معركة نينوى: التاريخ القديم
جوشوا بي
ترجمة: بلقيس الكثيري
تسبب انتصار البيزنطيين في معركة نينوى في حرب أهلية في بلاد فارس، وخلعِ الملك الساساني خُسرو.
اندلعت معركة نينوى الحاسمة خلال ذروة الحرب البيزنطية – الساسانية التي امتدت من سنة 602 م إلى 628 م وأتاحت للبيزنطيين استعادة جميع أراضيهم السابقة، وتحرير أسرى الحرب واسترداد بقايا الصليب الحقيقي (صليب الصلبوت). بعد أن قتل المتمردُ فوقاس الإمبراطورَ موريس، أعلن خُسرو الثاني الحرب البيزنطية – الساسانية، وغزا الأراضي البيزنطية انتقامًا لمقتل صاحبه الإمبراطور. وقد حقق نجاحات عديدة على الرومان خلال مراحل الحرب الأولى، وتمكّن الفرس من غزو مساحات شاسعة من ساحل بلاد الشام، ومصر، وتوغلوا حتى بلغوا الأناضول.
في عام 610 م تُوّج هرقل إمبراطورًا جديدًا. وارتكب العديد من الجرائم لإجبار الساسانيين على الخروج من الأراضي البيزنطية والعودة إلى حدودهم الأصلية. وقد اتخذ خطوة جريئة وشن حملة كبرى على أمل وضع حد للحرب البيزنطية – الساسانية. وقُدر جيشه بحوالي ثلاثين ألف رجل في عام 627 م. مع أن زمن الحملات قد انتهى فعليًا، فقد استطاع تجميع جيش من الرومان والغوكتورك (الأتراك السماويين). وتحالف مع أتراك الأوغوز الذين عاشوا في سهول آسيا الوسطى، وكانوا خير حليف بسبب المقت الشديد الذي يضمرونه للفرس. صار لديه أربعون ألف من فرسان الأوغوز بالإضافة إلى جنوده، وبذلك تقدم جيش هرقل إلى الأراضي الساسانية عبر القوقاز إلى أرمينيا. كان الجيش يتزود بالأعلاف والزاد والماء الذي يجدونه ويسرقونه في تنقلهم وسط الأراضي الفارسية. وعندما قرر الأوغوز العودة إلى وطنهم من أجل فصل الشتاء وانشقَّ عن جيش هرقل، واصل هرقل حملته حتى ظهر الجيش الفارسي المكوّن من حوالي اثني عشر ألف رجل وراء كتائبه.
كان جيش الشاه خُسرو يعاني النقص بسبب غياب الجنرالات. فأفضل اثنين من جنرالاته وأكثرهم براعة لم يكونا موجودَين، بسبب موت شاهين، وفِرار شهربراز إلى مصر معتقدًا أن خُسرو يريد قتله. كان على خُسرو حشد قواته في أسرع وقت ممكن لذا عيّن القائد راهزاد مسؤولًا عن الجيش وهو رجل نبيل شجاع من ذوي الخبرة. مستغلًا وقته سار راهزاد بجيشه مقتفيًا أثر قوات هرقل الذي كان يدمر الأرض ويحرق المزارع. كان باستطاعته منع هرقل من الوصول إلى عاصمة الإمبراطورية الفارسية (قطيسفون).
ونقلًا عن صحيفة الوقائع للقدّيس ثيوفانيس المعترف: «لقد كتب هرقل إلى خُسرو: “أكاتبك وأنا جانح للسلم. فلستُ أحرق بلاد فارس بمحض إرادتي لكنك أكرهتني على فعل ذلك. دعنا نضع أسلحتنا على الفور ونحقق السلام. لنطفئ النار قبل أن تلتهم كل شيء“. لكن خُسرو لم يقبل العرض، وهكذا تنامت كراهية الشعب الفارسي له».
لسوء الحظ ، كانت القوات الفارسية ولا سيما الخيول التي تتطلب الكثير من العلف، منهكة بسبب قلة الإمدادات إذ نهبها الرومان قبل أن تتاح لهم أي فرصة لتخزينها. عبر البيزنطيون نهر الزاب الكبير في الأول من كانون الأول/ ديسمبر، وأمر هرقل جيشه بإقامة معسكرات عند المعابر النهرية. وبُنيت مستوطنته بالقرب من مدينة نينوى الآشورية، والتي كانت واحدة من أقدم المدن في العصور القديمة، وكانت أيضًا المدينة ذات أكبر كثافة سكانية في مقاطعة آشور.
ونقلًا عن القدّيس ثيوفانيس المعترف أيضًا: «لقد حض هرقل جيشه بهذه الكلمات: “لتعلموا أيها الإخوة أن الجيش الفارسي قد أضعف خيله واستنفد طاقته بتجوّله في الأراضي الوعرة. أما نحن فدعونا ننطلق بكل سرعة في اتجاه خُسرو، لعلنا بإغارتنا عليه بشكل غير متوقع، نوقعه في حيرة أمره.”».
كان الجيش البيزنطي في معارك نينوى يتألف على نحوٍ أساسي من سلاح الفرسان الموزع على ميمنة الجيش وميسرته، وسلاح المشاة الثقيل المتمركز في الوسط. مع احتمالية وجود الفرسان الأرمينيين المدرعين والمسلحين بالرماح. من ناحية أخرى كان لدى الجيش الساساني كتيبة مركزية قوية من رجال الرماح، ويتكون جناحا الجيش من سلاح الفرسان الثقيل من النبلاء المدججين بالرماح والأقواس.
في معركة نينوى، قسم القائد الفارسي راهزاد قواته إلى ثلاث وحدات وحاول مهاجمة هرقل. رداً على ذلك نصب هرقل فخًا، وأوهمهم بالتراجع من أجل جذب الفرس. بعد ذلك مباشرة انقضَّ هرقل عليهم والتحم الجيشان في معركة حامية الوطيس. خلال اللحظات اليائسة من المعركة تقدم راهزاد نحو الإمبراطور البيزنطي هرقل، ودعا متحديًا إلى مبارزة فردية ظانًا أنه إذا استطاع فعل ذلك، سيجعل الأعداء الرومان يفرون. استجابة لذلك قتل هرقل راهزاد وهو مار بمحاذاته على حصانه وضرب عنقه بالرمح. ووفقًا لمؤرخ القرن التاسع نقفور، سرق هرقل ترس راهزاد الذهبي ودرعه. ويكتب «تقدّم هذا الرجل الذي حشد قواته ضد الإمبراطور أمام الصفوف، ودعا متحديًا لمبارزة. عندما أدرك هرقل أن أحدًا من رجاله لم يتطوع، خرج بنفسه ضد هذا البربري. ونظرًا لكون راهزاد من الرماة الخبراء أطلق سهمًا خدش به شفة الإمبراطور. ثم أطلق السهم الثاني وجرح به كاحله. لكز هرقل حصانه ليسرع، وقطع أحد حراسه، الذي كان أمامه، كتف راهزاد مستخدمًا سيفه، وعندما سقط هذا الأخير رماه الإمبراطور بالرمح وقطع رأسه على الفور. بعد رؤية مشهد النصر هذا، دبَّ الحماس في الجيش الروماني إدراكاً لجسارة الإمبراطور فتحرك بإصرار نحو الفرس، الذين هزموهم وطاردوهم، وقتلوا عددًا كبيرًا منهم».
سرعان ما خارت عزائم الفرس عندما رأوا أن قائدهم قد هُزم، وفرَّ الكثيرون من ساحة المعركة أو ذُبحوا. وطارد بعض البيزنطيين الجنودَ الساسانيين الفارين إلا إنهم كانوا منهكين وغير قادرين على أسر المعسكر الفارسي بأكمله. استنفدت طاقة كلا الجيشين في معركة نينوى، ولم يتقدم هرقل إلى عاصمة الإمبراطورية الفارسية (قطيسفون)، وبدلا من ذلك ارتكب في فورة النصر مذبحة باجتياح الأراضي الفارسية. اغتنى هرقل من خلال مداهمة المدن القريبة ونهب قصر خُسرو بعد فرار الملك الفارسي إلى سهول سوسيانا.
لا توجد تقديرات لعدد القتلى أو الإصابات على الجانب البيزنطي، ولكن في أقل تقدير هي مقاربة لخسارة الفرس الذين فقدوا حوالي ستة آلاف جندي في المعركة. استنزفت الحرب الوحشية جيش الشاه خُسرو بعد خمسة عشر عامًا من الحرب، وفر جيشه بعيدًا عن القوات البيزنطية. حاول خسرو حشد قوة أخرى من أجل هزيمة الرومان. لكن عصر مجده انتهى، وتمرد رجاله ضده. فقد خلعوا خسرو، وتوجوا ابنه كافاد (قباد) مكانه على العرش الساساني.
حلت المرحلة الأخيرة من الحروب الرومانية – الفارسية عندما اقترب كافاد من الإمبراطور البيزنطي هرقل، ودعا إلى مفاوضات السلام. تبعًا لذلك وافق هرقل على عدم فرض شروط قاسية عليهم لأن إمبراطوريته كانت تعاني نقصًا في الموارد والطاقة، وسيكون فرض مثل هذه الشروط مكلفًا.
* جوشوا بي: كاتب، ولد ونشأ في جبال آشفيل بولاية نورث كارولينا. كتب كتابه الأول وهو في سن الثالثة عشرة.