آن برونتي: سيرة حياة
مؤمن الوزان
’إن أغنس غري ذات السرد النثري الأكمل في الأدب الإنجليزي؛ سرد واضح وجميل مثل ثوب موسلين، وندرك حين نطالعها أننا أمام عمل عظيم. لم تخطْ إلا العبقريةُ هذه السطور بسلاسة كبيرة دون أي عائق. إنها الرواية الوحيدة في الأدب الإنجليزي المحافظة على كمالها في الأسلوب والشخصيات والموضوع. ولو عاشت آن عشر سنوات بعد لأصبحت جين أوستن أخرى أو ربما في مقام أعلى‘. جورج مور (1852-1933)، روائي أيرلندي.
لم يحالفِ الحظُ آن برونتي، الأخت الصغرى لشارلوت وإميلي برونتي، في حياتها للبروز أدبيًّا، ولعبتْ وفاتها المبكِّرة دورًا هامًا في تعزيز خفوت بريقها أكثر، فانزوت إلى الظلِ في السنوات التي تلت وفاتها لأسباب مختلفة. ومع بزوغ شمس شارلوت برونتي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا سيما بعد أن نشرت إليزابيث غاسكيل سيرة حياتها “حياة شارلوت برونتي“، فاقترن الصيتُ والشهرةُ باسم شارلوت حتى الربع الأخير من القرن إذ بدأ نجم إميلي وروايتها وذرينغ هايتس بالصعود ثم بفضل شِعرها استطاعت الأخت الثانية أن تحجزَ لنفسها مقعدًا بين الأدباء البارزين في القرن التاسع عشر وتاريخ الأدب الإنجليزي. لكن ما نالت آن برونتي أيَّ فرصة لتَبْرزَ أو يُعاد تسليط الضوء عليها، فهُمِّشتِ من النقاد ورأوا فيها موهبة أقلَّ من أختيها أو حتى مُكررة لتجربتهما الروائية. وبغض النظر عن صدق هذه الرؤية تجاه إنتاج آن برونتي الأدبي، فقد ارتبطَ أدب الأخوات برونتي بحياتهن الشخصيّة وصارت رافدًا مهمًا في تقييم أدبهن، فحين نشرت إليزابيث غاسكيل سيرة حياة شارلوت في سنة 1857، بعد نحو سنتين من وفاة شارلوت، أضفت على حياة شارلوت هالة من القدسيّة ووشَّتْ حياتَها بحقيقة الكفاح والصراع والجَلَد، فأصبحت شارلوت أيقونة ومثالًا للمرأة المكافحة في العصر الفيكتوري والأديبة الروائية الذائعة الصيت بروايتها الأربع. ولا يختلف حال إميلي برونتي فقد كانت حياتها هي الأخرى مليئة بالغموض والسوداويّة وذات طابع مثير للجدل بالأخص فكريًا ودينيًا وهذا ما نراه جليًا في روايتها الوحيدة، وذرينغ هايتس، فكانت سيرة حياتها الأولى التي نشرتها ماري روبنسون في سنة 1883 بداية جديدة ودخول إميلي بقوَّة الساحة الأدبية وأضحت في العقود اللاحقة، مع تزايد شهرة الأخوات برونتي، حديث الدوائر الأدبية ثم جُمعت قصائدها كلها ونشرت في ديوان في سنة 1908 بتحقيق كليمنت شورتر. في خضمِّ كلِّ تسليط الضوء هذا والقراءة وإعادة القراءة لأدب شارلوت وإميلي لم يُلتفت إلا قليلا نحو آن، ولم يكن التفاتًا كافيًا ليُنظرَ إليها على محمل الجد وتُقرأ قراءة متفحصةٍ ودارسة إلا في القرن العشرين، فنشرتْ عنها أول سيرة حياة في سنة 1954 إيسيل ترست، أي بعد ما أكثر من قرن على وفاتها في سنة 1849، ولحقتها بعد خمس سنوات وينفريد جيرن، وهي المتمرسة بكتابة سير حيوات آل برونتي، بكتابِ سيرة حياة محترمٍ عن آن.
إنَّ الربط المباشر بين أدب الأخوات برونتي وسيرة حياتهن وثيقًا، وإن بدا غريبًا تقييم إنتاج أدبي لكاتب بمعرفة حياته، هو بالضبط مكمن الشهرة وبداءتها فنُظرَ إلى أدب الأخوات برونتي وحياتهن نظرة متقاربةً وكثيرًا ما قُرئت الرواياتُ على أنها حياتهم فعلا، ونادرًا ما حدث أمرٌ مماثل في تاريخ الأدب الروائي. يعلِّق الروائي الأمريكي هنري جيمس على ذلك فيقول ’لا يزال الإرث الرومانسي للأخوات برونتي مساعدًا للأجيال اللاحقة بقوة مستقلِّة عن قدراتهن المستخدمة، وذلك عبر الصورة الشاخصة لحياتهن الكئيبة والفقيرة ووَحْدتها وتاريخها المأساوي. عُلقت هذه الصورة قُبالتنا بديمومةٍ وحيوية كأي صفحة من رواية جين إير أو وذرينغ هايتس. وإذا كانت هذه الأمور “قصصا” كما نقول، وقصصًا ذات فائدة زاهيّة، فإنَّ الوسطَ الذي انبثقت منه في المقام الأول قصةٌ في ذاته، وقصة كهذه ستنال بإنصافٍ أحقيَّةَ تقديرنا. إنها تغطي وتدعم مادَّتهن، وأرواحهن، وأساليبهن، وموهبتهن، وذوقهن؛ إنها تجسِّد في الواقع الأحجية الفكرية الأكمل، إنْ لم أبالغ في القول، التي حققها جمهورنا الرائع في سؤال الأدب‘. ويسأل الناقد فالنتين كونينغهام سؤالا ما زال مفتوحًا لا إجابة وافية عنه ’كيف أمكن العوانس الثلاث، اللائي نشأن في بيت خوري صارم في هاورث الكئيبة، أن يكتبن أعمالًا مثل هذه‘.
هكذا لعبت سيرة حياة الأخوات دورًا في جذب الأضواء وتوسيع دائرة القراءة لأدبهن. وتضافرت الجهود بعد نشر سيرة حياة آن برونتي في السنوات اللاحقة لإعادة قراءة أدبها، روايةً وشِعرًا، وكان لموضوع روايتي آن، لا سيما روايتها الثانية “نزيلة قصر ويلدفيل“، أهميةً مع سنوات الإصلاح النسويّ في القرن الماضي وزيادات الدراسات النسوية الأدبية لكون رواية النزيلة من أوائل الأعمال ذات المواضيع النسويّة المُركِّزة على الزواج واستقلال المرأة المادي والعنف الزوجي والظلم الاجتماعي بيد أنَّ هدفَ آن كان تقويميا وإصلاحيا لا تخريبيا أو عشوائيا غير موجَّه مُقدَّم في إطار محافظ دينيًا وأخلاقيًّا وحاضًّا على السلوك القويمة والأخلاق النبيلة والإيمان المسيحي. أما روايتها الأولى فهي ذات موضوع آخر لا يختلف كثيرًا بتركيزها على شقَّين مُهميْن، الأول هو معاناة المرأة في مهنة المربية، التي كانت رائجة حينئذ للفتيات كونهن غير قادراتٍ على الانخراط في الدراسة الجامعية على عكس الذكور. وتكتب السيدة أمبيرلي (واحدة من أوائل النسويات الإنجليزيات المطالبات بحق الاقتراع والمدافعة عن حق المرأة في السيطرة على الحَبَل) في يومياتها: “أقرأ أغنس غري، وعلى كل عائلة تملك مربية أن تقرأها، وسأقرأها مجددا إذا حظيت بمربية لتذكرني أن أكونَ إنسانًا“. إنَّ الصراع في هذه المهنة هو صراع المربية إنسانًا ضد العائلة التي تعمل لديها ولا ترى فيها إنسانًا، تبزغُ الرغبة في إثبات الذات بإجبار المُوظِّفِ أن ينظرَ إليك باحترام لا أن تبقى معلَّقًا بين مقام المربية ومقام الخادم، فلا أنتِ مربية ولا أنتِ خادمة، هكذا تجلَّت معاناة أغنيس في هذه الرواية. أما الشقُ الآخر المهم لهذه الرواية فيشمل عدّة مواضيع منها التربية والنقد الاجتماعي والإنساني والتأديب النفسي والكفاح في الحياة وهو ما يجعل “أغنس غري” رواية سيرة لحياة مؤلفتها.
شهدَت عائلة الخوري باتريك برونتي في السابع عشر من كانون الثاني/ يناير 1820 ميلادَ آن برونتي، الأخت الصغرى، السادسة في ترتيبها بعد أربعِ أخواتٍ وأخ وحيدٍ، في ثورتون وقُبيل انتقال العائلة إلى قرية هاورث حيث استقرَّت ووافتها المنيّة ودُفِنت خلا آن. كان ميلادُ آن إيذانًا بمآسٍ عديدة قاستها العائلة فبدأ صراع والدة آن، ماريا برونتي (ماري برانويل)، مع المرض في الغالب هو السرطان، وبقيت في حالٍ يُرثى لها واستنفد محاولة علاجها مدَّخرات زوجها حتى كاد يُفلس تماما لولا معوناتٍ حصل عليها، ووافتها المنية في الخامس عشر من شهر أيلول/ سبتمبر سنة 1821. ويبدو أنَّ ماريا قد أكسبت ابنتها الصغرى ضعفًا ولاديًّا، وأصيبت آن بالربو في صغرها فتلقَّت عناية العائلة ورعايتها. تكتب شارلوت في سنواتٍ لاحقة قائلة “بدا عليها أنها وُلدتْ لتموت مبكرا“. اضطُرت خالة الأخوات برونتي، إليزابيث برانويل، إلى القدوم إلى قرية هاورث وإعانة زوجِ أختها المتوفاة في تربية أطفاله وإدارة شؤون المنزل، وساعدته ماديًا كذلك على الرغم من رفضه قبول إحسانها فكانت تدفع له إيجار غرفتها في المنزل لكيلا تجرح مشاعره بالعطاء المباشر. تعلَّقت الخالة بآن وحفَّتها برعاية خاصة نظرًا لأنها البنت الصغرى وأشبه الأخوات بأمها، وكان لمذهب الخالة الميثوديّ تأثيره الكبير في الصغيرة آن. تقول وينفريد جيرن إن الخالة برانويل حاولت أن تجعل من هذه الصغيرة ذات الطبيعة المحبوبة والاستثنائية مُشكَّلةً مثلها عقلًا وقلبًا. وهذا ما نرى ملامحه كثيرًا في روايتيْها وشعرها.
نشأت آن في جو عائلي حضَّ على المعرفة والقراءة وبدت النجابة واضحة على محيا الأطفال الصغار وهذا ما لاحظه الأب باتريك فيَذْكرُ في إحدى رسائله حادثة تعزز من هذا الاستقراء لبيئة نشأة الأطفال: “عندما كان أطفالي صغارًا، وبقدر ما تُسعفني به الذاكرة، كان كبراهم في سن العاشرة تقريبًا، والصغرى في سن الرابعة. اكتشفت أنهم كانوا يعرفون أكثر مما ظننت، ولجعلهم يتحدثون بخجل قليل، ظننتُ لو جعلتهم يرتدون غطاءً ما فإني قد أجني الثمرة التي أريد، وبإيجادي قنًاعا في المنزل، أخبرتهم أن يقفوا جميعًا ويتكلموا بجرأة تحت القناع. ابتدأت مع الصغرى (آن) وسألتها: ما أكثر ما ترغب به طفلة مثلك؟ أجابت: البلوغ والخبرة. وحين سألت التالية (إميلي): ما أفضل ما يجب أن أفعله لأخيها برانويل الذي كان شقيًا أحيانًا؟ أجابت: تحدثه بالعقل، وحين لا يستجيب للعقل تجلده. وعندما سألت برانويل: ما أفضل طريقة للتمييز بين عقول الرجال والنساء؟ أجاب: أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين أجسادهم. وحين سألتُ شارلوت: ما أفضل كتاب في العالم؟ أجابت: الكتاب المقدس. وما الكتاب الذي يليه؟ أجابت: كتاب الطبيعة. وحين سألت التي تليها (إليزابيث): ما أفضل نموذج تعليمي للنساء؟ أجابت: الذي يجعلها قادرة على إدارة المنزل جيدًا. وحين سألت الكبرى (ماريا): ما أفضل وسيلة لتزجية الوقت؟ أجابت: أن تستلقي في الهواء الطلق وتُحضِّر لخلود سعيد“.
لم تستمر الأجواء الهادئة في العائلة إذ سرعان ما نزلت عليهم ثاني المصائب بعد إرسال الأخوات الأربع الكبريات في سنة 1824 إلى مدرسة كاون بريدج الداخلية ولسوء التغذية والصحة هناك تمرَّضت الأختان الكبيريان ماريا وإليزابيث وتوفيتا في النصف الأول من سنة 1825 تباعا في نحو شهرٍ واحدٍ، كان لهذه الحادثة أثرها في العائلة والأخوات ومرَّت عليها شارلوت في الفصول الأولى من روايتها “جين إير“. وما يعنينا هنا في هذه المدة هو بقاء آن وحيدة في المنزل مع خالتها والخادم “تابي” التي سيكون لها دورٌ في حياة الأخوات وشهدت وفاتهنَّ جميعا. تتعارضُ الأخبار والتحليلات حول شخصية الخالة إليزابيث برانويل فترى فيها جيرن شخصية حادة الطباع وصارمة ولم تُظهر عاطفة كبيرة تجاه ابنة أختها وما كانت لتُقبِّلها قبل النوم حيث نامت آن وحيدة في غرفة مظلمة غير مهوَّاةٍ. في حين يرى كاتب السيرة نيك هولاند عدم صحة هذا وأنَّ خالتها أبدت عاطفة كبيرة ورعاية خالصة لآن. بيد أن ما يُلاحظ من بواكير كتابات آن الشعرية أنها عاشت في عالمٍ ورعٍ تقيّ انعكس في شخصيتها وتصف شارلوت أختها بعد سنوات لاحقة بالورعة والمتديِّنة. والقارئ لروايتي آن يكشف ذلك بسهولة على العكس من روايات شارلوت أو إميلي.
التمَّ شملُ الأخوات مجددًا بعودة شارلوت وإميلي في خريف سنة 1825 من مدرسة كاون بريدج، واستمرَّ تعليم الأخوات الذاتي بإشرافٍ من والدهن وخالتهن، وبدأت بعد نحو سنتين تتفتَّق موهبة الأطفال الأدبية فدوَّنت شارلوت وبرانويل دون أختيهما “مجلات صغيرة” و“حكايات الجُزُر“. ولعب فارق السن بين آن وشارلوت وإميلي وبرانويل دورًا في ترعرعِ آن قريبةً من إميلي كأنها توأمها، كما وصفتها إلين نوسي صديقة العمر لشارلوت، وشاركتها الكثير في حياتها وتعلمت منها حبَّ الطبيعة. وبقيت طوال حياتها مقرَّبة من إميلي، الأخت العزيزة والصديقة، وتَظهرُ في رواية “أغنس غري” بشخصية الأخت ماري. تعززت العلاقة بين آن وإميلي بعد ذهاب شارلوت لإكمال دراستها في مستهل سنة 1831 في مدرسة روهيد حتى عودتها في نهاية سنة 1832، وكانت هاتان السنتان كافيتين لتشرعَ الأختان في كتابة قصتهما الخاصة، وهي قصة متنامية عن جزيرة غوندال Gondal في المحيط الهادئ، استمرَّ تدوينها حتى سنين متأخرة من حياة الاثنتين، وربما لم يتوقَّفا قط كما تُلمح بعض القصصات وأوراق اليوميات المتبقيّة بيد أن محتوى قصة غوندال لم ينجُ لأسباب مجهولة من أكثرها شيوعًا هو تخلص شارلوت من كتابات إميلي وآن بعد وفاتهما ولم تحتفظ إلا بالأشعار. مارست شارلوت دورًا إرشاديًا في توجيه أختيها أدبيا وفنيا حين كانت تدرس في روهيد وبعد عودتها إلى هاورث حتى سنة 1835 حين وجبَ على إميلي مغادرة هاورث إلى روهيد للدراسة مع أختها شارلوت التي حظيت بوظيفة معلمة في ذات المدرسة، بيد أنَّ طبيعة إميلي الانطوائية والمتعلَّقة بالمنزل أجبرَ العائلة إلى إعادتها إلى المنزل واستبدالها بآن برونتي التي عانت من وَحدةٍ وشعرتْ بالتغيير الكبير في حياتها بسبب التحاق إميلي بالمدرسة الداخلية وابتعادها عنها، واستمرَّت هذه التنقلات والتغييرات في حياتها بعد التحاقها هي بالمدرسة الداخلية وابتعادها عن إميلي مجددًا. قضت آن سنتين وثلاثة أشهر في مدرسة روهيد وأبدت فيها تفوِّقًا ونجاحًا حتى عادت بعد إكمال الدراسة إلى منزلها في هاورث. وبفضل الآنسة وولر، ناظرة مدرسة روهيد، حظيت آن على أول وظيفة لها للعمل مربية لدى آل إنغام، في نسيان/ أبريل سنة 1839، بيد أنها لم تستمر كثيرًا لدى آل إنغام ولم تتأقلم مع الصغار الأشقياء جوشا وماري ومارثا في هذه العائلة، واستُغنيت عن خدماتها قُبيل نهاية السنة نفسها. وحظيت بعد نحو خمسة أشهرٍ في أيار/ مايو 1840 بوظيفة مربية جديدة لدى آل روبنسون وبدأت العمل في قصر العائلة “ثورب غرين“، حيث قضت معهم نحو خمسة أعوام حتى صيف سنة 1845. تركت آن العمل بقرارٍ مفاجئ تُعزى أسبابه لعلاقة أخيها برانويل بالسيدة روبنسون بعد أن أمَّنت له آن وظيفة مرشد للابن إدموند ما بين 1843-1845. كان لهذه السنوات تأثيرها الكبير في شخصها وأدبها وعرَّفتها على مجتمع جديد مختلف في أخلاقياته عما تعوَّدت عليه آن، ونمَّت مبادئها القويمة وسلوكها الحصيف وفكرها الرزين، وهو ما يظهر لنا جليًّا في روايتها الثانية نزيلة قصر ويلدفيل، وألمحت إلى بعض تلك السلوكيات والأجواء الاجتماعية في رواية أغنس لكنها اقتصرت عموما في هذه الرواية على تجربة العمل مربيةً لدى الأسرتين.
لا يُعرف على وجه اليقين إن أحبَّت آن رجلًا في حياتها لكن يذهب بعض دارسي حياتها إلى وقوعها في غرام ويلي وتمن في سنوات عملها مربيةً. جاء وتمن في شهر آب/ أغسطس سنة 1839 إلى هاورث ليعمل مساعدًا لوالدها الخوري باتريك ولازمه حتى وفاته المبكرة في سنة 1842 بسبب الإصابة بمرض الكوليرا الذي انتقل إليه لكثرة اختلاطه برعايا الأبرشية وعيادته لهم. أحبَّت آن وتمن حبًا –في الأرجح– لم يُعرف إن كان متبادلًا أو من طرفٍ واحد، لكن له أثرُه في عواطفها وفكرها وظهر وتمن في شعرها، وروايتها أغنيس غري بشخصية الخوري وستون. نشأت علاقة قوية بين باتريك برونتي ووتمن وصفها باتريك أنها علاقة أب وابنه، وهو الوحيد الذي حظي بامتياز ولوج بيته ومجالسة عائلة باتريك كأنه فرد من العائلة، بيد أن شارلوت انزعجت منه بسبب طبيعته التحبُّبية للنساء وقالت بإنه سيقع بغرام أي امرأة يقابلها، ويبدو أنها شعرت بالغيرة كذلك إذ تكتب في رسالة لصديقتها نيلي في كانون الثاني/ يناير 1842: “قعد مقابلًا لآن في الكنيسة متأوِّهًا برقة ومحدِّقًا إليها بطرف عينيه ليكسب مشاعرها– وآن هادئة جدًا ومطأطأة الرأس– كأنهما لوحة“. لم يكتب لهذا الحب خاتمة جميلة وبقي قصة غير مكتملة بسبب وفاته في سنة 1842، وهي السنة التي شهدت أيضًا وفاة الخالة إليزابيث.
اجتمعت الأخوات مجددًا في سنة 1845 بعد ترك آن عملها في قصر ثورب غرين وعودتها إلى هاورث، وسبق ذلك فشل فكرة الشروع في تأسيس مدرسة داخلية تُديرها الأخوات، بعد أن سعت شارلوت وإميلي لتحقيقها دون أن يحالفهما النجاح. هكذا وجدت الأخوات أنفسهن بلا عمل ولا مصدر دخل وليس لديهن إلا ما تركته خالتهن من إرثٍ وشهدَ خريف هذا السنة واحدةً من أهم الانعطافات في تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث. تذكر شارلوت في مقدمة روايتي أختيها “أغنس غري ووذرينغ هايتس” المنشورتين في طبعة خاصة سنة 1850 عن تلك الانعطافة (كتبت شارلوت المقدمة بلسان رجلٍ) ’في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نَظْمِ الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة– إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقا جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة […] في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى [آن] قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في ثنايا شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة‘. نتجَ عن هذا الإقناع لإميلي وكشف آن لقصائدها التي كانت تدوَّنها في سنواتها السابقة صدورَ ديوان جمع قصائد مختارة للأخوات الثلاث على حسابهن الخاص من الناشر Messrs Aylott & Jones في بدايات شهر أيار/ مايو 1846، بأسماء مستعارة هي (آكتون بيل “آن“، إيليس “إميلي“، كُورير “شارلوت“). كان الديوان أنيقًا، ومكونًا من 165 صفحة بطبعة واضحة وورق جيد، ومغلّفًا بقماش أخضر مُدهام1. بيد أنَّ هذا العمل لم يلقَ نجاحًا على مستوى المبيعات أو التلقي الأدبي والنقدي لذا قررت الأخوات التحول إلى الرواية لعدَّة أسباب أنهن زاولن الكتابة النثرية خلال سنواتهن السابقة ولشارلوت محاولات قصصية. تحقق للأخوات الثلاث كتابة روايات أغنيس غري لآن، ووذرينغ هايتس لإميلي، والأستاذ لشارلوت، في سنة 1847. وبدأن رحلة البحث عن ناشرٍ انتهت بقبول الناشر Newby لروايتي آن وإميلي ورفض رواية شارلوت فسعت بعد ذلك لإقناع الناشرين بروايتها وجاءها في الأخير رفضٍ محترمٍ من الناشر جورج سميث، الذي سيصبح ناشرها لاحقا، وطلبَ منها عملًا آخر فخرجت إلى الحياة رواية “جين إير” في تشرين الأول/ أكتوبر 1847 ولمّا تُنشر بعد روايتي آن وإميلي إلا بمرور ثمانية أشهر تقريبًا في كانون الأول/ ديسمبر في ثلاثة مجلدات. ضمَّ أول مجلدين رواية إميلي والمجلد الأخير رواية أغنس غري التي نشرت باسم مستعار هو آكتون بيل. وجدير بالذكر أنَّ الأخوات لم ينشرن أعمالهن بأسمائهن الحقيقية في حيواتهن قط ولهذا أسباب أُجملها لغاياتٍ تخص التقبل النقدي وتجنُّب أي تحيِّز ضد أدبهن لأنهن نساء وتكتب شارلوت عن هذا القرار ’ولنفورنا من إطلاع الناس على هُويَّاتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات النفس باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا بمحاباة وتُظنُّ أنها كتابات “نسائية”- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز، ولاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة‘.
لم تتوقف آن عند رواية أغنس غري إذ لم تبح بكل ما في جَعبتها في هذه الرواية فأردفتها بروايتها الثانية “نزيلة قصر ويلدفيل“، ونُشرت من ناشرها الأول Newby في حَزيران/ يونيو 1848، وأظهرت فيها براعة وتميِّزًا وحظيت بإشادة نقدية وردِّ فعل متباين لموضوعها الاجتماعي النقدي الصريح واللاذع، الذي كان سببًا في رفض شارلوت منح الإذن بإعادة طبعها بعد وفاة أختها، ووصفتِ العمل بالغلطة الكبيرة، وهو سبب من الأسباب التي أرجِّحُ أنها أدَّت إلى انزواء آن إلى ظل أختيها نحو قرنٍ من الزمن.
عادت المصائب إلى عائلة برونتي في سنة 1848، إذ توفي الأخ الوحيد برانويل في أيلول/ سبتمبر بعد صراعٍ مرٍّ ومعاناة إثر علاقته المشؤومة مع ليديا، زوجة السيد روبنسون، موظِّفة آن الثانية، انحدرَ بسببها إلى إدمان الكحول والأفيون. وبعد نحو ثلاثة أشهر تُوفيت إميلي مصابةً بالسل في واحدة من أغرب وفيات العائلة إذ رفضت العلاج مدَّعية سلامتها وعدم إصابتها بالمرض الذي ما أقرَّت به إلا قبيل ساعاتٍ من موتها. كان لهاتين الوفاتين أثرٌ كبير في شارلوت وآن والأب باتريك، بيد أن المصائب لم تنتهِ عند هذا الحد إذ بدأت في السنة التالية صحة آن بالتدهور مصابة بالسلٍ أيضًا أحسَّت فيها بقدوم الموت فخلَّدت أحاسيسها في آخر قصائدها الوجدانيّة الورعة المخاطبة لربها، جاء فيها:
ظلامٌ مُفزعٌ يقتربُ/ من عقلي الحائرِ/ دعني أُعاني ولا آثمُ/ وأُعذَّبُ بعد الاستسلامِ
رغمَ عالمِ الضبابِ الأعمى/ ما يزالُ يتركني أنظرُ إليه/ ويَمنحني الشجاعةَ لأقاومَ-/ الشيطانَ حتى يهربَ
تُوفيت آن في الثامن والعشرين من أيار/ مايو 1849 في منطقة سكاربرا الشاطئية حيث البحرُ الذي أحبَّته آن، بعد أن ذهبتْ في أيامها الأخيرة إلى منتجعٍ سياحي رفقة شارلوت وإلين نوسي على أمل أنَّ تغيُّر الأجواء يساعد على تحسُّن صحتها. دُفنت آن في ساحة كنيسة القديسة ماري وكُتب، بخطأ من نوسي، على شاهد قبرها أنها تُوفيت في الثامنة والعشرين من العمر في حين أنها قد أتمَّت التاسعة والعشرين قبل وفاتها. وبسبب عوامل التعرية المناخية سقطت أجزاءٌ من شاهد قبرها، ووضعَ مجتمع برونتي لوحًا في سنة 2011 ذاكرًا المكتوب على شاهد قبرها الأصلي مع التصحيح.
1- سيرة آن برونتي – وينفريد جيرن. طبعة 1959.
المصادر والمراجع:
1- Agnes Grey – Anne Bronte.
2- The tenant of Wildfell hall – Anne Bronte.
3- Anne Bronte – Winifred Giern.
4- Crave the rose Anne Bronte at 200 – Nick Holland.