يوليسيس 3-7
جيمس جويس
مؤمن الوزان
في يوم واحد
تدور أحداث يوليسيس في يوم واحد، هو يوم الخميس المصادف السادس عشر من حزيران/ يونيو عام 1904، وهو تاريخ أول موعد جمع جيمس جويس بزوجته المستقبلية نورا بارانكل، وسُمي هذا اليوم لاحقا بعد نشر يوليسيس بـ Bloomsday الذي يحتفل قرَّاء جويس ومحبوه في بلدان كثيرة وفي مقدمتها بلده الأم إيرلندا بجيمس جويس، يقرأون فيها مقاطع من رواياته ولا سيما يوليسيس.
وبالعودة إلى عالم يوليسيس فإن هذا اليوم بمدته القصيرة التي تبتدئ في الثامنة صباحًا وتنتهي إلى الثانية بعد منتصف الليل من يوم فجر الجمعة (باستثناء مونولوج موللي في الحلقة الثامنة عشرة إذ لم يحدد الزمن فيه ويبدأ بعد الثانية صباحا) تعارض في قصرها طولَ المدة التي غاب بها أوديسيوس عن إيثاكا البالغة عشرين عامًا، عشرٌ منها في رحلة العودة (الزمن المقصود بالمحاكاة). هذه المدة القصيرة هي تحمل في طياتها الكثير فيما يخص فن الرواية والزمن الروائي، الذي عمل جويس في يوليسيس على جعل عمله موازيًا لأحداث اليوم الواقعي العادي تنقلًا وحديثًا ووقائعَ مُدرجًا كل شيء في مخلوقه الأدبي.
إن زمن العمل الذي يمتد من الثامنة صباحًا إلى الثانية فجرًا، هو في الحقيقة مختلفٌ عن الزمن الفعلي للمادة المسرودة (1) لأنه يشمل الحلقات الثلاثة الأولى التي تبدأ من الثامنة صباحًا إلى الثانية عشر ظهرًا، ثم يبدأ العد مجددًا في الحلقة الرابعة من الثامنة صباحًا إلى الثانية بعد منتصف الليل للحلقة السابعة عشر (الحلقة الثامنة عشرة بعد الثانية صباحا) ليكون الزمن الفعلي الذي دارت فيه الأحداث هو 22 ساعةً في مدينة دبلن (الساعات الأربع الأولى تضاعفت عبر الزمن المشطور والمتوازي بين ستيفن وبلوم)، إن معرفة الزمن الفعلي ليوليسيس يساعدنا في إدراك التوازن ما بين المادة المسرودة والزمن الذي يوازيها والمحتاج إليه ليتحقق التوازن بين الزمن والسرد.
ما الذي أراده جويس في هذا الزمن الروائي الذي قسّمه على ثمانية عشر حلقة؟
تبدو الإجابة عن هذا السؤال ذات فروع كثيرة لكني أرى أن أهمَّها:
– مدة الزمن المُختارة لا تخرج من التجديد في فن الرواية التي يزخر بها هذا العمل، في الواقعية العادية التي اختارها جويس في إكمال افتتاح عصر الحداثة، فكل شيء في العمل يشير إلى العادية ابتداءً من الشخصيات العادية غير المميزة إلى المكان الواقعي (دبلن) جدًا إلى الزمن الذي خصصه في يوم واحدٍ تقريبًا. تعامل جويس مع الزمن لم يكن في منأى عن ربطه الدقيق مع حجم المادة المسرودة التي تتزامن أو تتطابق تقريبا من الزمن وكذلك مع تعدد الشخصيات التي تناولها العمل. فالسرد الذي دار في الحلقة السادسة أثناء الرحلة يتناسب مع الزمن المستغرق للوصول إلى موقع الجنازة والحديث الدائر داخل العربة، فهو لم يكن بالسرد القصير ولا المطوّل، ولم يغفل جويس عن ذكر الطرق التي مرَّت العربة فيها أو النقاط التي تصل إليها، كي لا يغفل القارئ عن الربط بين الزمن وتوازيه مع حجم مادة السرد وليبقى شاعرًا وحاسًا بالعربة وركّابها كأنه واحدٌ بينهم. هذا التعامل الذي يوازن ما بين الزمن والسرد في الرواية من جهة وبين الزمن الحقيقي والكلام في الحياة الواقعية من جهة– إحدى التجديدات الثورية في الزمن والسرد الروائيين في رواية الحداثة لذا فلا يمكن لنا أن نغفل عن هذه النقطة الخاصة بالزمن التي تقودنا إلى النقطة الثانية.
– إن اختيار الزمن في يوم واحد تقريبًا محاكاة ساخرة (Parody) لرحلة عودة أوديسيوس وأن ما حدث في عشرة أعوام قد اُختُزلَ في يوم واحد تقريبا. الأوديسة في العمل ليست مجرد مُلهم ومثال يتَّبع في هيكلة يوليسيس بل هي أيضًا مادة للتهكم سواء في خلق عالمٍ موازٍ لعالم أوديسيوس المتخيل المليء بالآلهة لكنّه عالمٌ واقعي بلا أبطال ولا آلهة فشخصياته شخصيات عادية لا تتمتع بالفضائل الكثيرة، أو في التوازي والمحاكاة لكنها محاكاة وإن بدت جدية ففي داخلها النَفَس الهازئ كالمواطن الذي يلعب دور السيكلوب ذي العين الواحدة، أو هلوسات ماخور بيلا كوهين مع ما فعلته سيرسي بأوديسيوس ورفاقه، أو الخدمة التي يقدمها بلوم لزوجته تُذَكِّر بالحبس بالسنوات السبع لأدويسيوس في جزيرة كاليبسو. إن الزمن لا يخرج من هذه المحاكاة (اقتفاء أثر أو بارودية)، فالزمن هو الحاضن للحدث والشخصيات والمكان، وهو في يوليسيس زمن مقتطع أكثر مما هو زمن خاص كامل.
– يقرأ الواحد يوليسيس لكنه يجد نفسه في حضرة عالم كامل ومحظور عليه أن يعرف ما حدث في الأمس أو ما سيحدث في الغد إلا ما تشير إليه الشخصيات وتبقى معرفته قاصرة على الأحداث الواقعة في الزمن المذكور فقط. ولأن مشهد العربة في الحلقة السادسة من أكثر المشاهد التي شعرت بها في مخلوق جويس، فسآخذها مثالًا عن هذه النقطة، يصعد بلوم العربة مع بَوَر ومارتن كننغهام والمستر ديدالوس، هذا الرباعي الذي يجتمع داخل العربة المتوجهة إلى جنازة دغنام، هو رباعي يعرف بعضه بعضًا، لكن القارئ لا يعرف متى التقوا أول مرة وكيف عرفوا بعضهم بعضًا إو الذي يربطهم، وحتى الشخصيات نفسها فنحن لا نعرف عنها الكثير إلا ما يرد في النص إيجازًا أو تفصيلا. تستمر نقاشاتهم أثناء الطريق هكذا طبيعيا دون أي توضيح أو تفصيل عن العلاقة الرابطة بين هؤلاء، وجويس هنا يفترض أن القارئ سلفًا يعرف هؤلاء، صحيح أن بعض الشخصيات ترد في أعمال سابقة لجويس كقصص أهل دبلن، وصورة الفنان في شبابه، إلا أن ما يزيد من قوة هذه النقطة هو قصر الزمن المُختار، إذ أحداث هذا اليوم شبيهة بخلع ورقة من منتصف كتابٍ، هذه الورقة هي الزمن في العمل وأما الكتاب فهو حياة هذه الشخصيات بكل ما تحمله من أحداث ومجريات ووقائع.
1) الزمن الفعلي للمادة المسرودة: هو الزمن المطلوب لإتمام الأحداث المسرودة والواقعة في وقت واحد، والذي يختلف عن الزمن الحقيقي المكوّن لليوم الواحد والمقدر بـ 24 ساعة. فلو وقع حدثان في وقت واحد واستغرق كل حدث ساعتين مثلًا، وكان وقت حدوثهما من الثامنة إلى العاشرة صباحا، فإن زمن وقوع الحدثين هو ساعتين فقط لأنهما حدثا بوقت واحد (8-10 صباحا)، لكن الزمن الفعلي الكلي لهما هو أربع ساعات (إذ كل حدث يحتاج ساعتين حتى يتم). لا يختلف الأمر مع الزمن الفعلي للأحداث التي تقع في وقت واحد في الحلقات من 1 إلى 3، وفي الحلقات من 4 إلى 6، فالحلقات (1 – 3) تبدأ منذ الساعة الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية عشرة ظهرا، والحلقات (4 -6) تبدأ من الثامنة من صباحا وتنتهي في الثانية عشرة ظهرا، ثم يمضي الزمن في الحلقات اللاحقة من الثانية عشر من ظهر الخميس إلى ما بعد الثانية صباحا من فجر الجمعة، والنتيجة أن لدينا أحداثا وقعت في الزمن نفسه، ولكل أحداث زمنها الفعلي الخاص، ومجموعها يساوي الزمن الفعلي الكلي الذي يجب أن يتوازن مع حجم المادة المسرودة. ولم يغب عن جويس أن ينتبه إلى هذا ويوازن بين زمن الفعل ومادته السردية. نستخلص من هذا أن زمن يوليسيس الذي تجري فيه أحداث الرواية هو 18 ساعة والزمن الفعلي الكلي لأحداثه المسرودة هو 22 ساعة، إذا ما استثنينا حلقة موللي التي لم يذكر زمنه لكنه بعد الثانية صباحا.