كافكا الذي أعرف 6
خارج الجسد
دعاء خليفة
نحتاج في مشوار الحياة إلى زاوية مغايرة للنظر في الأمور وقد لا تكون مريحة، ليس لجدة فيها بل لما تحمله لنا من منظور يتعدى الأفق الذي وصلنا إليه بشق الأنفس. زاوية تمنحنا مجالاً أوسع للرؤية، وقوة تتولد من استئثارك بمعلومة دون الآخرين حتى إن ارتبطت بما يحيلك ضعيفاً ومنهكاً، كما هو النزيف. وبذلك نختبر مدى إيماننا بشيء ما حين يكون مبهم العلة. فإذا ما صمدنا عليه على الرغم من لا منطقيته فحينها نكون اختبرنا معنى التسليم التام في قلب المعركة. وفي حين قد يبدو الألم ظاهرياً مدةَ استمرار الأعراض، فإن العذاب يسكن في الغياب بعيداً عن أعين الناس ووعيهم بما تمر به، وفي هذه المراوحة بين الألم الجسدي والعذاب الوجودي كدت أفقد إيماني بهذا الجسد.
بدت لي الحياة في بداية النزيف، تمر أمامي كفيلم صامت بالأبيض والأسود، وأنا أجلس وحيدة خلف الشاشة أتابع دون كثير اكتراث. يخيل إلي أنه حين تجتاز حاجزاً جديداً من الألم، لا تعود نظرتك عن جسدك كما كانت. تتجاوز الطريقة التي يعبّر بها الآخرون عن أجسادهم. لا تولي كبير اهتمام بهيئته الخارجية، طوله، وزنه ومدى تناسقهما. تبدو هذه الأبعاد كلها ثانوية ولا علاقة لها بالجسد، بل أقرب ما تكون إلى اتفاقات اجتماعية لم تكتب على ورق، بعدِّ الجسد هوية تمثلهم ولذا يتبعها الجميع. وكعادته، ها هو ذا الدم مضغة الحياة، ينسل من جسدي دافئاً غير آبه بمضخة باتت تفقد معنى الانقباض، لكنها تتدارك نفسها في الأخير وتنبسط. وفكرت ربما ينبغي انتشال الثقة عن الجسد، والتحرر في الألم. فإن كان من شيء ظفرت به من مرض مناعة ذاتية مزمن فهو العيش في ظلال الشك، دون أن أركن إلى حائط أو يرنو إليَّ ظل.
ومرةً أخرى، يظللني أثر كافكا في ثيمة أخرى بحياتي، فقد صادفت ذلك الزمن بداية التقائي بكافكا وتعرفي إليه. ومع السكنى في بيئة جديدة وبعيدة عن كل ما هو مألوف، وجدت تلك الندف من التراكيب اللغوية والفقرات في كتاباته كجرح في خاصرة النص، وهي تمثل لحظات من الغياب والتوق بحسب ستاينر، ولا يُعرف مصدرها. وكم بدا لي ذلك باعثاً على اللطف وحاوياً لحنيني (homesickness). وانتبهت بمرور الوقت ما أكثرَ أن يتبدى ذلك التشظي جلياً في أحلامه المذكورة بيومياته، ورسائله، وقصصه القصيرة ورواياته غير المكتملة. لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تخطاه إلى مهنته النهارية: “تبين كائنات كافكا عادةً ضحايا “للآلات” التي تعيد تشكيل الجسد البشري. ينتمي جريجور سامسا إلى هذا الحقل من الصدمة التقنية: يقاسي اختلالات الزمن والمكان الآلية، الوقت الفارغ والمتماثل لساعة المنبه المتموضعة على الطاولة بغرفته، في حين تخلق الرحلات وتفاوت مواعيد القطار التي يعاني منها بيئة من الاغتراب الذي ينطبع في الأخير على جسده. في الحقيقة، قد يكون بالإمكان إعادة تصنيف قصص أخرى جزءًا من الكتابات الرسمية (Amtliche Schriften) لكافكا، وفي موازاة مع تقاريره الرسمية في حوادث الشغل وإجراءات السلامة في الصناعة والمواصلات. إذ توثق هذه الكتابات انخراطه في بيئات التقنية الحيوية، وتفصح عن مواجهته للتناقضات والكوارث في نطاق الآلة والقانون.”1.1
غير أن الألم عند كافكا يحمل تأويلات عدة، كما هو الأمر مع هذه القصة2.1، فيحلل شاهار الألم في ورقته الأدبية نهاية القصة على النحو الآتي “ومع نهاية القصة، يُطرد الطبيب الريفي وهو عارٍ، مدان بالتيه على نحوٍ لا نهائي. قد يكون بالإمكان قراءة رحلته إشارةً أخرى إلى شخصية كافكا المختبئة؛ اليهودي المتجول، الذي يجسد قلق الرغبة وطبيعتها السقيمة. تعجز الرحلة، كالجرح على جنب الفتى، عن الوصول إلى نهاية ناجحة.”1.2
وبعد الإسهاب بالحديث عن الجرح المتقيح المليء بالدود، واغتراب المريض عن ذراعه ثم وصف الطبيب للجرح برومانسية وباسم الفتاة التي يود إنقاذها (Rose)، وباغتراب كذلك عن الوضع المتفاقم والميئوس منه لإنقاذ هذه الذراع، يأتي على وصف جرح النص الكافكاوي: “في بنية قصة كافكا، يدرك المرء حقاً، منطق كتاباته. إن البنية التركيبية للنص هي ما تبقى كجرح مكشوف.”1.3
غني عن القول إنه بعد عدة أشهر من كتابة هذه القصة، ظهر تشخيص السل الرئوي، وبدا لفرانز أن هذه القصة -كما ذكر في إحدى مراسلاته مع صديقه برود- لم تكن إلا نبوءة! وقبل التعريج على أمثلة أخرى لكافكا، فإنَّ يدًا أخرى للبطل نوفل في فيلم المخرج كلابين3 الحائز على جائزة سيزار من بين جوائز أخرى، والمقتبس من رواية للكاتب جيلوم لوران، الذي يحكي عن بحث اليد المبتورة عن صاحبها خلال تنقلها في العاصمة باريس، ونتنقل بدورنا زمنياً بين واقعها في فرنسا وماضيها البعيد في المغرب، ونتشارك مع تلك اليد نوعاً من التجزؤ (dismemberment) المادي، والزمني وكذلك الشعوري بما يستحثه الفيلم من مشاعر متباينة من خلال إيماءات تلك اليد المتألمة. يستعصي عليها الإمساك بالذبابة التي تحيل إلى القدر، وفي هذا توازي على خط مغاير مع حشرة كافكا، وتقزيم أو بالأحرى تكثيف لوجودية الجسد عند كل من نوفل وسامسا.
قد يخطر عند الكثير منكم حين الحديث عن الجسد، مدى اقترانه بثيمة الحيوانية والآلة عند كافكا. فقد دارت بي الأيام، والشهور والسنوات لأعايش غربة أخرى في مجال دراستي، وأنهكني تبدل هويتنا الإنسانية إلى محض أكواد بشرية في عصر المعلومات المنشغل بفك شيفرة الرموز وإعادة تركيبها. هذه الرغبة في تشريح كل معلومة والوصول إلى منطقها المجرد تنفرني من هذا الوضوح، ومحاولة تأطير الرموز في مفاهيم موحدة لا ينبغي الإفلات منها، وإلا تكون بعنادك قد انتزعت ذاتك من روح هذا العصر الرقمي. هذه المعرفة المتمثلة في العلوم التي تسعى لتصنيف الطبيعة في أنواع وجداول وشفرات المعلوماتية الحيوية، تبعدني في أحيان، على الرغم من شغفي بها، عن إيجاد مغزى من كل هذه الساعات التي أقضيها في المختبر. أي حاجة لكل هذا التحديد وترسيم الحدود، من أين نأتي بهذا الخوف من المجهول وما هو غير مصنف، كيف نخفف إدماننا في عنونة وحساب كل شيء. نرى هاراوي في مانفيستو السايبورغ تشير بدقة إلى هذه الثيمة المنتشرة في كتابات كافكا، وهي تحكي بقلق: “… ولكننا الآن لسنا على ثقة. فآلات أواخر القرن العشرين جعلت الاختلافات بين الطبيعي والصناعي، والعقل والجسد، والتطور الذاتي والتصميم الخارجي والكثير من التمايزات بين الإنسان والآلة غامضة بكل معاني الكلمة. إن آلاتنا اليوم حية بنحوٍ يثير القلق، ونحن أنفسنا خاملون على نحوٍ مخيف. والحتمية التكنولوجية ليست سوى مسافة أيديولوجية فُتحت من خلال مراجعة المفاهيم عن الآلة والكائن الحي بوصفها نصوصاً مشفرة نتورط من خلالها في لعبة قراءة وكتابة العالم.”4.1 ثم تنحو على ذكر أمر الترميز وتأثيره في أجساد الكائنات الحية: “وفي البيولوجيا الحديثة، يمكن أن تتضح ترجمة العالم إلى (مشكلة في الترميز) في علم الجينات الجزيئي، وفي الإيكولوجي، ونظرية التطور الاجتماعي الحيوي، وعلم المناعة. وقد ترجم الكائن الحي إلى مشكلات من الترميز الوراثي ثم قرأ على هذا النحو read-out.
تغذي التكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا الكتابية، البحوثَ على نطاق واسع، وبمعنى من المعاني، لم تعد الكائنات الحية توجد بوصفها (كائنات المعرفة في الوجود)، مفسحة المجال للمكونات البيولوجية، أي الأنواع الخاصة من أجهزة معالجة المعلومات.”4.2
لكن على الرغم من هذه المخاوف، وعواقب بعثرة الجسد، ترى هاراوي أن الحل يكمن في المواجهة، في تطبيقات السايبورغ ذاتها من تكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا الحيوية في محاولة لإعادة تشكيل الجسد، وبالأخص النسوي:“… والسايبورغ هو نوع من الذات التركيبية والتفكيكية الشخصية والجمعية ما بعد الحداثية. وهذه هي الذات التي يجب أن تصوغها النسويات.”4.3 ثم لا يغيب هذا الأمر عن ستاينر، فهو في كتابه5 يتناول الموضوع من زاويته النقدية المميزة له: “معلومات، مخرجات، تشفير وفك تشفير، ترقيم فتضمن القراءة الصحيحة للرسائل الإلكترونية-الكيميائية والتي تُعدُّ أفكاراً متشاركة، في الأقل جزئياً، بالبيولوجيا الجزيئية والنحو التوليدي. إنَّ الصدفة، في تزامن التقدم المعرفي الكبير في علم الجينات ولسانيات البنيوية الحديثة من سوسير إلى هاريس وتشومسكي لا يبدو حدثاً تصادفياً. بدا التنويه للحياة على أنها لغة، ومعلومات متوارثة، ملاحظاً إذ كلا التيارين متطابقٌ. إذًا، كما اقترح تشومسكي، تعمم اللسانيات تلك التنظيمات التي تسمح لنا بالتمييز مباشرةً بين ما هو محتمل في لغة عن غير المحتمل- “قد يكون ببساطة سمة بيولوجية للعقل البشري”، لذا من المرجح أن بيولوجيا العقل هي بذاتها “نحوية”. سيصبح علم الجينات، كما أكد البعض آنفاً، حالة خاصة في نظرية المعلومات. مما لا شك فيه أن الفيزياء والكيمياء ذاتا الصلة في منزلة من التعقيد بعيدة عن إدراكنا الحاضر، وبإمكان أن يكون كامل مفهومنا عن ما هو “فيزيائي” وما هو “عقلي” جدير بإعادة التفكير وأن يغدو أكثر دقةً مما هو عليه الآن.”
في مثال آخر على حضور الألم في كتابات كافكا، نرى ارتباطه بتأويل العنف جلياً في هذه النوفيلا2.2، حيث تتكاثر الجروح بداية من تحوله وهو بعد في غرفة نومه، وانتهاءً بمصيره المحتوم، وتلك الخاتمة المزعجة في بهجتها الغادرة.
في مقدمة كتابه6 عن الفنان فرانسيس بيكون، يكتب دولوز واصفاً ماهية اللوحة البيكونية التي تميل إلى العنف: “للوحة فرانسيس بيكون عنف مميز. بيكون، ليؤكد ثيمته، عادةً ما يروح ويجيء في عنف مشهد مصور: مشاهد رعب، عمليات صلب وأعضاء مشوهة، ووحوش. لكن هذه المشاهد انعطافات جد سطحية، انعطافات يحكم عليها الفنان بذاته في قسوة ويدينها في أعماله. ما يثير اهتمامه مباشرة هو الرعب المعني فقط باللون والحد المرسوم: عنف المشاعر (وليس التصوير)، عنف ساكن أو محتمل، عنف ردة الفعل والتعبير.”6.1
يرسم بيكون البين، الانزياحات المتعلقة بثيمة الجسد، والمتصلة به دون الانشغال بفيزيائية الجسد ذاته. هو الذي يرى في اللحم مكمن الآلام ومع ذلك حلقة الوصل الخفية للإنسان مع البوهيمية، حيث يواجه الفنان مخاوفه في مقابل التعاطف: “سنرى أنه في لوحاته وبالأخص في ثلاثياته، يحتاج بيكون إلى دور المشاهد، والذي لا يكون متفرجاً بل جزءا من اللوحة. حتى تمثيل الصور، معلقة على حائط أو درابزين، بإمكانها أن تلعب دور المشاهد. وهم حاضرون لا متفرجون، بل ثابت أو نقطة مرجعية في العلاقة مع المتغير المحدد. المشهد الوحيد هو في الحقيقة مشهد الانتظار أو الجهد، لكن هذان ينتجان فقط حين لا يوجد أي متفرجين. يشبه بيكون هنا كافكا: الشخصية عند بيكون هو المفضوح أو السباح الماهر الذي لا يجيد السباحة…”6.2 ثم يذكر دولوز، وهو المولع بالسينما وكل فن يحوي الحركة داخله، عن الحركة في اللوحة: “إن الحركة لا تعبر عن الإحساس، بل على النقيض، لأنه معبر عنه بمرونة الإحساس، (vis elastica). بحسب قانون بيكيت أو كافكا، هناك جمود في ما وراء الحركة: في ما وراء الوقوف، هناك جلوس، ووراء الجلوس، الرقود، والذي وراءه يتبدد المرء أخيراً.”6.3 وليس أن التشابه بين بيكون وكافكا يقف عند العنف، بل يوجد كذلك في تلك الانقطاعات: “حين يكون الأمر سردياً أو رمزياً، فإن التصوير يحقق فقط العنف الزائف للشيء الممثل أو المبين، فهو لا يعبر مطلقاً عن عنف المشاعر- بكلمات أخرى، عن فعل الرسم. كان من الطبيعي، وحتى الضروري أن يعيد بيكون ترويج اللوحة الثلاثية في الفن: يجد في هذا الأسلوب الرسم واللون تماماً كما يتصورهما. اللوحة الثلاثية لها أقسام منفصلة كليةً، متميزة حقاً، والتي تنفي سلفًا أي سردية يمكن أن تؤسس نفسها وسطهم. ومع ذلك، يربط بيكون كذلك هذه الأقسام ببعضها في توزيع وحشي وموحد، تجعل اللوحات تترابط بحرية من أي اتجاه خفي ذي طابع رمزي.”6.4
وفي مثال أخير يتمثل الألم في قصة أخرى2.3 لكافكا، في دافع الجوع طريقةً لبيان القدرة الإبداعية إلى حد المخاطرة بالإبقاء على الحياة.
تجعلني طبيعة تحسسي للخارج أخطو نحو الآخر أكثر من كوني داخل جسدي، لكني أسمح للنقاشات التي تخصني أن تأخذ حيزها رفقة شخصياتي الخيالية أو تلك التي في رواياتي المفضلة. أغوص معهم، ومع أنَّ لا آراء لغوية لهم فإيماءاتهم الجسدية ما يعينني على إيجاد القطعة الضائعة من الأحجية. وأخرج من هذه النقاشات بما يعينني على البوح. فكوني أعيش على السطح الخارجي من جسدي لا داخله، قد يرتبط بحقيقة كوني (خارج المكان). وأقصد بالسطح، اتصالي بمراكز الطاقة العليا دون قدرة على المكوث في ما يليها من المراكز، ومع التأمل ومراقبة الأشياء المتصلة بالمراكز المادية السفلى، اتضح لي سبب الاختلالات المتعلقة بالجسد. وعلى الرغم من طول الطريق للوصول إلى جسدي والمكوث فيه فالرغبة في التذكر أكثر من محاولة التعلم المكتسبة، هي ما يمنحني معنى للمضي قدماً نحوه. وهكذا، يعيدني تأمل التنفس إلى جسدي، يعينني على التجذر، ومن خلال هذا الجسد يمكنني أن أسمح للطاقة بجميع حالاتها وتبدلاتها أن تعبر من خلالي. يبدو على الأمر خوف في بداية التجربة على فتاة اعتادت أن تحيا داخل رأسها، وإرهاق على النفس والجسد أن تتحمل كل ما يطفو من معلومات خليوية (cellular data) مخزنة في الجسد؛ مرآة العقل الباطن، لكنني بمرور الأيام أتعلم أن أطمئن إلى جسدي. ينتج عن ذلك تبدل غير مرئي، اتساع رقعة الصمت، وغياب للأنا حيث كل ما هنالك هو التجربة فقط، بكامل زخمها وغِناها.
في إحدى الزيارات، كنتُ أشرح لطبيبتي الألمانية كيف أعامل جسدي كشخص غريب حتى يسهل التعامل معه بلطف لدرجة ما دون أي شعور عاطفي مبالغ فيه، استنكاراً لانتماء هذه الأعراض والآثار الجانبية للعلاج لي، من مثل تضخم القدمين، تبرعم الحبوب الكرزية، وانتشار اللون الأخضر على ذراعي لأيام كغصن كثيف الأوراق، وكيف أن هذا الميتاموفيسيس اللحظي يربطني بذلك الذي لسامسا كافكا، أثار الأمر دهشتها، واستفسرتني للحديث أكثر، فالذاكرة الأدبية لوطنها مليئة بهذه الرغبة، وميّالة للخوض في تأويلات الألم والمرتبطة في أغلبها بموضوع الحرب دون أن تقتصر عليه. أدركت بانتهاء الجلسة أن رغبة الانفصال عن جسدي كانت نوعاً من التخفيف.
تكررت تلك الرغبة عندي قبل سنوات قليلة مع صدمة جسدية (trauma)، اختبرت إثرها انفصالاً عن الواقع (derealization) موازياً لانفصال الجسد دون وعي بهكذا مصطلحات أو قدرة على تفسير هذا الشعور. بالإضافة لمحاولة تكيفي مع أعراض الصدمة (ptsd)، والتي ما يزال يظهر شيء طفيف منها من حينٍ لآخر.
في زاوية مماثلة، وإن بحدة أعلى، يكتب لوبرتون في كتابه7 عن الألم الجسدي وتداعياته، عن ألم المشردين تحت عنوان فرعي (الانسحاب من الذات لوضع حد للعذاب) ومدى إيغالهم في رغبة الانفصال تلك: “إنهم، كما لو كانوا منزوعين من جسدهم ومن وجودهم، يظلون قرب ذاتهم، وهويتُهم مشرذمة أو موسومة بالبياض، أي متحررة من إكراه الهوية (لوبرطون، 2007). عذابهم يخدِّر ألمهم، لأنهم لم يعودوا يتوفرون على الوسائل العاطفية للإحساس به. وإذا ما صرحوا به ليس هناك أحد لسماع ذلك ولا للاهتمام به. يرتبط التيه غالباً بعدم الرغبة في أن يكون المرء هو ذاته، والانفلات من كل المسؤوليات المتصلة بكونه يحمل اسماً ووجهاً ونسباً وتاريخاً. إنه إرادة ألا يحمل المرء عبء أن يكون ذاته. هذا الانمحاء يجعل الجسد اختيارياً، كما لو كان معطى موجوداً دوماً هناك لأن الشرط الإنساني جسدي، غير أنه صار لا مبالياً ومهجوراً. يهجر التائه المترحِّل جسده ويهمله ويغدو غير معني به تماماً. وهو لا يطلب أي علاج إلا في الحال القصوى حيث لا اختيار له غير ذلك.”
إذًا، كان المرض بوابة ولجت في العزلة منها، وانشغلت بحدائقها على الجانبين وأنا أخطو على الدرب الذي لا يبين لكثافة العشب، درباً أسلكه وحدي. وفي حين أنشغل بطعنات خفيفة على قدمي الحافيتين كما هي أعراض الالتهاب؛ تختلط عليّ الجهات حين أرفع رأسي لأرى وأدرك أول مرة ما أشدَّ تكوِّر العزلة، وأي جدوى من كل هذه المضادات والحقن التي لا تنتهي حتى يظهر نوع جديد منها. فلا زوايا تحدها، ولا جهات أهتدي بها إلى الوجهة التي انتفى معناها كما انتفى معنى البوابة تلك، وكان المرض ينتظر أن ألتفت إليه. وليس من خطوة أولى نخطوها إذًا، إنما محض وهم. أقف قليلا الآن، وألتقط أنفاسي في حين تأخذ مثبطات المناعة مفعولها على جسدي، وأبصر معنى السكون، معنى اللحظة.
ينفتح باب سري، وتتضح لك الأشياء، في حين تكشف لك غيرها عن أسرارها. وعلى الرغم من غرابتها لا تملك غير تصديقها. كما تدرك أن ليس للأمر علاقة بمدى ثقتك بنفسك بل هو خلاف ذلك، لا يمس حواسك المعتادة، ولا يحتكم للمنطق عندك، وإذ تنفصل تدريجياً عن جسدك، تدخل في حالة من الطفو بين الأشياء. وبالطبع، لا يجدر بك التفوه بهذه الأشياء لأحدهم، فأي معنى غير أن تخون تجربة جسدك! ويغلفك الندم لتفريطك بكل هذا البوح. تتعلم أن أمورًا لم يكتب لها الإفصاح، وأن تجربة الألم شخصية لا يمكن تعميمها. ومن يومها يا رفيقي، لا أبدي أي علامة للتعاطف مقابل آلام الآخرين. أحترمها على أنها تجربة تخصهم، وأتقبل جهلي بمعاناتهم. أخبئ لهم دعوة في ابتسامتي أو في يدي حين الوداع.
وهاهنا لا يتبقى في الأخير غير أن أعلن عن قيامة الجسد، نافضةً عنه علاقاتٍ بائدة، طقوسٍ كالحة وبكائيات. أعمِّده بالنيل حتى تفيض منه الحياة، تجري في عروق شعبها الأسود، مشكِّلةً دلتا ببطء ندي قبل أن تنفتح على احتمال البحر.
* Depersonalization: الشعور بالانفصال والاستقلال عن الذات
- Fragments and Wounded Bodies: Kafka after Kleist. Galili Shahar. University of Florida. The German Quarterly Vol. 80, No. 4 (Fall, 2007).
1.1 P. 459
1.2 P. 461
1.3 P. 461
- The Complete Short Stories. Franz Kafka. Vintage Classics 2005.
2.1 A Country Doctor. P. 235
2.2 The Metamorphosis. P. 95
2.3 A Hunger Artist. P. 289
- J’ai perdu mon corps. Director Jérémy Clapin. 2019.
- بيان السايبورغ: العلم والتكنولوجيا والنسوية الاشتراكية في أواخر القرن العشرين. دونا هاراوي. ترجمة د. أماني أبو رحمة. ص5-6، ص19.
- Extraterritorial: Papers on Literature and the Language Revolution. George Steiner. Atheneum New York 1976. P. 68
- Francis Bacon: The Logic of sensation
6.1 Preface
6.2 P. 13
6.3 P. 41
6.4 P. 15
- تجربة الألم: بين التحطيم والانبعاث. دافيد لوبروطون. ترجمة فريد الزاهيز دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى، 2017. ص77- 78.