أُغسطينوس (354-430 م)
Great Thinkers
ترجمة: موسى جعفر
أُغسطينوس فيلسوف مسيحي عاش في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي على أطراف الإمبراطورية الرومانية التي كانت تتدهور بسرعة، في مدينة هيبون بالتحديد، المعروفة اليوم بمدينة عنابة في الجزائر.
شغل أغسطينوس منصب أسقف أكثر من ثلاثين عامًا، وأثبت شعبيته وقدم إرشادات ملهمة لحشوده التي يغلب عليها الفقر وغياب التعليم. في آخر أيام حياته غزت قبيلة فاندال الجرمانية مدينة هيبون، ورغم أنها تركته ومكتبته والكاتدرائية التي يعيش فيها بدافع الاحترام لإنجازاته، فأنها ساوت باقي المدينة بالأرض، وأسرت نساء المدينة الشابات وكسرت شوكة جحافلها العسكرية.
على أي حال، هذا الفيلسوف مهم لنا اليوم نحن غير المسيحيين لقيمه ووجهات نظره، وبسبب ما انتقده في روما، التي بينها وبين الغرب المعاصر قواسم مشتركة كثيرة، خصوصًا مع الولايات المتحدة، التي بجلت الإمبراطورية لدرجة أنها أرادت أن تبدو عاصمتها على نهر البوتوماك كما لو أنها نقلت سحريًا من ضفاف نهر التيبر في روما.
آمن الرومان بشيئين بالتحديد:
1-السعادة الأرضية
كان الرومان عمومًا محفلًا متفائلًا. فقد آمن مشيّدو الكولوسيوم وجسر غارد بالتقنية، وبقدرة البشر على إتقان نفسهم، وبإمكانية سيطرتهم على الطبيعة والتخطيط لسعادتهم واكتفائهم. ويلمس الواحد في كتابات شيشرون وبلوتارخ مثلًا درجة من الفخر والطموح والثقة بالمستقبل، والتي ببعض التعديل لن تختلف كثيرًا عمّا يوجد في صفحات جريدة وايرد أو مجلة بالو التو. كان الرومانيون ممارسين نجباء لما قد نسميه اليوم بالمساعدة الذاتية، فدربوا جماهيرهم على تحقيق نجاح وفاعلية أكبر. وكان الإنسان في نظرهم حيوانًا قادرًا على تحصيل الكمال.
2- نظام اجتماعي عادل
اعتقد الرومان طويلًا أن العدل سمة مجتمعهم. وعلى الرغم من أن الوراثة كانت عاملًا مهمًا، فإنهم آمنوا أيضًا أن ذوي الطموح والذكاء يستطيعون النجاح، فالجيش مثلًا كان يعد ميريتوقراطيًا أي إن نظامه الجدارة والاستحقاق. كان مقدار كسب المال انعكاسًا للقدرة العملية، والفضيلة الداخلية على حد سواء. لذا كان التباهي بالثراء يعد مشرِّفًا ومدعاة للفخر. والاستهلاك كذلك كان يجذب انطباعات محترمة عمومًا.
اختلف أغسطينوس معهم، خصوصًا في هذين السلوكين. وشرَّح في فصول تحفته “مدينة الله” كل منها بطرق ما زالت مفيدة لمن تساوره الشكوك فيما تقدم. مع أن حلوله المقترحة ربما لن تجذب غير المؤمنين لأنها مشتقة من اللاهوت المسيحي. على أي حال هكذا كانت ردود أغسطينوس:
– ليست لدينا فرصة لنيل السعادة الأرضية فنحن ضالون منحرفون نمتلئ شبقًا وغضبًا وتقلبًا.
كان أغسطينوس مبتدع فكرة الخطيئة الأصلية. إذ قال إن البشر منحرفون جميعًا بلا استثناء، لأنهم ورثة خطايا آدم عن غير قصد. طبيعتنا المذنبة تنشئ ما وصفه أغسطينوس برغبة السيطرة، التي تشهد عليها طريقة تعاملنا الوحشية وضيقة الأفق وغير الرحيمة مع الآخرين والعالم المحيط بنا. لا يمكننا أن نحب بصدق بسبب قيود أنانيتنا وكبريائنا. قدراتنا المنطقية والإدراكية هشة في وجه الظروف المتطرفة. والشبق -وهو اهتمام شغل أغسطينوس الذي كان يتخيل النسوة في الكنائس في شبابه- تصطادنا ليل نهار. نحن نفشل في فهم نفسنا ونطارد الخيالات وتشغلنا الأشجان… ختم أغسطينوس هجومه بالنيل من الفلاسفة الذين على حد تعبيره «رغبوا بغباء عجيب في أن يكونوا سعداء هنا على الأرض، وأن يحققوا النعيم بجهودهم الذاتية».
قد يكون مسببًا للكآبة سماع أن حيواتنا غير قويمة لا بسبب الحظ بل لأننا بشر! لكنه في ذات الوقت قد يكون راحة غريبة، لأن لا شيء يصنعه البشر سيكون قويمًا بحق، فالكمال صفة مقصورة على المقدس وحده. نحن كائنات قُدِّر لها أن تدرك الفضيلة والحب شعوريًا ولا تستطيع تأمينها لنفسها. إن علاقاتنا ووظائفنا وبلداننا لن تكون كما نرغب في أن تكون أبدًا. وهذا ليس لخطأ ارتكبناه، لكن الظروف ضدنا منذ البداية. تخفف كآبة أغسطينوس بعض الضغط الذي قد نشعر به ونحن نتقبل تدريجيًا حقيقة أننا وكل ما نفعله ليس مثاليًا بطبعه (خصوصًا في وقت متأخر من الليل، أو في مساء الأحد، أو بعد سن الأربعين). حري بنا ألا نغضب أو نشعر أننا اضطهدنا أو عُنينا بعقاب لا نستحقه. إنها فقط الحالة الإنسانية، إنها ميراث ما نستطيع أن نسميه أسوة بأغسطينوس -وإن لم نؤمن بلاهوته- الخطيئة الأصلية.
– كل التدرجات ظالمة؛ ولا توجد عدالة اجتماعية فليس جميع من في القمة صالحون ومن في القعر سيئون، والعكس صحيح.
ظن الرومان نفسهم في عز ازدهارهم أنهم يديرون مجتمعًا يتسم كثيرًا بمزايا الجدارة. وعلى الرغم من أن العائلة تميل إلى التأثير في الفرص المتاحة، فإنك لن تدنو من القمة بالاعتماد عليها فقط؛ عليك أن تعتمد على فضائلك وقدراتك الذاتية. الأهم من ذلك أنهم اعتقدوا أن نفوذ الدولة الرومانية علامة على المزايا الجمعية لمواطنيها، وأنهم حكموا أجزاءً واسعة من الأرض لأنهم استحقوا ذلك، فكأن الإمبراطورية هي مكافأة لفضائلهم. أن يرى الناس سلطتهم وازدهارهم مكافأةً عن مزاياهم لنظرة مغرية جدًا اليوم لأولئك الذين يعملون في مؤسسات ناجحة أو ولايات مزدهرة.
لكن أغسطينوس يرد: يا لها من مزاعم متعجرفة متبجحة لاذعة. ما كان من عدل في روما أو أي مكان على الأرض ولن يكون. فما وهب الرب الصالحين الثراء والسلطة، ولا حكم على الذين يفتقرون إلى هذه الصفات بالحرمان. التدرج الاجتماعي كان خلطًا بين الاستحقاق وعدمه. أضف إلى ذلك أن أي محاولة بشرية للحكم بين الصالح والطالح هي إثمُ أثيمٍ، ومحاولة لإنجاز مهمة لا يقدر عليها غير الرب، الذي سينجزها في نهاية الزمان، في يوم الدينونة الذي ينفخ فيه في أبواق وتحتشد الملائكة في حشود.
ميَّز أغسطينوس بين «المدينتين» حسب تعبيره، مدينة البشر ومدينة الرب. والأخيرة هي جنة سماوية مثالية، يسود فيها الخير والفضيلة وتوظف السلطة مع العدالة بغية تحقيق ذلك. لن يستطيع البشر بناء مدينة كتلك أبدًا، ويجدر بهم ألا يعتقدوا بقدرتهم على ذلك. فلقد حكم عليهم بالسكن في مدينة البشر، المدينة الأرضية، وهي مجتمع معيوب بشدة، لا يستطيع فيه المال أن يتبع الفضيلة. وبكلمات أغسطينوس: «ليس للعدالة الحقيقية وجود إلا في تلك الجمهورية التي مؤسسها وحاكمها المسيح». هكذا فإن العدالة المطلقة في توزيع الثواب أمرٌ غير موجود على الأرض ولا يجدر بنا توقعه. قد يبدو الأمر كئيبًا من جديد، لكن ذلك ما يجعل فلسفة أغسطينوس شديدة التسامح مع الفشل والفاقة والهزيمة، سواء مع نفسنا أو غيرنا. فخلافًا لما قد يزعم الرومان، الفشل الأرضي ليس إشارة إلى سوء الشخص أصالةً، كما الانتصار لا يدل على شيء جوهري في الشخص. ليس للبشر صلاحية أن يقيموا نجاح الآخرين، إذ ينبع هذا التحليل من غطرسة وقلة أخلاق. من واجبنا أن نشكك في القوة ونتعاطف مع الضعف.
لا يجب علينا أن نكون مسيحيين لنتعزى بهاتين النقطتين. إنهما عطايا الدين العالمية إلى الفلسفة السياسية وعلم النفس. وهما منبه دائم إلى بعض المعتقدات الخطرة القاسية عن أن الحياة قد تكون مثالية، أو أن الحرمان وخفوت الصيت دليل دامغ على نقيصة.