هز القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف – يوسف بن محمد الشربيني

مؤمن الوزان


حجم الخط-+=

وقد يُحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتعَ بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جدًا قد تكون أطيبَ من النادرةِ الحارة جدًا. الجاحظ

بعد أن أمضيتُ شوطًا طويلًا في القراءة تبيَّن لي جليًّا أنَّ الأدب الساخر الحقيقي هو الأدب الذي لا تتميَّزُ فيه إلا القلة النادرة، ولعلَّ أمةً من الأمم تُخرجُ عشرات الأدباء العظام لكنها في ذات الحين لا تُخرجُ أديبًا ساخرًا عظيمًا واحدًا، فالسخرية ليست موهبةً وأسلوبًا حسبُ بل ومقدرة إبداعيّة عالية تُصيِّر كلَّ ما تلمسه إلى مادةٍ مبهجة مضحكة تتفرَّدُ في تعاملها مع الإنسان والحياة والفكر، وتكشف عن ذكاء حادٍ وحذاقة الكاتب في جعل القارئ ينغمسُ في عالم الهزل والتهكم والسخرية من الآخر بنفسٍ رضيّة، ويُقولبُ متلقِّيه مُخرجًا إياه من القيود الأخلاقيّة إلى عالمٍ فسيحٍ لا غاية له إلا الضحك والضحكُ فقط. إنَّ الضحكَ سمةٌ إنسانيّة خالصة، يقول هنري برغسون في كتاب الضحك إننا لا نضحك إلا فيما هو إنسانيوإذا ما ضحكنا من حيوان فلأننا لقينا عنده وضع إنسان أو تعبيرا إنسانيا“. والضحك في الأدب لا يقوم بلا عاملي اللغة والإنسان، تُحدد اللغة طبيعة الموضوع وأسلوب الفعل الإبداعي نظمًا أو نثرًا، أما عامل الإنسان فإنَّ بنية النص تتمحور حول الإنسان فلا يُضحكنا إلا الإنساني أو ما يتمحور حول الإنسان لكن ليس أيَّ إنسان. نبحث في الضحكِ من الإنسان عما يمسُّ جوهر ذواتنا ويفسحُ لها المجال للتنفيس عن شرِّها الدفين، وليس بالضرورة شرَّ الإيذاء إنما الشرُّ الذي هو جزءٌ من الطبيعة البشريّة، ومع الضحك يأخذ طابع السخرية والتهكُّم والمزاح وكلِّ ضروب الهزل.  

يسلكُ الأديب والشاعر المصري، غيرُ ذائع الصيت، يوسف بن محمد الشربيني في القرن الحادي عشر هجري/ السابع عشر ميلادي طريقًا سلكه من قبله ابنُ الحجَّاج المبرَّزُ في شعر السخف والتفاهة، والوهراني بقصصه وحكاياته ومنامه وهو المقدَّم في الظرافة والهزل، ويشتركُ معهم في وجاهة أدب السخرية والظرافة التراثي العربي. وهزُّ القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف كتابٌ ساخرٌ من المقام الرفيع يجعلُ ريفَ مصرَ وأهله موضوع كتابه، لكنه موضوع جاء في بُنية محاكاةٍ لكتبِ التراث الأدبي، ولا سيما كتب الشروحات الشعرية، بلغةٍ جمعتْ ما بين الفصيحة والعاميّة بمعجم ألفاظ ريفيّة ضخم، وبأسلوب يتناوب ما بين المسجوع وغير المسجوع، ولا تغيب هذه الإشارة باستخدام السجع إلى أسلوب المقامات ولغتها. واعتمد الشربيني على راوٍ داخليّ أدمجَ ما بين المتخيَّل والحقيقيّ، والتراثيّ والشعبيّ، فمنحَ بُنية كتابه صفتي العامِ والخاص، والإبداع والتقليد، والجديد والقديم، ليتركَ القارئ في حيرة وشكٍ من حقيقةِ المكتوب أو اختلاقه، وإنْ يتبددُ الشكُّ في حقيقة المكتوب فإنْه يلبثُ مع الراوي الذي يُقرنُ بيوسف بن محمد الشربيني، كما فعل أ. د. عماد عبد السلام رؤوف في دراسته ألفاظ ريفية مصرية في القرن السابع عشر، ولا أتفق وذلك الربط المباشر بين الكاتب والراوي، وسأبيّن رأيي تاليًا.  

لا يعرف الكثير عن مؤلف الكتاب يوسف بن محمد الشربيني، ويقول عماد عبد السلام في دراسته عن الكتاب لم يُترجم له أحد من معاصريه، وغاية ما وصلنا عنه عنوانات بعض كتبه، ومن تاريخ تأليف أحدها علمنا أنه كان حيًا سنة 1098هـ/1686م. وهكذا فقد ضاع تاريخ وفاته، فضلا عن تاريخ ولادته، ولم تُعرف ترجمته، فلا نعرف شيئًا عن مراحل تلقيه العلم، أو مهنته، أو صلاته بغيره من المعاصرينولنا أن نتساءل عن طبيعة المهنة التي امتهنتها أسرته، وورثه هو عنها، وفي الحق فإنه لم يكن ثمة مجال للعمل في غير الفلاحة إلاّ في التجارة أو في العلم، والذي نراه أن يوسف الشربيني سلك المجالين معًا، فثقافته التي تبَدَّت في كتابه هذا وفي سائر مؤلفاته تدل على أنه تلقى العلم بصفة منهجية على أيدي شيوخ عصره، فمصطلحات مثل (باب) و(فصل) و(منظومة) و(شرح) و(مطلب) لا تتأتى إلا لمن تلقى العلم على المشايخ وفقًا للمؤلفات التعليمية السائدة في ذلك العصر، لا سيما كتب الفقه. ومهارته في قرض الشعر وحفظه لقصائد شعراء من الماضين والمعاصرين ومعرفته ببحوره يدل على دراسته الأدب دراسة منهجية لمدة غير قصيرة. وقد صرح مرة باسم أحد مشايخه، وهو الشيخ أبو العباس، شهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي المتوفى سنة 1069هـ/1658م وكان هذا عالمًا يجمع بين الفقه والأدب والفكاهة، وله مؤلفات فيها، مثله مثل الشربيني تمامًا، فالظاهر أن الأخير تأثر به تأثرًا شديدًا، أو أنه اختاره شيخًا له لما أحبه فيه من هذه الصفات، وقد نقل عنه شيئًا مما شاهده من أحوال الريف. كما نقل أشياء أخرى تجري في مثل هذا المجرى عمن سماه أخانا في الله تعالى الشيخ عبد العزيز الدنجيهي رحمه الله تعالى، كما أشاد برجل سماه العلامة الحميدي رحمه الله تعالى، لكنه لم يذكر اسمه الأول لنعرفهولا نعلم تاريخ وفاته، ألا أنه كان حيًا سنة 1098هـ/1687م، وذلك لأنه في هذا العام فرغ من تأليف شرحه للقصيدة اللامية المهملة. وكان قدم برسالة أرسل بها بعض فقهاء الريفسنة 1047هـ/1637م، فيكون شابًا عاقلا واعيا في هذا العام، ولنا أن نفترض أنه كان بهذه الصفة في العشرين من عمره في أدنى تقدير، ومعنى هذا أنه كان يناهز رحمه اللهالسبعين من عمره يوم ألف شرحه للمنظومة المذكورة“. 

أقول هذا الربط بين شخصيتي الراوي والكاتب هو خلطٌ لا يستقيم، أما السنة المذكورة في الكلام المقتبس أعلاه وكان قدم برسالة أرسل بها بعض فقهاء الريف سنة 1047هـ/1637مفهو غير صحيح ففي النسخة المحققة من همفري ديفيز، والصادرة من المكتبة العربي، يذكرُ أنَّه أرسل لي بعض فقهاء الريف مكتوبا في سنة سبع وسبعين وألف، أي سنة 1077هـ/1667م. وفي قول لأحمد أمين، سيردُ لاحقا في دراسة عماد عبد السلام، يذكر ولكني عثرت في أثناء الكتاب أن المؤلف حج سنة 1107هـ وأنه كان واعظًا فهو من علماء القرن الحادي عشر الهجري، وكذلك في تحقيق همفري يذكر الراوي وما ذاك إلا أني لما توجهت إلى الحج إلى بيت الله سنة أربعة وسبعين وألف، أي سنة 1074هـ/ 1664م، وهذا أقربُ للصواب في كون الشربيني عاش في القرن الحادي عشر هجري/ السابع عشر ميلادي. ويعمد بعضُ الكتَّاب أن يجعلوا زمن كتاباتهم التخيُّيلة في زمن تدوينها، كما نجد هذا في بعض قصص ألف ليلة وليلة بذكر سنة الحدث. لكن لا يعني ذلك بتاتًا أنَّ الكاتب هو الراوي في النصِّ، فنجد مثلا ما مرَّ آنفا من كلام عماد عبد السلام وأحمد أمين في الربط ما بين الشخصيتيّن، وكلامُهما على جانبين نسلِّم بأحدهما ونعارض الآخر. فما نُسلِّم بصحته هو معرفة الكاتب، أي الشربيني، واضطلاعه من كتب التراث والأدب والشعر والشريعة والتاريخ، وضلاعته من الريف وأهله وعاداتهم وأشعارهم وحياتهم والأهم لغتهم، استنادًا إلى معرفة الراوي وعلمه وهذا ما يتبيّن في كتابه هزِّ القحوف. وقد كشف الراوي عن عدم اشتغاله بالفلاحة فقال ولكن نحمد الله الذي أراحنا من الفلاحة وهمَّها ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا“. ص 255. لكنَّه كان من سكَّان الريف والعارفين بأحوال أهله وما سبق ذكره، ويقول عن العونة لحفر السواقي وأخذ الفلاحين لزرع دار الأوسية، وهو عمل الفلاحين بالسخرة لصالح الوكيل المتنفِّذ، ولله الحمد أراح قريتنا منها إنما هي قراريط معلومة على الفلاحينص 251. ولا يُستبعد أن يكون الشربيني من سكان الريف مع عدم اشتغاله بالفلاحة وتحصيله المعارف والعلوم مثل راويه

أما ما نُعارضه فهو في جعل الراوي واعترافاته الداخلية، أو الجانب السيريّ الذاتيّ لحياته، مرآةً تعكس حقيقة الكاتب وهذا ما لا يستقيم ذلك لأسباب منها: أنَّ من جعل الكاتب والراوي شخصية واحدة تغاضى عن بعض المعلومات التي ترد على لسان الراوي مثل معاشرته الغلمان وأقرَّ بهذا في مناسبتين الأولى حين قال من هذا أن الناظم كان يهوى الإناث دون الذكور بخلاف مذهبنا نحن معشر الفساق فإننا على حد قول أبي نواس: عجبتُ لمن يزني وفي الناس أمردُ * أليس ركوب الفحل في الحرب أجودُص 228 – 229. وقوله واتَّفق لي أني كنت أهوى غلاما جميل الذات…” ص 243، ثم شرعَ بعدها في ذكر خبره مع الغلام. يقرُّ في هذين الخبرين أنَّه كان يجامع الغلمان، وهذا ما لا يُعقلُ نظرًا لخسَّة هذا الفعل وحرمته، وما ورود هنا إلا سمة فنيّة في بنية الكتاب، وارتباطه بسياق الأخبار والحكايات الواردةكما ذكر أنَّه تزوَّج امرأةً من أهل الريف، وزاد أنْ ذكرَ مجامعته لها على عادة أهل الريف العجيبة وثيابهم الغريبة فإني تزوجت منهن وكنتُ أجامع زوجتي في بعض الأحايين من كمِّها فسبحان من خصَّهم بقلة الهندامص 206. فلا يُعقل أنْ يوردُ الكاتب شيئًا كهذا من حياته ومعاشرته لزوجته، فضلا عن كون الخبر لا يخرجُ من منهج المبالغة والتضخيم الهزلي الذي اتَّبعه الكاتب في وصف أهل الريف وما يخصُّهم. ومن الأسباب أيضًا ذكره لمشاهدات عجيبة لا تُعقل منها قوله: “وقد سمعتُ وأنا متوجه إلى الحج في البحر من الصعيد على بندر القُصَير سنة خمس وسبعين وألف طائرًا في غيط قمح يقول طاب دقيق السنبل سبحان القديم الأزليّ وسمعه كل من في السفينةص 272. 

وما يلاحظ من هذا الخبر أنَّه كان متوجِّها إلى الحج سنة 1075 هـ، وقد مرَّ بنا آنفا أنَّه كان توجَّه إلى الحج سنة 1074، وهو ما يبيّن عندي، ما لم تكن الحجَّتان حجة واحدة مع الخطأ في ذكر السنة، أنَّ هذا الحج خياليّ مزعوم نظرًا لصعوبة الحجّ في القرون السالفة فكيف بمن يحجُّ سنتين واحدة تلو الأخرى وقد تستغرقُ الحجَّة الواحدة أشهرا عديدة، ومن كان في نيَّته الحج سنتين متعاقبتين فخيرٌ له أن يبقى في مكة أو ما حولها من البلاد القريبةويوردُ حكاية أخرى شهدها في سياق شرحه عن النساء وحيلهن في قوله ومثل هذه الواقعة ما اتَّفق لي أني كنت مسافرًا من بلدي شربين لمصر فلما جاوزنا…” ص 237 إلى آخر القصة وما من شيء في القصة يُمكن أن يؤكد صحَّتها أو اختلاقها، وأنا إلى اختلاقها أميلُ نظرًا لطبيعة نظام الكاتب في كامل كتابه.  والراوي معاصر لأهل الريف ويروي بعض الأخبار بسماعها ممن عرفهم والتقاهم، كما في قوله ولقد رأيتُ خريوه هذه وسألت والدها عن سبب تسميتهاوهذا خبر من مصدرٍ مباشرٍ، وهو التقاء ما بين الراوي وشخصياته التي أبدعها واختلق لها عالمًا ذا سماتٍ ومظاهر وطبيعة فريدة. وذكرَ بعض الحوادث مع أهل الريف التي جرَّت له بنفسه. فكما يتراءى لنا من الأمثلة السابقة الانتقائية في اختيار الأخبار الواردة على لسان الراوي وجعلها أدلَّة على حياة الكاتب، دون أي معيارية في القبول والرفض إلا معيار منطقيّة الخبر والأخلاق، وما من حجَّة بيّنة تؤكد هذا الصنيع في الاستدلال. مع ذلك لا ننفي بالمطلق أنَّ الكاتب ضمَّن في كتابه على لسان الراوي من أخباره ومشاهداته الشخصيّة لكن لا يسعنا الفصل والتفريق بين ما اختلقه وما حدثَ حقًا. والسبيل الأسلم هو التعامل مع النص على أنَّه نصٌّ تخيُّليٌّ بالكامل لأن الراوي نفسه ذكرَ أنَّه أفرد مؤلَّفًا لعرسهم (أي أهل الريف)، ويقول إنَّ له خطبة في المأكولات، واختلق قاموسًا اسماه القاموس الأزرق والناموس الأبلقيستعين به عند شرح ألفاظ أهل الريف، كما أبدع شخصية الشاعر ابن سودون موردًا على لسانه الكثير من شعر أهل الريف، ونسبَ أبياتًا أخرى إلى شاعرٍ مجهول، وبعضها إلى نفسه، وهذا كلُّه من اختلاقه ولا وجود له. وقبل كلِّ شيء هو إبداعه شخصية أبي شادوف، وذكره حياته وتقلباتها، ثم إيراده قصيدته في أربعين بيتًا تقريبًا مع شرحها، واستخدم أبا شادوف وقصيدته وسيلةً فنيّة لبث رؤاه وأفكاره ومشاهداته وهزله في الكتاب. وهذا يشبه ما قام به نابوكوف في روايته نار شاحبة، إذ هي عن قصيدة من 999 بيت يعقبها شرح الراوي وتعليقاته

ذاعَ صيتُ الكتاب في القرن التاسع عشر ولاقى رواجًا بين القرَّاء، ويقول عماد السلام وهذا يُفسِّر سبب طبعه ثلاث مرات في خلال وقت قصير من أواخر القرن التاسع عشر، وتكرار طبعه غير مرة في القرن التالي. بل إن الكتاب وجد فيما نظن إعجابًا بين أهل الريف أنفسهم، لدقة تصويره جوانب أحوالهم المختلفة. وقد رجا هو لكتابه الانتشار الواسع إذ قال حتى يشتهر شرح هذا القصيد من دمياط إلى الصعيد، وأرجو أن لا يخلو منه إقليم بل ولا بلد من بلاد العبيد!”… طبع الكتاب على الحروف، بمطبعة بولاق سنة 1274هـ/1857م، وطبع ثانية على الحجر، في المطبعة السعدية في الاسكندرية سنة 1289هـ/1872م وفي بولاق سنة 1308هـ/1890م. ثم نشر بإعداد محمد قنديل البقلي، دار النهضة العربية 1963. كما طبع عدة طبعات شعبية رخيصة من مطابع حي الأزهر ومكتبات الصناديقية في القاهرةوكان بعض الكتّاب قد انتبه إلى أهمية الكتاب، ونبّه إليه، فكتب أحمد أمين تعريفًا به في كتابه (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية) فقال لعل أجدرهم [يقصد أدباء الفكاهة] مؤلف كتاب هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف، وهو الشيخ يوسف بن محمد بن [عبد] الجواد الشربيني، ومن الأسف أني لم أعثر على ترجمة لهذا الرجل، ولكني عثرت في أثناء الكتاب أن المؤلف حج سنة 1107هـ وأنه كان واعظًا فهو من علماء القرن الحادي عشر الهجري، ولهذا الكتاب الذي يستهزئ به الناس قيمة كبرى ففيه وصف اجتماعي دقيق لحالة الفلاحين في عصره وبؤسهم وظلم الحكام لهم وأنواع عاداتهم في المأكل والمشرب والزواج وغير ذلك، وفيه تدوين لغة الفلاحين كما ينطقونها وأغانيهم، وفيه حكايات ظريفة مما سمعها أو شهدها لولا أنه لا يَعِف عن ألفاظ الفحش، ويُخيَّل لي أن المؤلف رأس المدرسة التي عُنيت بالتنكيت عن طريق اللعب بالنحو والخروج من باب إلى باب من غير مناسبة والمفارقات ونحو ذلك“”.1 جديرٌ بالذكر أنَّ طبعة البقلي لسنة 1963 قد استبعد منها الفاحش من الكلام شعرا ونثرا ومتنا وشرحا، كما جاء في مقال لسعد عبد الله الغريبي.2 ولم أحصل على نسخة من هذه الطبعة بعد

*

إنَّ هذا الكتاب جديرٌ بالقراءة والدراسة فهو غنيُّ متنوع في قالب الهزل والتهكم والمحاكاة الساخرة وتضمين الفحش والمجون مع ثراء لغوي وملكة مفردات ريفية عريضة، وقلّما يوجد نظراء الشربيني في الكتابة والمواضيع حتى إنه ليورد أمثلة من الجنس القذر. السخرية فن وموهبة لا يجيدها أيٌّ كان ولا يقدرها عليها أيُّ من مسك القلم. جاء كتاب هز القحوف في جزأين، والقحف كما يقول الراوي شيء طويل يعمل من الصوف أو الشعر يلبس على الشعر وليس له زي ولا هندام تستعمله بعض الفقراء، وقد يُستخدم لوضع الطعام والأشياء به، ويرد القحف أحيانا يراد به أحد أهل الريف، وما يمتاز به من غلاظة الطبع، وسوء السلوك، وجلافة اللفظ، وخسة الحال، وهزُّ القحوف دلالة على حال النشوة والطرب التي تُصيب أهل الريف فيحركون رؤوسهم فتهتزُّ معها القحوف.

أبان الكاتب عن محاكاته الساخرة منذ العنوان حين جعل هزَّ القحوف مقرونًا بشرح قصيدة أبي شادوف، على عادة كتب التراث وعناوينها المسجوعة. افتُتحَ الكتاب بخطبة جاء فيها وميز صاحب الذوق السليم بلطافة الذات، وحلاوة اللسان، وخصَّ أضداده بسوء الخُلُق وكثافة الطبع كعوام الريف أراذل الجرذان…” فأعلن حربًا شعواء على أهل الريف منذ البداية، ولن يسلم منهم حقًّا مخلوق رجلا كان أو امرأة طفلا أو شيخا. وحاكى ساخرًا في الاستهلال، بذكره سبب تأليفه الكتاب، خطبَ كتب التراث العربي، فقال: “وجرى ذكره في بعض المجالس، قصيد أبي شادوف، المحاكي لبعر الخروف، أو طين الجروف، فوجدته قصيدًا يا له من قصيد، كأنه عمل من حديد، أو رُصَّ من قحوف الجريد، فالتمس مني من لا يسعني مخالفته، ولا يمكنني إلا طاعته، أن أضعَ عليه شرحا كريش النعام، أو غبار العفاش، وزوابع السباخ، يحلُّ ألفاظه السخيمة، ويبيّن معانيه الذميمة، ويكشف القناع عن وجه لغاته الفشرويّة، ومصادره الفُشكلية، ومعانيه الركيكة، ومبانيه الدكيكة، ومقاصده العبيطة، وألفاظه الحويطة، وأن أُنتجه بحكايات غريبة ومسائل هبالية عجيبة، وأن أتحفه بشرح لغات الأرياف…”. ويُذكِّرنا هذا الاستهلال ما استهلَّ به الحريري مقاماته بخطبة جاء منها وقد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، علّامة همذان، رحمه الله تعالى. وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف، ونكرة لا تَتَعرَّف. فأشار من إشارته حُكمٌ، وطاعته غُنْمٌ، إلى أن أنشئ مقاماتٍ أتلو فيها تِلوَ البعيد وإنْ يدرك الظالع شأو الضليعهذا مع اعترافي بأن البديع رحمه الله سبَّاق غاياتٍ، وصاحبُ آياتٍ، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فُضالته ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته“. 

ثم يقول عن شرحه: “وقد سميت هذا الشرح هزَّ القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف، وأطلب من القريحة الفاسدة، والفكرة الكاسدة الإعانة على كلام أغرفه من بنات الأفكار، وأسطره في الأوراق فُشار في فشار…” إنَّ السخرية لا تقتصرُ على أهل الريف بل وتكتنف القارئ أيضًا، فأين هذا الذي يُقرُّ على نفسه أنَّه صاحبُ قريحة فاسدة وفكرة كاسدة حتى يفهم القصيدة وشرحها!  

يبدأ الراوي، قبل الشروع في إيراد قصيدة أبي شادوف وشرحها، بذكر أخبارِ أهل الريف وعاداتهم وأسمائهم وأحوالهم وطعامهم وشرابهم وأخلاقهم وأعمالهم وسماتهم وأشعارهم وما شابه، معطيا صورةً كاملة عنهم، وهو ما ألَّفَ الجزء الأول من كتابه. ويقول: “وقبل الخوض في بحر هذا الكلام، والمشابهة له من جنس النظام، نذكر ما وقعَ لعوام بعض أهل الريف، ووصف طبعهم الكثيف، وأخلاقهم الرذيلة، وذواتهم الهبيلة، وأسمائهم المقلَّبة، وقحوفهم المُشقلبة، وقمصانهم المُشَرمطة، وأشعارهم المُخلبطة ونسائهم المزعجات، وما لهم من الدواهي والبليَّات“. والحقُّ أنَّ الجزء الأول من كتابه أمتعُ بيانًا وأظرفُ نظامًا وأكثر تسليةً وأضحكَ سخريةً وأبرعَ إبداعًا لأنه جاء لبناء عالم الريف وأهله معتمدًا على أسلوب المبالغة والتضخيم والتصوير الهازئ (الكاريكاتيري). فأهل الريف في كتابه أشبه بمخلوقات عجيبة تتسم بكلِّ الصفات الذمية والسمات الحقيرة والعادات القذرة والأفعال الرذيلة، وتعيش في الريف منعزلة عن المدينة، وإذا ما قصد أحدهم المدينة فإنه يكون على جهل وغباء ولا يدري في أيّ مكان هو ولا بأي بشر يختلط، ولا يعني ذلك أنهم لا يعرفون المدينة لكنَّها معرفة قاصرة لا تنفع صاحبها شيئًا بل تزيد حاله بؤسًا وضيما، وتكشف عن انعدام الذوق وسفالة الخلق، وإنْ كانوا في كثير من الأخبار مثيرين للشفقة أكثر من سواها. وصوَّر في حكايات وأخبار وأشعار وطرف جهلهم بالذوق السليم وشريف الأمور ورفيع الأخلاق والأعراف الرزينة والعادات الطيبة والدين والقرآن والفروض والعبادات وكلِّ ما في الحياة من خصال حميدة. وضمَّن الكتاب من أخبار في غير أهل الريف لكنها في سياق ذمهم، وضمَّن كتابه أيضًا أخبار أدبية وتاريخية من كتب الأدب، وذكرَ بعض قصص ألف ليلة وليلة مثل قصة المزيّن التي أوردها كاملة، وكذلك أشار إلى قصة الجارية تودد والورد في الأكمام، وقصة مدينة النحاس، وهذا يكشف عن معرفة الكاتب بقصص ألف ليلة وليلة. وحاكى بعضَ قصص التراث في إبداع حكايات عن الريف مثل قصة عواهر مصر الثلاث، إذ جاءت بصيغتها الأصلية وصيغة المحاكاة الساخرة من أهل الريفمهَّد في الجزء الأول لشرحِ قصيدة أبي شادوف بذكره أبياتًا مختارة من أشعارهم وشرح معانيها ومقاصدها، وبيَّن معاني ألفاظها لغةً واصطلاحًا، وأشار إلى قاموس عن ألفاظ أهل الريف، وهو القاموس الأزرق والناموس الأبلق، مهيِّئًا بذلك الأرضية للجزء الثاني، وهو الغرض الرئيس من كتابه في شرحِ قصيدة أبي شادوف.

افتتح الجزء الثاني من الكتاب بترجمةٍ عن حياة الشاعر، ذكر فيها نسب الشاعر واسمه وسبب تسميته، وأصله وأسرته، وقريته، ووصف مظهره، وأوردَ أخبارًا من حياته وتقلَّبَ الدهر به وانحطاطه من الغنى إلى الفقر، وكان هذا الانقلاب في الحال سبب نظمه قصيدته، وجاءت في أربعين بيتا تقريبا، ومطلعها: يقول أبو شادوف من عُظمِ ما شكا * من القِلِّ جسمو ما يضال نحيف شرحَ القصيدة بيتًا بيتًا فبيَّن معانيها وألفاظها وأصولها واشتقاقاتها، ثم رد ألفاظها إلى أصلها الفصيح إذا وجد وأفصح عن معناه، وضمّن الشرح مسائل هبالية، واستطرد بقصص معاصرة له أو من أخبار الراوي تعضد المعنى أو قريبة منه، أو استدلَّ بشواهد أدبية من كتب الأدب على غرار شرّاح الشعر. ولا يخلو الأسلوب من هزل وسخرية لا سيما في شرحه مسائل شعرية في قصيدة أبي شادوف. وختم الكتاب بنوادر متفرقة وقصيدة عامية تافهة ركيكة عن فحوى الكتاب. استعمل الشربيني لغةً ما بين العامية والفصيحة، فالفصيحة لغته عند الشرح وإن ضمَّنها ألفاظًا عامية، وقد يغلبُ على أسلوبه السجع أحيانا، أما أخبار أهل الريف وقصصهم وما يجري على لسانهم فهي بالعاميّة أو اللغة الريفية، مفرِّقًا ما بين لغته ولغة أهل الريف، وفاصلًا بسياج من حروف ما بين اللغتين

1- ألفاظ ريفية مصرية في القرن السابع عشر.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى