بوشكين والبريكان: تلاقي أرواح القصائد في فضاء الشعر
مؤمل الحطاب

في فضاء الشعر اللا متناهي، حيث تتلاشى الحدود وتختلط الأصوات، يُصبح الشعر عالماً خفياً يساهم في تواصل الأرواح الشعرية. لا تُقاس المسافات هنا بالخرائط، ولا تُوزن التجارب بكفة التاريخ، بل بعمق الهمّ وصدق النبرة النابعة من الألم الحقيقي. من هذا العالم الخفي، يتجلى لقاءٌ روحيّ بين قصيدتين، يتجاوز الزمان والمكان، بين قامة شعرية روسية شامخة، أمير الشعراء ألكسندر بوشكين، وناسك الشعر العراقي، محمود البريكان.
وُلد بوشكين تحت صقيع موسكو، في حين أبصر البريكان النور تحت شمس البصرة اللاهبة في مدينة الزبير. لا يجمعهما سياق تاريخي مباشر، فهذه ليست دراسة مقارنة، بل تلاقٍ روحي في نبرة شعرية حوارية متخيلة. كأنما اتفقا على سؤال وجودي عظيم: ما الذي يتبقى لنا من الحياة حين يخبو المعنى؟
كتب بوشكين، الذي أغاظ السلطة، والبريكان، الذي لم يصمت، وكأن أحدهما يصرخ من قاع سحيق. ومع ذلك، انتهت حياة كليهما برصاصة وحيدة: رصاصة شرف اخترقت صدر بوشكين في مبارزة عام 1837، ورصاصة غدر أنهت حياة البريكان في بيته عام 2002. وكأنهما وُلدا في لحظتين متباعدتين، لكن الموت جمعهما كقصيدتين تُختتم كل واحدة بسكون موجع، تاركين إرثاً شعرياً خالداً يصدح بأسئلة الوجود الإنساني في كل زمان ومكان.
في عالم الشعر، لا تموت القصيدة. فإن لم تُخط بالمداد، كُتبت بالصمت. وإن لم تُسمع، استقرت في أعماق الأرواح الهائمة. وفي قصيدتين تفصل بينهما قرون من التحولات والعزلة، يظهر ما يشبه سؤالاً وجواباً، كأن الزمن قد أدار ظهره لفراقهم، تاركاً الشعر وحده لينفض عن هذا الحوار ما بدأه النسيان.
في أحد مواسم الشتاء الروسي البارد، كتب بوشكين وقد انطفأت فيه جذوة الحياة: «قد انقضت رغباتي، ولم تعد أحلامي محبَّبة لي». ومن البصرة، جاء صوت البريكان إليه من عزلة أخرى: «ماذا تقول أنتَ في هدوئك الأليم… للأفق المدور المغلق؟». ومن هنا، يولد حوارهما الشعري.
قصيدة بوشكين
قد انقضت رغباتي
ولم تعد أحلامي محبَّبة لي
لم يبقَ لي غير آلامي هذه،
ثمار فراغ قلب قاحل
في عواصف قدر لا يرحم
ذوى أكليلي المزهر،
وهأنذا أعيش وحدتي وكآبتي،
منتظرًا..
متى تراني أموت؟
هكذا هي ورقة الشجر المتخلِّفة
في صفير الزوبعة الشتوية
وحيدة، مهزومة تقف
مرتعشة فوق غصنها المتعرّي.
*
قصيدة البريكان
ماذا تقول أنت في هدوئك الأليم
للأفق المدور المغلق؟ والشعاع؟
ألم تكن يومًا
طفلًا جميل السر لا يحاكم البشر؟
ألم تكن يومًا
تهرع للشمس وتشتاق القمر؟
من أين جاءت هذه الوحشة في قلبك؟
كيف تلاشى الدهر عن رؤيا بلا ألوان؟
وأين ترجو أن تلاقي أيها الإنسان
ما ضاع من نفسك؟
لا يجمعهما رابط منطقي، لكن شيئاً أعمق ينسج خيوط التوازي بين تجربتيهما. كلاهما ذاق مرارة التناقض بين ذات تتوق إلى الحياة، وعالم يتفنن في العبث. كلاهما وقف طويلاً أمام سؤال لا يُجاب: ما جدوى أن تكتب؟ ما جدوى أن تصرخ في عالم لا يصغي؟ فلا عجب أن يلتقي بوشكين والبريكان في مشهد لا تلتقطه عدسات التاريخ، بل تلتقطه بصيرة من يقرأ الشعر لا كلماتٍ، بل نداءً قديما قادما من أعوام مضت.
تقاطعت تجربتهما في نقطة واحدة “الاغتراب”. اغتراب في اللغة، وفي الزمن، وفي الوطن، وحتى في الذات. فبوشكين، رغم سطوع اسمه، بقي غريباً في بيئة لم تفهم تمرده. والبريكان، رغم عمق تجربته، اختار العزلة حتى آخر لحظة، وكأنه لم يُخلق ليُرى، بل ليُقرأ من وراء الجدار.
وهكذا، يلتقيان قصيدتين، لا في ديوان شعري، ولا في سجلات النقاد، بل في تلك المساحة السرية من المخيلة البشرية التي تدرك تماماً معنى أن تكون شاعراً في عالم مجهول. هذا اللقاء ليس صدفة، بل هو ضرورة، لأن الشعر في جوهره لا يلتزم بالتواريخ، بل بالحقائق الوجدانية. والشاعر الحق، وإن مات، لا يغادر، بل ينتقل إلى عوالم أخرى ليكمل قصيدته في قلوب قرائه.
يُجيب البريكانُ بوشكين ويعيد عليه التساؤلات في شكل مواساة، سواء كان بوشكين يكتب على ضوء شمعة في كوخ، أو كان البريكان يتأمل الأفق من غرفة مظلمة في البصرة، فإن ما يجمعهما ليس القصيدة فقط، بل القلق ذاته، والحيرة ذاتها، والبحث ذاته. الشعر، إذًا، هو الجسر الذي لم تنقطع خطواتهما عليه، وهو اللقاء الذي تجاوز المدن والعواصم والزمان. لم يلتقِ بوشكين والبريكان في الحياة، لكن قصيدتيهما التقتا، وها نحن أولاء اليوم نصغي إليهما وهما يتحدثان، كل بلغته، ولكن بذات الحنين.