماء، ناظرة بعينيها السّوداوين إلى العين الزّرقاء الدّامعة أمامها، التحديق إلى الأفق دون أن يرفّ لها جفن خوف أن تفيض، مُحوّلة أرشيف لافكرافت القديم إلى سؤال واحد لا إجابة له. تُقاطعني قبل أن أجيب: “هل جفّ البحر يومًا؟ بخوف يضفي ارتياحاً حاداً على ثبات الزّمن. وهل يكون بحراً دون ماء؟” ثمّ تعود لتلهو بالرّمل والصّدف، وتُضيف على عجلٍ: هل حقاً أنّ للماء ذاكرة؟ متذكّرة مشهداً مثيراً من أحد أفلامها المفضّلة: ملكة الثّلج، ثمّ: أيْن نهايته؟ متحدّية مفهوم الرّغبة اللا محدودة والأرض غير المرسومة، يجبرها سؤالها البريء على التّفكّر في النّهايات كحقيقة حتميّة لا مفر منها. يخترق صوتُها الكثافةَ الفلسفيّة لعالم الكبار بدهشة وببراءة خالصة، تترجم مباشرة الأسئلة العاديّة إلى لغة ملموسة وعاطفيّة ليصبح البحر بعينيها وحياً شخصياً حياً، يدفعني أنا أيضاً لمواجهة الأسئلة الأبديّة ذاتها، حول الزّمن والحدود والقيمة والذّاكرة قبل أن أبدأ الغوص في عوالمي.

تساؤلاتها البسيطة، التي طرحتْها بين قُصور الرّمال وهي مُنشغلة في البحث عن اللآلئ والأصْداف، اختزلت ثِقل التّاريخ في لحظةٍ واحدة، لا حدود لها. كانت هي ذات الأسئلة التي لا تزال على قيْد التّقصّي والتي دفعت البحّارة والملّاحين والشّعراء لسبر أغوار المُحيط الأزرق على مرّ العصور دُون جدوى. شاهدتُ الأمواج وهي تنحسر، موجة إثر موجة تحملُ حصوات صغيرة منسية، ما أن تصل إلى الشّاطئ حتى يتذكّرها الموْج مرّة أخرى ليأخذها معه ثانية في رحلة حيث الأزرق المجهول، وسمعت همسًا قديمًا في الزّبد السرعان ما يتلاشى: “البحر، عين زرقاء واسعة، تحدّق إلى الفراغ”، لكنّي لا أتّفق مع د. هـ. لورانس في هذا، إذ لا أراه إلّا كمُستودع عميقّ وهامس للرّوح؛ اتسّاعه يثير في الرّهبة، وعواصفه تمثّل لي أعنف الاضّطرابات، وأعماقه تجسّد زوايا عوالمنا الدّاخلية المجهولة التي لا يُسبر غورها بسهولة. يحمل هذا السّطح الأزرق العاكس حمولة الزّمن لكل مساعي الإنسان، مُستوعباً في آن واحد كل ذكرى من الماضي وكل أمل في الآتي. هذا البحر، كما عرفتُ منذ طفولتي -وأنا ابنته- لم يكن مجرّد ماء ورمل، بل ذلك الشّاهد الصّادق على روح الصّبراتيّين الصّابرين الذين قطنوها -عبر العصور- منذ الأزل.

في غوصهم الصّامت بحثًا عن اللؤلؤة يتدرّب الصِّبية على الغوْص بتشاغبٍ وتنافس، يحبسان أنفاسهما ويغطسان في البحر المرّة تلو الأخرى، كان عليّا في كلّ مرّة أن أحسِب عدد الثّواني التي يقضيانها داخل الماء. 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7… بعد كل محاولة يزداد عدد الثّواني وهما في أحضان الأزرق اللازوردي، ويزدادان هما صبراً في حبس أنفاسهما، أمّا أنا فأزداد تأمّلاً في الحياة، وفي الزّمن، وفي هذه الهوّة الزّرقاء العميقة التي نسمّيها مُحيط ولم نُحط بعد بجزء من أسراره وخباياه، ولأنّ كل رحلة إلى أرشيف الزّمن وفيه دائمًا ما تبدأ من الدّاخل فإنّ أسئلة ابنتي تبدو كخطوة أولى لهذه الرّحلة: “لماذا البحر أزرق؟” أجبرني هذا على تأمّل لوْنه كصبغة للذاكرة المُثقلة والذّكريات المتراكمة التي تزخم بها أعماقه، كما كان له معنى ثانوي في مخيّلتي: ما سرُّ الرّوح ولماذا أعماقها غامضة إلى هذا الحد؟ وكم نستغرق من الوقت كي نسبر غوراً واحداً من أغوارها السّبعة وكأنّها السّماوات لكنّها في بواطن النّفس إذ يلعب البحر الدّور الأصدق وأكثرها حميميّة وتعبيراً، وهو دور موازٍ لحياة القلب والرّوح -الضّارية- الخفيّة.

فكرتُ في تشبيه فنسنت فان جوخ: “قلب الإنسان يشبه البحر كثيرًا، له عواصفه، وله مدّه، وفي أعماقه لآلئه أيضًا”. اللؤلؤة -ذلك الجوهر البلّوري لقيمة الذّات- تختبئ هناك حيث العتمة، حيث لا يُوجد نورٌ ولا شمسٌ إلّا ذاك الضّوء المتكسّر على السّطح ولا يكاد يصل إليها، تقبع صامتة في سكون النّيلي، المُتشكّل تحت الضّغط الهائل من الضّيق والكتمان. الزّرقة المتكثّفة إثر خفوت الضّوء أو انعدامه هي صبغة الذّاكرة المحتشدة هكذا يفسّر معناها جسد المحارة المُتكوّر في ذاته في أعماق البحر إزاء عمليّة الخلق البطيئة والمُتحدّية في مواجهة الدّخيل المُربك لسكونها.

كان الهواء حاداً بعض الشّيء، حمل في طياته طعم الملح والفقد والبُعد، فكرة النّزول في الماء البارد ستنزع فورًا فورة سطح العقل المُدفأ بأشعة الشمس، تاركًا فقط صوت الأمواج الأجش المُلِّح، ففي هذه المساحة الحسيّة، تتجلى الذات الحقيقية، استوعب هيرمان ملفيل هذا الخوف البدائي، واصفًا البحر بأنه “أرض أبدية مجهولة”، تعكس الهَوس والجنون في قلب الإنسان. طبيعة البحار المدمّرة واللا مبالية هي تذكير صريح بأن الرّحلة إلى الدّاخل حقيقية على نحوٍ مُرعب، لأنّ الانتقال من اللازوردي المتلألئ بنور الشّمس إلى النّيلي القاتم في الأعماق هي استعارة صريحة لنزول الرّوح الضّروري، حيث يُستبدل الضّوء السّطحي بجاذبيّة الحقيقة العميقة لإيجاد قيمتنا الجوهريَّة وحقيقتنا العاطفيّة على الرّغم من تقلّباتنا المزاجيّة بين الحين والآخر.

تنغمر أجساد الصّبية مرّة أخرى تحت الماء 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14… أستمرّ أنا في عدّي وعدوي مع أفكاري التي تتلاطم كالموج في عقلٍ لا يكفّ عن التّفكير، يلفتان انتباهي إلى شيء آخر: في لحظة الغوص في أعماق الذّات ما الذي نبحث عنه حقاً؟ إذ أحياناً قد يرى الإنسان ما لا يودّ رؤيته: خوفه، ماضيه، ذكرى فشله وخيباته، وظلُّ الإنسان الذي ودّ أن يكونه ولم يكنه، ما الذي نبحث عنه على وجه اليقين، إذا كان ما نبحث عنه هو ذاته سيكون مصدراً لخوفين: الخوف من وجوده والخوف من فقدانه. يطول الزّمن هذه المرّة. يبدو أنّ الولدان تعلّما أخيراً كيف يغوصان في العُمق وكيف يبحث كلّ منهما عن لؤلؤته المفقودة بعيداً عن الآخر. كلّ منّا يبحث عن هذه الحكمة في العزلة، ليعيشها ويتعايش معها، بل وليجد ملاذه فيها لكنّنا في النّهاية سنستوحش وسنشتاق، نشتاق للحظة مكاشفة مع الآخر المتفهّم، لحظة نختبر فيها انسانيّتنا مع هذا الآخر بكل صدق دون أحكام أو ندم أو حتى خوف. كتبت آن مورو ليندبيرغ عن “إعادة تعلم الوحدة، وعن الحاجة المُلحّة إلى الصّمت عندما يتوقف الضّجيج بالخارج فتبدأ موسيقانا الداخلية الهادئة أحياناً وصاخبة في أحايين كثيرة بالعزف على أوتار الحنين أو قارعة طبول الذكرى”. لكنّ النّزول مُخيف كما تعترف. تقبّلت أناييس نين هذا الأمر قائلةً: “لا بد أنني حُورية بحر إذ أجدني لا أخشى الأعماق، بل أخشى بشدة الحياة على السّطح”. ومع ذلك، لا يمكنك -أنت الغوّاص في أعماق النّفس- الوُثوق بما قد تجده هناك. تذكرتُ الهشاشة والشّك الذّاتي الثّاقب الذي عبّرت عنه إيريس مردوخ: “نحن مخلوقات نميل إلى السّرية في أعماقنا، ومعظم ما نعتقد أننا نعرفه عن عقولنا وقلوبنا هو معرفة زائفة. كلنا مُدّعون صادمون وصامدون”. إنّ العثور على اللؤلؤة، إذًا، ليس مجرد غوص للبّحث عن الكنز، بل هو مواجهة مُرعبة مع ما نخدع به أنفسنا.

“أتأمّل سطح البحر،

لم يعكس شيئًا سوى وجهي،

وحولي وجوهٌ لا أثر لها، صدى يتلاشى في الصّمت؛

يقف الوجود بين الرّؤيا والرّؤية،

وعين حالي  تبحث عن نظرات

خلف مائها المِلح،

كأنني في تأمّلي أسأل وأُجيب،

أنا السّؤال، وأنا الظّل الذي يذوب في الهوّة السّحيقة للبحر”.

ماذا بعد تلك البُرهة الممتدّة من الغوْص في أعماق النّفس، أو بعد ذاك الزّمن الطّويل في التّأمّل في أسرار الكوْن، هل سيتوقّف السّطح عن أن يعكِس صُورة العالم، مقدمًا فقط حقيقة عميقة وحيدة حين تقف تلك النّظرة الجوّانيّة بين قوتين هائلتين: انعكاس السّطح، حيث لا يرى المرء سوى وجهه؛ والصّمت المحيط الذي يواجه العدم والفراغ، حيث يغيب المعنى السّطحي، واليقين الوحيد الذي يتجلّى لحظتها هو الذات العارفة والقائمة بذاتها، فيبقى ذاك المجهول المطلق هو مصدر الغموض الهائل، تلك الرّهبة الآسرة التي يشعر بها المرء عند مواجهة لا حدود لها مع الوجود نفسه. هذا السّرد الذي يأتي من الدّاخل بإيقاعه المتناغم هو ما جسّدته فرجينيا وولف في “الأمواج”، حيث يتدفق تيّار وعي الرّوح وينكسر، عاكساً رقصتيّ المد والجزر: “يا لهذه السّرعة التي يجري فيها التّيّار -إنّنا ننجرف بسهولة بدفق الأشيَاء التي تُصبح مألوفة إلى درجة أنّها لا تلقي أيّ ظِل، إنّنا نطفو في الدّاخل فحسب”.

تزيّن طفلتي قصرها الرّملي بالأصداف، تختارها بعناية، أراقب طريقتها في البحث، تقلّب الأصداف مرّتين أو ثلاثا قبل أن تضعها على قُبّة القصر. أرى لمستها وذوقها هُناك على الرّمل وعلى قلاعها الموزّعة على الشّاطئ، في الألوان وطريقتها في بناء قصرها الذي سيزول قريباً ما أن يقترب الموج من الشّاطئ، لكنّ الذّكرى سوف تبقى محفورة في قلبها الطّفل وستعود إليها في كل لحظة حنين. الحنين هذه التيّارات المتلاطمة من المصائر المشتركة بين ما هو ماضٍ وبين ما هو في الآن وبين الآتي، البعيد، البعيد جداً عن الآن.

“الرُّوح لَيْست دَائِماً حِليَة مَاِسيّة، فهيَ أحياناً تَكون كحجابٍ شفَّاف مِن الحَرِير، وأَيُّ شَيْءٍ يُمكِن أن يمزِّقه، حَتى نَظْرة” – ألسَّاندرو باريكُّو.

إذا كانت الرّوح -الوحيدة الفريدة بذاتها- وعاءً معزولًا كسفينٍ في عرَض البحر، فإن إنسانيّتنا المشتركة هي المحيط الشّاسع، كان باوليني مُحقًا عندما قال إن البحر هو تجسيد للعاطفة- سطحهُ هادئ في لحظة، وتسونامي تكتوني في اللحظة التالية. لا تستطيع حتى التكهّن بمزاجه. هذه السّيولة هي الحقيقة الخام والصّعبة والمعقّد فهمها لارتباطاتنا، إذ نحن أيضاً، كالجُزر في البحر، مُنفصلون على السّطح ومتصلون في الأعماق. هذه الرّابطة في كثير من الأحيان لا تبدو لنا مُريحةً، غالبًا ما تكون جُرح الوجود المشترك والعميق بيننا، شيئاً يُشبه ما أدركه قوْم المارستال جيدًا في ملحمة كارستن جنسن المُظلمة والجَارفة، “نحن؛ الغرقى” إذ يروي ضَمير “نحن” قصّة أجيال ضَاعت داخِل بحرٍ جائع لا يشبع. كان مصيرهم هو رابطتهم. يتذكر الرّاوي “عندما نودّع بعضنا بعضا على المرفأ، تغرس الأُم سكينًا في قلوبنا، ونحن بدورنا نغرس سكيناً في قلبها عندما نرحل تاركين الشّاطئ متّجهين نحو المجهول، وهكذا نتواصل، من خلال هذا الألم الذي نلحقه ببعضنا إزاء هذا الرّحيل، الألم ذاته يبقينا على قيد الحياة إلى لقاء آخر، ثمّ وداع آخر فلقاء”.

ولأنّنا “لا نُبحر لأنّ البحر موْجود؛ نُبحر لأنّ هُناك دائماً ميناء. مرفأ نتوجّهُ إليه حين تشتدّ العاصفة، وفي شريعة البحر وحكمته: لا تقصدُ الشّواطئ البعيدة قبل أن تأمن المرفأ”.

ما من روح تُبحر في سماء زرقاء رحبة بلا عودة. القلب، مهما بلغت استقلاليته يتوق إلى مرساة، إلى ملاذ. هذه هي الحقيقة الوحيدة العميقة والرّاسخة: “لا نبحر لأن البحر هُناك، رأْي العين، بل نُبحر لأنّ هُناك ميناء بعد كل مغامرة ومجازفة نخوضها شاقّين عرَض البحر، والتي لا نبدأها قبل أن نلمس الأمان على شاطئ ما”. هذه هي الحكمة الوحيدة التي تُبرهن على صدق الرّحلة بوعد المرفأ، وضوْء المنارة، واحتفاء الوجوه التي يألفها القلب قبل العين. شجاعة مواجهة “المحيط الغاضب، البحر الهائج، والموج العاتي وصخبه”، لا تُتاح إلا لأن ذكرى البيت الوطن -والتي قد لا تكون مكاناً- تبقى نقطة ثابتة لا تتزعزع في الأفق، ضرورة تُحوّل البقاء على قيد الحياة إلى رحلة ذات معنى. مواجهة هذا المصير الواحد تتطلب أكثر من مُجرّد أمل، إنها تتطلّب منّا بذل قُصارى جُهودنا في مُثابرة يوميّة شرسة من أجل البقاء والاستمراريّة، أو كما يسمّيها اليابانيون “غانبات” ذاك الاسْتغراق المقصود في التّفاصيل الصّغيرة للحياة دون النّظر أو التّفكير فيما قد يأتي أو لا يأتي، مثل الشّخصيات الصّغيرة التي رسمها هوكوساي في لوحاته انتقاماً لغرقه في الزّرقة الأبديّة للفن، وهي تجدّف بقوّة في تجعيدات الموْجة الوحشيّة العظيمة، مستخلصاً أنّه: لا يمكننا دائماً التّغلب على الفوضى، بل كل ما يسعنا هو التّكيف مَعها. صراعتنا اليوميّة، مثل الإبحار، لا يمكن التّنبؤ بها أبدًا. انتبهت لحكمة آلان واتس الآن “أنت نتاج ما يفعله الكوْن بأكمله، تماماً كما أن الموْجة نتاج ما يفعله البحر والمُحيط بأكمله”. أحياناً يتحتّم علينا أن نحوّل أنفسنا إلى موْجة في كلّ مرّة تجتاحنا فوضى المشاعر أو تجرفُنا زوْبعة الهُموم في تيّاراتها التي لا تنتهي.

“البحر يسحر، البحر يقتل، يُحرّك، يُروّع، وكذلك يُضحك أحياناً، ومن حين لآخر يتوارى، يتنّكر في هيئة بُحيرة، أو يُنشئ عواصِف، يلتقُم سُفناً، يهبُ ثَروات، لا يُعطي جواباً، حكيمٌ، لطيفٌ، قادرٌ، وعصيّ على كل نُبوءَة. لكن فوق كُل شيْء: البحر يُنادي؛ إنّه لا يفعل شيئاً، في النّهاية، سوى هذا: النّداء.” – ألسَّاندرو باريكُّو.

نجلسُ الآن في هدأة الأصيل، قبالة البحر، جميعنا مستغرقٌ في عالمه: أكبرهم يرسم خطوطاً وأشكالاً على الرّمل، حروف وكلمات يعرف أنّ الموْج سيجرفها معه في لحظة اقتراب، أوسطهم يفكّر في الأحجية التي لم تكتمل بعد: “بحر ساتا” لهيروشيغي، كلّما أوشكنا على النّهاية تبعثرت القِطع مرّة أخرى كما يبعثرُ الموج الزّبد، والصّغرى مُنشغلة مع دلوها المملوء بالأصداف، أمّا أنا فكنت أتأمّلهم جميعاً داخل لوْحة صامتة: البحر والأطفال، الرّمل والموج، الرّسم والكلمات، التي ستظلّ مُحايدة حتى يميل بها السّياق إلى فكرٍ مُتفهّم فيدفع بها بدوره إلى خلق دلالات مُختلفة بين وضوح وغموض، قسوة ولين؛ كلمات تعكسُ ذاتها في الآخر، وتعكس ذات الآخر في ذواتنا كالبحر تماماً.

“أيُوجِعك البحر؟

تُوجعني الرّوح والزُّرقَةُ والموْجة الشّاردة”.

أعود لأوّل الغوْص، إذ أبداً سيكون البحر مرآة للرّوح، يعكسُ أهدأ لحظاتنا وأكثر صراعاتنا اضطرابًا. إنه صُورة لجمال لا حدود له، لكنّها في الوقت نفسه صورة ترتكز على قوّة عريقة لا هوادة فيها. الوقوف على الشّاطئ هو معاينة لحجم الطّبيعة الهائل، قوّة شكّلت القارّات وصمدت أمام قِوى الزّمن. هذه العلاقة الأصِيلة بيننا وبين البحر، هي ما يُحدد قيمته، بعيدًا عن الجماليات المجرّدة، فالبحّار يرى “أنّ هبة البحر الوحيدة هي الضّربات القاسية، وأحيانًا مواجهة العواصف الضّارية ما هي إلا فرصة للشّعور بالقوة”. فالمياه الشّاسعة المتلاطمة وركوب عُباب الأمواج تسلِب المرء مُتع الحياة، تاركةً إياه عُرضةً لعوامل الطبيعة، تُجبره قسراً على مواجهة حدوده الجسديّة والعقليّة، مُختبرة شجاعته.

“الغوْص في أعماقنا أشبهُ بالإبحار. يمكنك التعرّف على الغُيوم واتّجاهات الرّياح والتّيارات، لكن البحر يبقى دائمًا مُتقلبًا كما النّفس. كل ما علينا فعله هو التّكيّف معه ومحاولة العودة إلى الدّيار بسلام”.

لم أجد درساً حقيقياً يعلمه البحر أكثر من المواجهة، مُؤكدًا على الفرق بين امتلاك القوّة وبين الشعور بها حقاً، في مشهد تأملي من “إلى البرّيّة” يقول  كريستوفر: “أهمية أن تكون شجاعاً في الحياة، ليس بالضّرورة أن تمتلك القوة بل أن تتجرأ وتجرّب ولو مرة واحدة إلى أي مدى تصل بك هذه الشّجاعة”. كأن يُصبح البحر ميدان اختبار، وضرورةً للاعتماد على النّفس، وفعلًا حاسمًا في قياس مدى هشاشة الذّات أمام المعوقات والعقبات، لحظة تضع فيها نفسك في أقدم الظّروف البشريّة مع الطّبيعة ولا شيء يُعينك سوى يديك وعقلك”. هأنذا أصدّقهم حين يقولون: “لا تكمُن حكمة البحر الحقيقيّة في محاولة التّحكم في الموج وتيّاراته، بل في التّكيّف مع الأمواج، إذ مهما بلغ البحّار من العلم عن السّحب والرّياح وحركاتها، سريعها وبطيئها، يعلم في قرارة نفسه أن البحر لا يزال شيئاً غامضاً ولا يمكن التنبؤ به، وكذا أغوار النّفس البشرية. فالبحر، إذًا، ليس مجرد مكان، هو استعارة للحياة، وكل ما يحدث على السّطح وما يكمن في العُمق هو اختبار، إذ لا تكمن القيمة القُصوى لهذه الاستعارة في الموارد أو الآفاق اللامتناهية، بل في القوة الداخلية التي تتطلّبها والمعرفة الذّاتية العميقة التي تمنحها لمن يجرؤ على مواجهة هذا الحضور القاس.

ولأنّ طبيعة البحر لا محدودة، ولأنّ لحريّته قيمة غير قابلة للاختزال، ما أكثر ما تبدو غير مُبالية بروح الإنسان الضّعيف الذي يُحاول جاهداً ركوبه وسبر أغواره، لكنّها -هذه الطّبيعة- على نحو متناقض، تجعله أعظم رمز للحريّة غير المشروطة. فالماء الذي يعكسُ وجه الغيم والسّماء يُنفي كل ما هو مادّي: الجدران، والأقفال، والحدود، ويؤكّد فقط ما هو روحي. إنّ مُجرّد رُؤية الأفق الشّاسع -بلا أسوار ولا حرّاس- تُصبح أساس كل تقدير للذّات التي تتُوق لأن تكون حُرّة، وهذا الإدراك العظيم هو أن مساعي الحياة مهما كانت عظمتها لا معنى لها دون هذه الحريّة اللا محدودة التي نشهدها لحظة وقوفنا على الشّاطئ. تقول أغنس نيوتن كيث: “حُريّة عيناي في تأمّل وجه البحر والغرق في أعماقه، في النّظر للسّماء والغيوم، التّأمّل في تلك الزُّرقة بين الأفق والبحر، دون غِشاوة تحجب رؤيتي، وحرّية جسدي وأنا أسابق الرّيح دون أن يوقفني شيء، فرصة لاكتساب المعرفة التي تُبقيني شجاعًة وقويًّة. القدرة على النّظر كل يوم إلى شمس جديدة دون أن أسأل: كم مرةً أخرى يجب أن يشرق عليّ هذا الجمال؟ لا ينبغي لأي أحد كان أن يتخلّى عن هذه الحُقوق ولو مُنحت له حياة أخرى. قد تكون في الحياة أكثر من هذه الأشياء، لكن لا حياة بدونها.” 

أغمر يدي في البحر وكأنّه صندوقُ بريد عظيم، جريانه اللا محدود شهادة على أن كل أحلامنا وأسرارنا، بمجرّد دفنها في البحر، تبقى محفوظة إلى الأبد، مؤرشفة على طريقة الرّسائل والقوارير القديمة، ملقيّة هناك في عرض البحر تسبح وحيدة أو ربّما تغرق وحيدة بعد لحظة يائسة من إثبات ذاتها على اليابسة، وحدها تتحدّى تيّار الزّمن، وتلجأ إلى المحيط ليحمل حمولتها من الذّكريات. البحار مملوءة بالتّاريخ، نعم، لكنّه ليس تاريخ ربائد الإنسان الماديّة الهشّة والمكسُورة، إنه يحمل دفترًا أبديًا فريداً، حيث لا يطفو شيء حقًا سوى الذّكريات المقدسة. كل رحلة وكل دعاء يهمس به تيّاره، وكل سفينة مفقودة رسالة، وكل حلم عابر بشاطئ جديد بيت شِعر، لكأنّه المُستودع الواسع، “الدّفتر الحي الذي لا يموت” الذي وصفه سان جون بيرس، مكتوبًا ليس بالحبر، بل بشوق القلب وبلحظات الحنين. تأكّدت الآن، أنّه أحياناً، لا يأتي التّعبير الذي يؤكّد على القُّوّة المجازية للبحر من الشّعراء أو الفلاسفة، بل من لحظات تأمّل شخصي هادئ على ضفافه. تأمّل شاطئ صبراتة، هذا الأرشيف العظيم للذّاكرة برماله المُتحرّكة كحركة الزّمن حيث ترتطم أمواج البحر الأبيض المتوسط اللازوردي بآثارها المتناثرة، وأحجار مسرحها الرّوماني وجدرانه المتشقّقة التتحدّى المواسم. هُنا، يتجلّى سجل تاريخها في طبقات: الأطلال -أرشيف عتيق لطموحات الإنسان- تقف حارسة على البحر، والأبيض المتوسّط ذاته مستودعًا أبديًا سائلًا يُجاري عُبور الزّمن.

أشاهد لحظاتي الزّائلة -ضحكات أطفالي، وكيف التقطَ الأفق البعيد رذاذ الأمواج- تُحوّل فورًا إلى ذلك المستودع الأبدي وصوتٌ في الدّاخل يموج بي: “الزّمن، كالبحر، يحل كل عقدة”. بدأ ضوء الشّمس ينحسر، قرصها يهبط بطيئاً فوق الآثار والرّسوم السيبقى “رسمُها في القلب غير دَثور”. يعبث الضّوء بالزّبد، مُشكّلًا قوس قزح خافت متلألئ. “الرّاحلون -الغرقى- لم يغيبوا أبدًا، لقد انغمسوا في رُوح البحر والمدينة.” بدت رحلة الغوْص في الأعماق التي لا تُسبر أغوارها مثل رحلة حقيقية داخل زُرقة الرّوح ذاتها وقُبول مصيرها واحتضان ماضيها الذي يُعرّفنا بها، فما هو إلا امتداد لما نحن عليه وما سنؤول إليه كفعل أخير للاستسلام. نتعلم أن نعيش ليس فقط جنبًا إلى جنب مع الماضي والذّكريات، بل في الدّاخل جداً، في أعماقهما، مدركين أنه في هدير الأمواج، نبقى دائمًا على اتّصال بمن سبقونا، وكأنّنا التّيار والعودة، قمّة الموْج والزّبد، نحن المدّ والجَزر، نحمل الأرواح الصّامتة لكلّ من تجرأ على الإبحار فاغترب ولم يعُد، واعين أنّ الحكمة الأخيرة هي ألّا نحارب العُمق، بل أن نُصغي إلى الإيقاع، ففي نبضِ البحر الأبيض هذا، نُدرك صوت انتمائنا الهادئ.

ها قد غربت الشّمس؛ انعكاس الشّفق الآن على الجدران العتيقة يؤطِّر لحظة نهاية مفتوحة على الغد، فدفتر البحر يبقى أبداً متاحاً لبدايات أخرى مع مدّ الموج وجزَره، ينتظر فقط سؤال آخر، ألمحه  في عيون الطّفل الواقف على حافة الماء في صمت يليق بهذه اللحظة الخالدة: هل سنكمل الأحجية؟

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى