ما حاجة الأطفال إلى التعليم العاطفي؟
The School of Life
ترجمة: ابتهال زيادة
الحقيقة المطلقة التي لا ينبغي إغفالها بشأن أي طفل هو أنه يولد وهو غير مكتمل النضج إطلاقًا. فلا يستطيع الطفل فهم حالته، فحالته هذه لا ترشده لكيفية التواصل، ولا الإحساس بالتعاطف، لا ترشده لأي شيء سوى أن يُولد مشوشًا لا يعرف احتياجاته الخاصة. على مدى سنوات الطويلة، كانت الحاجة إلى توجيه وتنشئة هذا الطفل ليصبح صاحب شأن رفيع أمرٌ صعبُ المنال: تنشئة إنسان ناضج عاطفيًا. لأن التمييز بين البالغ والطفل مسألة مربكة، فيستحيل أن نقيس مدى النضج حسب السن فقط. لا يمكننا التدليل على النضج من خلال النظر في وجه وجسد شخص ما، فضلًا عن مظهره الخارجي أو حتى منصبه المهني. فقد نصادف أشخاصًا قد تجاوزوا التسعين إلا أنهم ما زالوا غارقين في طفولتهم- ولعلنا نصادف أطفالًا لا يتجاوزون التاسعة من العمر إلا أنهم يتفوقون على الكثير من كبار السن في تعاملهم مع تقلبات الحياة.
يلخص منهج النضج العاطفي بعض التحولات التالية في رحلة الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ وهو الاعتقاد المؤثر والحتمي لدى الأطفال أنهم محور الكون.
يجب على البالغين أن يدركوا من خلال مشاعر الحزن والانزعاج الملموسة وجود فئات أخرى من البشر تعيش بجانبهم أيضًا، في حين يصرُّ الأطفال بصوت عالٍ على تلبية رغباتهم مثلًا واحتداد نبرة الإصرار هذه كنبرة ملكٍ غاضب لعصيان أوامره، لذا أُلزم البالغون على التصالح مع فكرة تقديم التنازلات التي تدربهم على التحلي بالدبلوماسية، وأن نقاسي العزلة جراء اختلاف وجهات النظر، في المقابل يظن الأطفال أن الآخرين قادرون على فهم رغباتهم دون الحاجة إلى التعبير بالكلام، لأنهم ظريفون وعلينا فهمهم بالإشارة فإن لم نفعل فسرعان ما سيوقعونا في حبائل غضبهم الشرسة.
هيَّأ البالغون أنفسهم على المتطلبات المملة التي يسترعيها التحدث بهدوء والإفصاح عما يجول في الذهن، ويصعب على الأطفال مثلا فهم تأثير الجسد على الحالة المزاجية، لا يمكننا القول إن حالة اليأس لديهم ما هي سوى مؤشر على الإحساس بالتعب أو التأثر بفائض الحنان.
يدرك البالغون أهمية التعايش مع جسدهم فالجسد يعلم أنه في اللحظات التي تسودها الكآبة لن يجعلنا نعتزل العالم الخارجي بل قد يحثنا على شرب كوب من الماء أو الخلود للنوم باكرًا، في حين يبقى الأطفال الأنموذج المستمر للمطالبات، ويحسبون أولئك الذين يسعون دومًا لإرضائهم بمنحهم كامل الحب والعطف أناس رائعون، وبالمقابل، فإن من يحبط توقعاتهم يخاطر بمكانته فقد يرونه ذلك الشيطان أو الوحش الذي يجب أن يُدمر ويُقضى عليه!
يدرك البالغون أنه لا يوجد في الإنسان الخير أو الشر مُطلق، ولا يندفعون اندفاعًا دائمًا تجاه مشاعر الحب أو الكراهية، لكن يتصور الأطفال أنَّ البالغين على دراية تامة بكل ما يفعلونه، ففي النهاية هم عمالقة ويستطيعون قيادة السيارة وركل كرةٍ على بُعدِ عدة أمتارٍ في الهواء.
يعرف البالغون كيفية السير في خطى أدق بين الشك واليقين على نحو صحيح، وأن الجميع إلى حد ما يسلكون هذه الخطى أثناء سيرهم، أما الأطفال المنغمسون في عالمهم فلن يدركوا حجم الألم أو الانزعاج الذي يلاقيه الآخرون في طريقهم.
يعرف البالغون تمامًا درجة الصعوبات التي يلاقيها الآخرون خاصةً إن كانت هذه الصعوبات تعترض طريق أحبابهم، إذ يشعر البالغون بدرجةٍ كافية بالذنب ويطلبون الصفح أيضًا، في المقابل يخاف الأطفال لا شعوريًا وبشدة، يخافون من افتراس النمور ومن أن يحطمهم معلموهم، أو أن تجرفهم الرياح لأن بعض هذه الاعتداءات متوقعة في العالم الخارجي.
تمكن البالغون من تشخيص مخاوفهم تشخيصًا صحيحًا، بمعنى لديهم إحساس عميق بمنابع تلك المخاوف، أما الأطفال فالحال لديهم إما أن تكون بكاء وإما ابتهاج، لأنَّ طبيعةَ الطفل طبيعةٌ مفعمة بالأمل ويغمرها الإحباط باستمرار وفي ذات اللحظة تكون على أهبة الغضب أو الابتهاج.
اكتسب البالغون مهارة إضفاء حس الفكاهة الساخر على الأحزان، فلا مانع لديهم إن لاحظ شخص ما جوانب عدم النضج في شخصياتهم، ويميز البالغون اللحظات التي تعيدهم إلى طفولتهم، بعكس الأطفال وخاصة المراهقين الذين يصرون بكل جدية وشدة على اكتمال نضجهم، فالناضج هو شخص يعرف كيفية الاعتناء بطفل لأن شخصًا ما قد أشبع طفولته في الماضي مما يعني استحالة اعتناء طفلٍ بطفل.
تنتمي هذه الدروس وغيرها إلى عملية تربوية تُعرف بـ”التعليم العاطفي”. تقديم هذه العملية للتعليم لا يمكن أن يسير سريعًا، بمعنى قد يستغرق إنجاز هذه العملية جهودًا تضاعف عملية تعليم إحدى اللغات الأجنبية بخمسة أضعاف. فالصبر هو أحد أهم المتطلبات الأساسية لمن رغب أن يصبح معلمًا تربويًا، بمعنى يجب أن يتدرب المعلمون من خلال المنهج التربوي على التعامل مع طبيعة الواقع التي تظل ثابتة في حوادث كثيرة قبل وقوعها كنظرة الإنكسار في عيني المربية، وظهور البقع المفاجئة على زوج البناطيل المفضلة، و انتهاء وقت المشاهدة، وعناء الذهاب إلى الفراش، وملل الرحلات الطويلة في السيارة، وموت الجدة، وقدوم غير متوقع لأخٍ جديد بجانب آلاف المآسي الأخرى بصغيرها وكبيرها.
فالمسألة على عكس المناهج الدراسية لتعليم اللغة، إذ يفتقر المنهج العاطفي إلى جدول زمني محدد بدقة. ففي منهج التعليم العاطفي لن نجد الدروس مقسمة تقسيمًا دقيقًا كما في تعليم اللغة كالقراءة الصحيحة للكسور واستخدام أدوات التعريف، فلا يمكن قصر هذه الدروس التربوية أسبوعيًا ظهيرة الخميس أو صباح الاثنين. ستأتي أيام تستلزم إعطاء خمس دروسٍ منفصلة قبل الانتهاء من الإفطار، ودون إنذار سابق بأي تحدٍ قادم، فرحلة النضج العاطفي للطفل شاقة وتسترعي السعي المتواصل لأن عقل صغير السن يتطور في كل دقيقة ما يدفعه إلى أن يصل إلى مستوى النضج المقدر له. لكن ذلك لا يقتضي أن الجميع سيصل لذات مستوى النضج العاطفي في نهاية المطاف، فكما أشجار السنديان التي لا يتعدى ارتفاعها أربعين مترًا رغم قدرة نموها الحيوية للوصول إلى هذا الارتفاع، كذلك هو طريق النضج الذي يسلكه الطفل سعيًا للوصول إليه ما لم تعترضه أي عوائق. يجدر التأكيد على أن جميع عوامل عدم النضج -كالأنانية والتباهي والسعي للكمال وما إلى ذلك- هي عوامل مساهمة للرخاء في سن معينة. لذا يفترض أن يعيش الطفل كل مرحلة من مراحل الطفولة حتى يستقر يومًا ما في مرحلة النضج الحقيقية. ويفترض أيضًا ألا يتوقع المعلمون الذين يثبتون نجاحهم في تدريس منهج التعليم العاطفي تلقي جوائز أو حتى بوادر امتنان معينة. لكن حصاد هذا النجاح سيثمر ثماره الصالحة لاحقًا في ظهور جيل نابض داخليًا بالحياة رفيق بنفسه وقادر على استيعاب من هم أقل نضجًا والآخرين الذين ما زالوا يكافحون أو ربما قد نلمس هذا النجاح في أبنائهم.