هزليات الوردي
قراءة في فكر علي الوردي ومنهجه
عمران أبو عين
يُعدُّ الدكتور علي الوردي من أبرز الشخصيات وأكثرها شهرة في مجال علم الاجتماع، وله جمهور عريض إلى اليوم، خصوصاً بين المراهقين والشباب، إذ تنشر كتبه ويعاد طبعاتها مرارًا وتكرارًا مع فقدان كثير منها لبريقها حتى أصبح جزء كبير من كتاباته بلا قيمة علمية اليوم، حتى الدراسات والمراجع التي اعتمد عليها الوردي في كتبه أمست هي الأخرى بحكم المنسي، لقدمها من جهة ولتغير المجتمعات وأنماط حياتها من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى أن الوردي اعتمد أصلاً على دراسات كُتبت وأُنتجت في بلاد الغرب، أي أنه استوردها ثم أسقطها على مجتمعاتنا التي تختلف كلياً عن تلك المجتمعات الغربية في سلوكياتها ومبادئها وقيمها وعاداتها، حتى لا نكاد نجد شيئاً مشابها بينها. ومَنْ قطع شوطاً كبيراً في عالم القراءة والمطالعة، وتنامتْ لديه ملكة نقدية يدرك تماماً بأن الكثير مما كتبه الوردي اليوم هو في الحقيقة كلام لا يمكن أن يُعتمدَ عليه في بحوث أو دراسات رسمية، فهو أقرب إلى العامة التي تُعجب بالغرائب ونقد الذات والانبهار بالغرب وكلام القيل والقال، والذي يقرأ للدكتور الوردي يلاحظ مدى تكراره لعبارات من قبيل “حدثني فلان” وأخبرني أحدهم”، “ورأيت كذا”، و”حصل مع أحدهم كذا”… إلخ من العبارات العامة والفضفاضة، والأقرب إلى “السوالف” منها إلى البحث الجاد والرصين، حتى إنه يجعل من موقفٍ أو قصة رواها له أحدهم على أنها قضية نفسية، يبدأ بتعميمها وتكرارها. وربما سبب إعجاب الشباب والمراهقين بكتابات الوردي أن الدكتور كثيرا ما يلعب على وتر العاطفة ويدغدغها، ويستخدم عبارات وجُمل توحي لقارئها وكأنه يتحدث عنهم ويدافع عن قضاياهم! والحقيقة أن ما قام به الوردي هو نقل كلام العامة المنتشر في المجالس والطرقات، وسردها بلغة فصيحة في كتاب، ليصبح بعد ذلك علماً وبحثاً! وإننا لا نجد من يكتب في هذا المجال مَنْ يعتمد على الوردي مرجعًا له، وكذلك لا نجد الجامعات العربية -حسب علمي- من يتَّخذ مؤلفات الوردي مقرراتٍ دراسية رسمية. فهو، كما قلنا، شعبيٌّ إلى أبعد حد، فكل من وجد نفسه مظلوماً في المجتمع، أو لم يأخذ حقه كاملاً، يلجأ إلى كتابات الوردي ليريح ضميره، ويلقي التبعة على المجتمع، هذا المجتمع الملموء بالشرور والبغض والحسد والتناقضات، كما يرسمها الوردي للقارئ، حتى إنك لا تجد شيئاً إيجابياً فيه، وكأن القضة تصيد للأخطاء، لا لدراسة المجتمع بسلبياته وإيجابياته.
والمتتبع لكتابات الوردي سيلاحظ بأن لديه بعض الأفكار، يجترُّها في مختلف كتبه، كمسألة الانحراف الجنسي والمصلحين والدعاة أو ما يسميهم “وعاظ”، وبعض الموضوعات التاريخية التي يستطيع القارئ اذا ما جمعها ورتَّبها أن يدرك النظرة “الطائفية ” فيها -وإنْ لم يصرح بذلك- مثل تكرار الكتابات عن الدولة الأموية ومسألة القتال بين الصحابة وغيرها من المواضيع ذات الصلة، وسنتناولها في فقرة “العقدة الموروثة”، بالإضافة إلى مسألة تحرير المرأة والاختلاط والحجاب، وأيضاً الانبهار لحد عجيب بالغرب ونظامه الاجتماعي. وسنتحدث في هذا المقال عن بعض هذه الموضوعات بشيء من التفصيل، وأخرى نتناولها بإيجاز، من خلال ما كتبه الوردي بنفسه، إذ سنطبّقُ منهجَ الوردي على الوردي نفسه.
عقدة موروثة لا فكاك منها
ولد علي الوردي في مدينة الكاظمية سنة 1913م، وكانت مدينة الكاظمية حينذاك مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 15 ألف نسمة، إلا أنها كانت مدينة مقدسة ذات أهمية دينية واجتماعية، فهي مزار من المزارات المهمة لدى الشيعة، ففيها مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد، لذا يقصدها الشيعة للتبرك والزيارة، فهي مدينة ذات تراث ديني أصيل. في هذه المدينة ولد الوردي وترعرع ونشأ، وتعلم الكثير من عاداتها وتقاليدها وقيمها. اختلط الوردي مبكراً بالناس، وخبر طبائعهم، إذ اضطر لأن يعمل في وقت مبكر من حياته ليعيل والده ويكسب الرزق، ومرَّ بطفولة شبه بائسة مع معاناة وحرمان، وعمل عطاراً في إحدى الدكاكين، وطرد من هذا العمل بسبب كثرة قراءته في أثناء العمل كما يقول عن نفسه، فيقول: “كان يريد مني أن انتصب في جلستي متيقظا أتصيد المشترين وأقابلهم بترحاب ووجه بشوش، بينما كنت في قرارة نفسي أكره المشترين، أو لا يكاد يُقبل علي أحدهم على الدكان حتى أتمتم باللعنة عليه وعلى أستاذي معه، وكنت أنتهز فترة غياب أستاذي عن الدكان لأنهمك في مطالعة الكتب ولا أُبالي آنذاك بمن يأتيني أو يذهب عني من المشترين…”. ويقول عن هذه المدة “إن شخصيتي نمت على أساس من المرارة لا حد له”، خصوصاً وأن هذه المدة كانت سني تشكيل الشخصية. وسنرى كيف أن هذه المرارة التي شكلت شخصية الوردي كان لها الأثر الكبير في ردود الوردي على كل من خالفه الرأي أو نقده بكلمة. وقبل الكلام عن هذه “العقدة” التي ورثها من بيئته، نحب أن ننوه إلى عدم اهتمامنا بمذهب الرجل وعقيدته، لكن المشكلة هي تغليف هذه العقيدة بغلاف “علم الاجتماع”، والاِدِّعاء بالحيادية في دراسة التاريخ والأحداث، وخصوصاً الخلافيّة منها، التي تأتي دائماً مطابقة لرأي مذهب الكاتب الشيعيّ وقومه لدرجة كبيرة يلاحظها القارئ في مختلف كتابات الوردي عندما يتناول هذه المواضيع، أو حتى اقحامها في قضايا لا صلة لها بصلب الموضوع المبحوث.
ففي مثل هذه الظروف والبيئة نشأ الوردي، وتشكَّلت شخصيته، سنوات الطفولة والمراهقة، وهي السنوات التي يتطبَّع الفرد فيها بطابع معين لا يستطيع التخلص منه إلا في حالات نادرة، فقد تحدث الوردي عن مثل هذه الحالة، ورجع بنا مئات السنين ليضرب لنا مثالاً عن أبي سفيان -رضي الله عنه- في كتابه “وعاظ السلاطين” إذ يقول: “من المحتمل جداً أن يكون أبو سفيان في دخيلة نفسه حاقداً على الإسلام كارهاً له… ليس من المستبعد أن تكون قد نشأت في عقله الباطن عقدة نفسية ضد الإسلام وأهله. والعقدة إذا تكونت في النفس صعب زوالها في مدة قصيرة”. فمن المحتمل أن الدكتور الوردي كانت يتحدث عن نفسه عندما تكلم عن أبي سفيان، فعقدة كراهية الناس التي تشكلت عند الوردي منذ طفولته وهو يعمل في دكان العطارة، وكيف أنه ما عاد يحتمل من أحد أيَّ “موعظة” كما يسميها، ونتيجة للعقدة النفسية التي تكونت عند الدكتور والعادة التي اكتسبها في طفولته وشبابه في مدينة الكاظمية، مدينة الزيارات، فقد أصبح ينظر للتاريخ نظرة من زاوية موافقة لنظرة طائفته وقومه، ولم يستطع تركها. ويعيدنا مرة أخرى للوراء -وما أكثر ما يعيدنا إلى حقبة من الحقب- ليدلل لنا عن مثل هذه العقد التي لا يستطيع المرء الفكاك منها إلا نادراً، فيقول: “إن هؤلاء الأشخاص الذين نشأوا على احتقار محمد وعلى مقاومة الإسلام لا يمكن أن تطهر قلوبهم من ذلك في زمن قصير”. وكان يقصد بذلك بني أمية. ويقول: “فدخول قريش، تلك القبيلة المرابية الطاغية، في الإسلام أدى إلى فساد الإسلام وإلى سلوكه سبيل الترف والطغيان”.
ووصل الحال بالدكتور، نتيجة لهذه العقدة التي اكتسبها من بيئته في طفولته ومراهقته، إلى أن يرمي الكلام على عواهنه دون دليل، فيقول كلاماً في منتهى في العجب: “إني أتهم مروان بأنه كان السبب الأكبر في مقتل عثمان، وأتهم معاوية هو الذي أوعز إلى مروان بذلك”. وغيره من الكلام المرسل الذي تفوح منه رائحة عقدة لم يستطع صاحبها التخلص منها، وإلا فالكلام على هذه الشاكلة كثير، لا يصلح أن يُقدَّم دراسةً أو بحثا، فهو كما يُقال أقرب إلى كلام الديوانيات والمجالس، وليس لشخص يدرس تاريخاً واشخاصاً ومواقفَ معينة. ومن العجائب الصادرة عن عقدة لا يستطيع صاحبها التخلص منها، ما ذكره الدكتور الوردي في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” إذ يقول: “ولعلني لا أغالي حين أقول بأن بني أمية أرادوا بتشجيعهم للشعر تخدير العقول وإشغالها عن النظر فيما جاء به الإسلام من تعاليم اجتماعية جديدة”. هكذا ببضع كلمات، يصدر حكما “لا يغالي” فيه على قضية كقضية الشعر ودولة امتدت مئاتِ السنين، ليقول إن ازدهار الشعر فيها كان إشغالاً للناس عن الإسلام! حتى إن الدكتور عندما أراد أن يذكر مثالاً لكلام له عن ما يسميه “الوعظ والصراع النفسي” ، ذكر قصة أن عمر بن سعد بن أبي وقاص وقع ذات يوم في مثل هذا المأزق -أي مأزق الوعظ والصراع النفسي- فقد وعده زياد بإمارة الري إنْ هو خرج لقتال الحسين فانتابته آنذاك الوساوس وبلغ منه التردد مبلغاً عظيماً، أيرفض قتال الحسين وفي ذلك خسران للإمارة، أم يذهب لقتاله وفي ذلك ما فيه من وخز الضمير وسوء المنقلب؟ وبالرغم من إنه يقول: “إن هذه رواية تُروى، ونحن لا ندري مبلغ ما فيها من صدق”. فمن بين آلاف الأمثلة التي يمكن أن يدلل عليها الشخص في قضية “صراع نفسي” إلا أن الدكتور أصر على اختيار هذه القصة التي لا يدري مدى صحتها وما فيها من صدق! ووصل به الحال أن قال في كتابه خوارق اللاشعور: “أما اتباع محمد فهم، كما قال المعري، إما عقلاء لا دين لهم أو متديّنون لا عقل لهم”.
وفي معرض حديثه عن بعض الشخصيات، نجد أن “العقدة الموروثة” تتدخل لتصدر أحكاماً نابعة عن هوى صاحبها، ففي كتابه منطق ابن خلدون، ص 58، يقول: “وأهم من تأثر بهم ابن خلدون من هذه الناحية، فيما أعتقد، هم الغزالي وابن تيمية، والواقع أن هذين الرجلين هما أعظم من نقد المنطق الأرسطي في القرون الوسطى كلها، سواء في أوروبا أو في غيرها من البلاد الإسلامية. وهما وإن كانا قد نقدا المنطق في سبيل غاية دينية بحتة، إلا أنهما قد توصلا من ذلك إلى آراء لا تقل من بعض وجوهها عن آراء الفلاسفة الحديثين”. لكن بعد عدة صفحات من الكتاب نفسه، ص 163 ، نجده يقول: “نحن لا نعرف على وجه اليقين رأي ابن خلدون في مسلك ابن تيمية. أرجح الظن أنه كان لا يرتضي ذلك المسلك أو يراه عبثاً لا طائل وراءه. وأحسبه يلوم ابن تيمية قائلا: “ما لك يا أخي تتعب نفسك فيما لا فائدة منه، فتدعو إلى إصلاح المجتمع من غير معرفة بالقوانين التي يسير عليها المجتمع”. فبالرغم من انبهار الرجل بابن تيمية، إلا أن “العقدة الموروثة” أبت إلا أن تلمزَ ابنَ تيمية باختلاق كلام متخيل على لسان ابن خلدون موجهاً لابن تيمية. ونجد للوردي كلاماً عن ابن حجر الهيتمي، وأنه من علماء السلطان… في كتابه “الأحلام بين العلم والعقيدة”.
وفي المقابل، أفرد الدكتور الوردي في كتابه وعاظ السلاطين فصلاً بعنوان “علي بن أبي طالب”، وأخذ يحشد كلام المخالفين له والذين يتفقون معه عن علي -رضي الله عنه- وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام مدحه أكثر من غيره من الصحابة، وكيف أصبح ذكراه -أي علي رضي الله عنه- ملجأً روحياً لكل من يشكو من الظلم أو الاستبداد، وغيره من الكلام والنقولات. وفي كتاب “خوارق اللاشعور”، يذكر الدكتور قصة يقول فيها: “… ما يروىُ عن علي بن أبي طالب من أنه كان في أيام خلافته في الكوفة يكثر من الجلوس في دكان بقال، إذ كان البقال صديقه، وكان الخليفة يبيع التمر مكانه إذا غاب”. ويذكر في موضوع آخر فيقول: “إن علي بن أبي طالب كان أعظم من تأثّر بالقرآن.. والمعروف عن هذا الرجل أنه عاش في بيت النبي منذ طفولته”. وغيرها من المواقف التي ينافح فيها عن شخصيات بعينها، دون غيرها من عامة الشخصيات! وبالطبع لا ننكر مدحاً لعلي أو غيره، فهو أهلٌ لهذا المدح، صحابي جليل وخليفة عادل، لكن ما نقلته هنا من كلام الوردي لكي أدلل على أن الذي يريد أن يدرس تاريخاً أو أشخاصاً بعينهم، أو مواقف بعينها، لا يمكن أن يكون بهذه النظرة والطريقة. فهناك العديد من الكُتّاب إلى اليوم، ممن لديهم إشكال مع حدث أو موقف أو شخصية، لا بأس في ذلك، لكن أن يكون لديك موقف من شخصيات بعينها، ومن أحداث ومواقف معينة وتاريخ بعينه…الخ، وتأتي كلها متطابقة لعقيدة قوم بعينهم، فلا يمكنني إلا أن اسميها طائفية أو مذهبية أو عقدة ورثها صاحبها من أهله وقومه قد تشكلت بها شخصيته في طفولته وشبابه، ولم يستطع صاحبها التخلي عنها، فمثل هذه الآراء على مجموعها لا يمكن أن تأتي مصادفة هكذا، حتى لو غُلِّفتْ بغلاف الدراسة وعلم الاجتماع، وربما ينقضي العجب قليلاً عنما نستذكر كلاماً للدكتور في كتابه “منطق ابن خلدون” يقول فيه: “يتضح هذا بصفة خاصة في الأخبار التي تمس مصالحنا أو عواطفنا أو عقائدنا الموروثة أو ما أشبه، فنحن لا نستطيع أن ننظر فيها نظرة موضوعية صارمة، ولا بد لنا من أن نتعصب لها أو عليها قليلاً أو كثيراً”.
الحجاب والاختلاط
وفي قضية أخرى من القضايا التي يتناولها الدكتور الوردي في كثير من كتاباته، هي قضية المرأة والاختلاط، فالدكتور الوردي معجب أيما إعجاب بالطريقة الغربية فيما يخص الاختلاط والسفور أو حرية المرأة، فهو يرى أن تقدم الشباب ووعيهم وإبداعهم في الغرب بسبب هذا الاختلاط، على عكس مجتمعاتنا الشرقية كما يسميها، فالشاب عندنا في نظر الوردي مكبوت، لذا لا يستطيع الابتكار والإبداع. ويرى أن مجتمعاتنا تعج باللواط والسحاق بسبب منعنا الاختلاط والسفور، فقد ذكر الوردي قصة لشيخ أزهريّ متزمت -كما وصفه- من دون أن يذكر اسمه، يروي فيها أنَّ هذا الأزهريّ ذهب في بعثة إلى فرنسا أيام محمد علي، حيث انبهر هذا الأزهريّ بالفرنسيّين وكيف أنهم لا يميلون إلى اللواط أو التعشق بالصبيان، ويعلق الوردي على هذه القصة بقوله: “لقد مدح الأزهريّ الفرنسيّين لكونهم لا يعشقون الصبيان وذمّ نساءهم على سفورهن واختلاطهن بالرجال، وما درى أنهما أمران متلازمان فلا يوجد أحدهما إلا حيث يوجد الآخر”. أي أنه يقول ما دام هناك منع للاختلاط بين الرجل والمرأة، فهنالك لواط وتغزل بالصبيان! يقول الوردي في مقدمة كتابه وعاظ السلاطين: “وقد دلت القرائن على أن المجتمع الذي يشتد فيه حجاب المرأة يكثر فيه، في نفس الوقت، الانحراف الجنسي من لواط وسحاق وما أشبه”. فلا أدري عن أي قرائن يتحدث؟ فإذا أخذنا عبارة الدكتور وطبقناها على المجتمعات الغربية فلن تصمد للحظة واحدة، فهذه المجتمعات التي يعتقد فيها الدكتور التقدم بسبب سفورها واختلاطها، لا يخفى حالها اليوم على كل متابع، من انتشار مئات الامراض الجنسية، انحرافات جنسية لم يسبق لها مثل في التاريخ، انحراف مع الحيوانات، بل وحتى مع الموتى، فضلاً عن اللواط والسحاق الذي أصبح له قانوناً يحميه، كما لا يخفى على أحد. وكما أنه يذكر في كتابه أسطورة الأدب الرفيع: “أضرار السفور أقل من أضرار الحجاب على أي حال”. ويقول في كتابه الأحلام بين العلم والعقيدة: “وقد أتيح لي أن أقارن بين طلاب الجامعات الغربية وطلاب كلياتنا فوجدت بينهم فرقا ملحوظاً. فالطالب الغربي قد اعتاد على مخالطة الفتيات منذ طفولته. وهو لهذا ينظر إلى زميلاته الطالبات كما ينظر إلى زملائه الطلاب، فلا تنتابه إذن أحلام المراهقة على منوال ما تنتاب طلابنا”.
ولا يخفي الوردي إعجابه بالجامعات الغربية، لا لأنها متقدمة في علوم الطب والهندسة أو غيرها من العلوم التي يحتاج إليها بلده العراق بل القُطر العربي بالكامل، بل أُعجب الوردي بما سماه “العناية بالشهوة”، فيقول: “فهي تخصص لطالباتها وطلابها أماكن للاختلاط والرقص، وتساعدهم على التعرف بعضهم ببعض وتهيئ لهم أجواق الموسيقى وتشملهم جميعاً بجو من المرح واللذة البريئة”. ويعلل الدكتور ويقول بأن الأخلاق نسبية، ويعترف بأنه، وتحت تأثير البيئة الوعظية الشرقية المتزمتة، كان يرى ذلك في البداية على أنه من قبيل الإباحية والفسق. وعندما سأل الوردي أستاذه متعجباً ودَهِشاً أخبره أستاذه، على لسان الدكتور: “إننا إذا منعنا طلابنا وطالباتنا عن الاختلاط المكشوف لجأوا إلى الاختلاط المستور بعيداً عنا في جو ملؤه الريبة والإغراء”. -والذي يقرأ للوردي يدرك بسرعة أنَّ هذه العبارة هي من أسلوب الوردي ولا علاقة لأستاذه الغربي بها- ولن أعلق على هذا الكلام، فمثل هذه العبارات التي يراها الدكتور دليلاً وحجة لا يمكن أن يقبلها عقل أو منطق سليم! وعلى الرغم من أن الدكتور كان ينادي بمثل هذا الاختلاط والسفور و”اللذة البريئة” في مجتمعاتنا وجامعاتنا فهو -ويا للمفاجأة!- لم يقبلها على نفسه. فيخبرنا الدكتور وعالم الاجتماع العراقي ابراهيم الحيدري، وهو من أصدقاء الوردي وطلابه، وابن الكاظمية أيضاً، في كتابه “علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية”: “وإذا كان الوردي من أوائل من نادوا بحرية المرأة، فإنه في الواقع وقف ضد ممارسة حريتها، وكان شديد الحرص على ابنته الوحيدة، إذ كان يراقبها عند ذهابها إلى الكلية أو خروجها من البيت للقيام بأي عمل أو مهنة”.
هزليات متفرقة
يُكثر الدكتور علي الوردي من العبارات التي توحي للقارئ بأن الرجل لم يأخذ حقه في الكلام، وكيف أن ما يسميهم “الوعاظ” منعوه أو حرفوا كلامه، وغيرها من العبارات المنثورة في كتبه، التي توحي “بالمظلومية”، فهو يقول مثلاً في مقدمة كتابه وعاظ السلاطين بأنه كتب بحثاً: “كنت قد أعددت بعض فصوله، منذ مدة غير قصيرة، لإلقائه من دار الإذاعة العراقية. فرفضه جلاوزة الإذاعة… لسبب لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم”. ونجد مثل هذا الكلام يتكرر كثيراً عند الدكتور الوردي، من أنه فُهم خطأً وحُرِّف كلامه… إلخ.
ويقول الوردي: “وكل واحد من هؤلاء يحفظ الأقوال التي قيلت في مدحه، بينما هو ينسى الأقوال التي قيلت في ذمه. فإذا جامله الناس ووصفوه بالعظمة، قال عنهم إنهم أناس أفاضل يعترفون بالحق ولا يخشون فيه لومة لائم. أما إذا جابهوه بالنقد المرير قال عنهم إنهم حساد أدنياء لعنة الله عليهم”. فمن يقرأ هذه العبارة يحسبُ أنَّ الدكتور يتقبل النقد المرير كما سماه، أو حتى النقد العادي، لكن الموضوع عكس ذلك، فالوردي طالما هاجم من انتقده بأقذر الألفاظ، ودخل في أحلامهم ليرى فيها ما يعتقدون وبما يفكرون، فيقول مثلاً: “إنه عندما يعجز عن الانتقام من أعدائه في اليقظة يلجأ إلى الأحلام لينتقم منهم فيها انتقاماً لا هوادة فيه” وعندما رد عليه أحدهم وقال له بأنها صفة غير لائقة، ردَّ الوردي: “مشكلة المفكرين عندنا أنهم لا يزالون مصرّين على ريائهم القديم. ولعلهم يطلبون من الإنسان أن يكون فاضلاً في نومه ويقظته معاً. والغريب أنهم يرون في أحلامهم كل أمر خبيث فيكتمون ذلك عن الناس، ويتظاهرون بأنهم جبلوا من طينة ملائكية، ولو شاء الله أن يفضحهم ويخلع عنهم رداء الرياء لظهروا كالقردة والحمير، ينزو بعضهم على بعض بلا حياء. والله الساتر على كل حال”. فلأن الرجل رد عليه بكلمة وقال له “بأنها صفة لا تليق” اتَّهمه الوردي بالرياء، وبأنه كالحمار والقرد ، بل ودخل في أحلامه وقرر أن الرجل يرى أموراً خبيثة… إلخ، وكلنا يعلم معنى عبارة “كالقردة والحمير ينزو بعضهم على بعض”! ولم يستطع الوردي تحمل كلمة نقد واحدة، في الوقت الذي يهاجم خصومه لأنهم لا يقبلون النقد. ومثل هذه الردود الشنيعة التي يرد بها الوردي على كل من خالفه في رأي أو كلمة، نجدها تتكرر كثيراً في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع”، فالكتاب في الأصل مقالات جُمعت في الرد على القضايا التي انتقدها على مخالفيه. ومع انني اطلعت على خمسة كتب من كتب الوردي كاملةً، وهي كتاب وعاظ السلاطين، الاحلام بين العلم والعقيدة، وأسطورة الأدب الرفيع، وخوارق اللاشعور، منطق ابن خلدون، أي بمعدل ما يقارب 1674 صفحة،- فهي من الكفاية للحكم على منهج الرجل، وفي كل هذه الكتب لم أجد ولو مرة واحدة تراجع فيها عن رأي أو مسألة في أي قضية من القضايا التي تكلم فيها، فدائماً ما يكون هو على صواب ومنتقديه على خطأ.
ومن هزليات الوردي أنه كثيراً ما يؤمن بالخرافات، على الرغم من استهزاء الوردي بأحلام البعض وأنها من قبيل الدروشة وسخريته من العادات التي يراها موروثات بالية، فهو يغلف بعض هذه الخرافات والأساطير بغلاف نفسي، على سبيل المثال يذكر الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور” -وما أكثر الخوارق والخرافات في كتابه هذا- قصةً مفادها: “أن سيارة مليئة بالركاب، ومسرعة في سيرها، قد تصادفُ عارضًا بسيطا في طريقها يؤدي إلى انقلابها وموت ركابها. […] وربما انبعثت قوة نفسية ضئيلة من أحد الركاب فتكون ذات أثر فعال في سلامة السيارة أو في هلاكها”! فمثل هذه الخرافات التي ينقلها ويرويها الوردي تجدها تتكرر في كتابه هذا. وينقل مثلاً عن كاتب اسمه “راين” قولاً مفاده بأن: “النفس البشرية تستطيع أن تؤثر في المادة الخارجية بدون واسطة حسية”، ولتبيين هذه العبارة، فهو يقول إنك تستطيع أن تنقل شيئا، كأن ترفع كوب ماء عن الارض دون أن تلمسه بالحس النفسي فقط! وإن كان يقول بعدها: “بأن هذا التأثير ضعيف جداً إذ هو لا يفوق معدل الصدفة”، ويعتمد على مدى تفاؤل الشخص واعتقاده. ونتيجة للعقدة النفسية التي لازمته منذ طفولته في دكان العطار في الكاظمية، وكرهه للناس، فنجد أثر ذلك في كتابات الوردي، أحياناً بنحوٍ غريب لا ندري ما تفسيره، كأن يقول في كتاب “الأحلام بين العلم والعقيدة” مثلاً: “وهنا يجب أن لا ننسى أن الإنسان في أصل طبيعته حيوان، إنه أخ القرد وابن عم الحمار، وهو حين يكتسب الصبغة البشرية، تظل النزاعات الحيوانية كامنة فيه، إنه يتظاهر باللطف وسلامة القلب وحب الخير، ولكن طبيعته البهيمية تأبى الرضوخ لهذا النفاق مدة طويلة. إنه يداريها بعقله الواعي، فإذا نام هذا العقل أو تخدر ظهر الحيوان من باطن الإنسان”. وغيرها من العبارات والصفات التي يطلقها على الإنسان عموماً ومن خالفه خصوصا.
هذا كما أننا نجد الوردي يذكر قولاً لأحدهم ويقول بعدها صدق رسول الله، فلا يفرق بين المقولة والحديث النبوي في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى اعتماده على قصص وروايات وأحداث غير صحيحة فقط ليدلل على صدق قوله. فالموضوعات التي علقنا عليها، هي جزء فقط من الموضوعات التي يكررها الوردي، ويعيد صياغتها مرات ومرات في مختلف كتبه.
خاتمة
إنَّ هدف هذا المقال ليس مدحَ الوردي أو قدحه، بقدر ما هو محاولة إعادة النظر، والقراءة من زاوية مختلفة لكتابات الوردي، فليس كل من له موقف سياسي يأتي بكلام للوردي ليسقطه عليه تحت بند “الوعاظ”، وليس كل من هو منزعج من حالنا يأتي بعبارات الوردي عن الحجاب والسفور ليسقطها على سبب التراجع الذي نعيشه… إلخ. هذا بالإضافة إلى وجوب النظر في منهج الرجل، خصوصاً في القضايا الدينية والتاريخية، وعدم التسليم لها وكأنها حق لا باطل فيه. فكما رأينا، عند تطبيق منهج الوردي وأفكاره على الوردي نفسه، لم يصمد أمامهما، فقد دعا إلى تحرير المرأة ولم يفعل ذلك، واتَّهم ابو سفيان بعقدة ورثها من قومه، في الوقت الذي يعاني الوردي هذه العقدة التي ورثها من قومه وبيئته، وسخر واستهزأ ببعض عقائد العامة في الوقت الذي آمن بخرافات أشدَّ منها، وعاب على الكُتاب بأنهم لا يقبلون النقد في الوقت الذي لم يقبل نقدًا من أحدهم ولو بكلمة… من هنا يستطيع القارئ المتيقظ أن يطبق كل فكرة من أفكار الوردي ويختبرها على الكاتب نفسه، ليرى مدى صمودها وقبولها في نَفْسِ الكاتب أولا قبل عامة القراء، لأنَّ الوردي “كسائر البشر، يخطئ ويحسد ويطلب الشهرة” كما وصف نفسه في كتابه وعاظ السلاطين.