أبيقور (270-341 ق.م)
Great Thinkers
ترجمة: موسى جعفر
ولد الفيلسوف الإغريقي أبيقور العظيم عام 341 قبل الميلاد، في جزيرة ساموس التي تبعد بضعة أميال عن ساحل تركيا الحديثة. كان ذو اللحية الطويلة أشهر فلاسفة عصره، وكتب ما يزيد عن ثلاثمئة كتاب. اشتهر أبيقور بتركيزه المحكم الشديد على موضوع محدد هو السعادة. فصب تركيزه على هذا الموضوع خلافًا للفلاسفة السابقين، الذين أرادوا معرفة الطريق إلى الصلاح.
لم يقدم غير بضعة فلاسفة على هكذا اعتراف صريح وعمليّ عن اهتماماتهم من قبل. صَدَم أبيقور الكثير حينها، خصوصًا حين علموا أنه أسس مدرسة للسعادة سماها الحديقة. كان ما يحدث داخلها كُلي الغموض وعظيم التشويق. أذاع بعض الناقمين على الأبيقورية إشاعات مخربة عمّا كان يحدث في داخل المدرسة، فقال تيمقراط مثلًا -المنشق عن هذه المدرسة والفاني لعمره في التقليل منها- إن أبيقور كان يتقيأ مرتين في اليوم لأنه يمضي جل وقته جالسًا على أريكة تطعمه عصبة من العبيد أفخم اللحوم والأسماك. أما ديوتيموس الرواقيّ فقد نشر خمسين رسالة فاحشة ادَّعى -كذبًا- أنها مكتوبة من أبيقور المخمور المهووس بالجنس إلى بعض الطلاب الشباب. لكن هكذا إشاعات كانت عارية عن الصحة، فالحقيقة عن أبيقور أقل حسيّة وأكثر إثارة بكثير. اهتمَّ الفيلسوف الإغريقي بالسعادة والمتعة فعلًا، لكن لم يكن له ذاك الاهتمام بالوجبات الفخمة وطقوس العربدة. فلم يكن له غير ثوبين وحسب، واقتات على الخبز والزيتون، وتحليته غير المعتادة كانت شريحة جبن! عوضًا عن ذلك، خلص أبيقور من دراسته الصبورة للسعادة على مر الأعوام إلى استنتاج ثوري عظيم عمّا نحتاج إليه حقًا لنكون سعداء، استنتاج غريب عن افتراضات عصره وعصرنا على حد سواء.
قال أبيقور إننا عادة ما نرتكب ثلاثة أخطاء عند التفكير في السعادة، هي:
1- نعتقد باحتياجنا إلى علاقات عاطفية
سابقًا كما الآن، شغف الناس بالحب بإفراط. لكن لاحظ أبيقور أنَّ السعادة والحب (خلا الزواج) لا يكادان يلتقيان. فهناك الكثير من الغيرة والمرارة وسوء الفهم. والجنس معقد غالبًا ونادرًا ما ينسجم مع المشاعر. لذا اعتقد أبيقور أن من الأفضل عدم الإيمان بالعلاقات كثيرًا. وعلى النقيض من ذلك وضع الصداقة، ونوّه إلى فوائد الكثير من الصداقات: نحن فيها خلوقون، ونبحث عن الاتفاق، ولا نُعنِّف أو نُوبِّخ ونخلو من حس التملك. لكن المشكلة أننا لا نرى أصدقاءنا بما فيه الكفاية. فنقدم عليهم العمل والعائلة، أو لا نجد الوقت، أو إنهم يعيشون بعيدًا.
2– نعتقد باحتياجنا إلى مال كثير
سابقًا كما الآن، شغف الناس بالوظائف بإفراط، يدفعهم التوق إلى المال ونيل احترام الناس. لكن بيَّن أبيقور الصعوبات في الوظيفة: الغيرة والغيبة والطموحات المحبَطة. آمن أبيقور أن ما يجعل العمل مرضيًا هو عندما نعمل فرادى أو بمجاميع صغيرة، وعندما يكون العمل ذا غاية فنشعر أننا نساعد الآخرين بطريقة ما أو نصنع شيئًا يحسن العالم. نحن لا نطمح حقًا إلى المال والجاه عبر العمل، بل إلى حس بالإنجاز.
3- نبالغ في تقدير الرفاهية
نحن نحلم بالرفاهية، نتصورها منزلًا جميلًا بغرف فخمة وإطلالة أنيقة. ونتخيل رحلات إلى أماكن مثالية حيث نرتاح ويدللنا الآخرون… لكن أبيقور يختلف مع توقنا. إذ يعتقد أن بغيتنا الحقيقية من خيال الرفاهية هي السكينة. لكن السكينة لا تتحصل بامتلاك منزل جميل وتغيير الإطلالة بسهولة. إنَّ السكينة سمة داخلية تتحصل عبر التحليل، نتاج تمحيصنا لهمومنا وفهمها صحيحا. لذا نحن بحاجة إلى استقطاع كثير من الوقت للكتابة والقراءة، والأهم من كل هذا، إلى الاستفادة من دعم دوري يقدمه مستمع جيد. المستمع الجيد هو شخص متعاطف ولطيف وذكي قد يوصف في زمن أبيقور بالفيلسوف ويمكن أن نسميه اليوم بالمعالج النفسي.
وضع أبيقور ثلاثة مستحدثات من تحليله للسعادة:
أولًا، قرر أن يعيش مع أصدقائه في مكان واحد عوضًا عن رؤيتهم بين حين وآخر. ابتاع قطعة أرض متواضعة السعر خارج أثينا وبنى مكانًا يستطيع وأصدقاؤه العيش فيه دائما. كان لكل منهم غرفة فيه، بالإضافة إلى المناطق المشتركة بينهم في الأسفل. هكذا كان جميع المقيمين محاطون بجيران عطوفين مسلين يشتركون معهم في وجهات النظر. وكان هناك جدول للاعتناء بالأطفال. والجميع يأكل معًا. ويستطيع الشخص أن يحظى بمحادثة في الممر متأخرًا في الليل. كان ذلك أول مجتمع مصغر متسق في العالم.
ثانيًا، توقف جميع من في ذلك المجتمع عن العمل للغير. تقبلوا أن ينخفض دخلهم مقابل أن يستطيعوا التركيز على العمل المُرضي: مثلًا كرَّس بعض أصدقاء أبيقور نفسهم للزراعة، وآخرون للطبخ، وقلة منهم للفن وصنع الأثاث. باتوا يجنون أموالًا أقل بكثير لكن يشعرون برضا داخلي وفير.
ثالثًا، كرس أبيقور وأصدقائه نفسهم لإيجاد السكينة عبر التحليل المنطقي والبصيرة، فأمضوا حصة من كل يوم يتأملون في أوجاعهم، ويحسنون فهمهم لأرواحهم، ويتثقفون بأسئلة الفلسفة المهمة.
ذاع صيت تجربة أبيقور في العيش فتبعها الآلاف وانتشرت المجتمعات الأبيقورية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وازدهرت تلك المراكز لأجيال إلى أن قمعتها كنيسة مسيحية متعنِّتة حاقدة بوحشية في القرن الميلادي الخامس. مع هذا فإن مبادئها نجت رغم تحوّل العديد من المراكز إلى أديار. ما زال تأثير الأبيقورية مستمرًا في العصر الحالي، فقد كانت أطروحة كارل ماركس في الدكتوراة عن أبيقور، وعدَّه فيلسوفه المفضل. بل إن ما نسميه اليوم بالشيوعية ليس في جوهره إلا نسخة أكبر -أكثر تسلطًا وأقل متعة- من الأبيقورية.
حتى اليوم، ما تزال الأبيقورية دليلًا لا غنى عنه إلى الحياة في المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية المتقدمة، لأن الدعاية -التي تعتمد عليها هذه الأنظمة- توظف خلط مفاهيم الناس ببراعة بخصوص ما يعتقدون أنه ضروري لسعادتهم. ويركز عدد هائل من الدعايات على الثلاثة أشياء التي صنفها أبيقور مغريات سعادة كاذبة، وهي الحب الرومانسي والمكانة المهنية والرفاهية.
ما كانت الدعايات لتعمل إن لم تناغِ احتياجاتنا الحقيقية. لكنها تحفزنا عبر مداعبتها ولا تحققها فعلا. فإعلانات البيرة على سبيل المثال سترينا مجموعة أصدقاء متعانقين، لكنها لا تبيعنا غير الكحول (الذي قد ينتهي بنا الحال نحتسيها بمفردنا). وخذ إعلانات الساعات الفخمة أيضًا، فهي تظهر لنا أشخاصًا بمكانة مهنية عالية يتمشون قاصدين المكتب، لكنها لن تلبي فينا التوق إلى عمل مُرضٍ بحق. وقد تدغدغ إعلانات الشواطئ الاستوائية حواسنا براحتها النفسية لكنها أبدًا لن تستطيع -بمفردها- أن تهب لنا السكينة التي نشتهيها. يحثنا أبيقور على تغيير فهمنا لنفسنا وتغيير المجتمع وفقًا لذلك. لا يجب أن نرهق نفسنا والكوكب معنا في سباق السعي إلى أشياءَ لن ترضينا بحق حتى إن نلناها. نحتاج إلى العودة إلى الفلسفة، وإلى جدية أكثر بكثير بخصوص مسألة أن نكون سعداء.