السيرة الذاتية لإيملي ديكنسون (1830-1886).
Poetry Foundation
ترجمة: عباس الحساني.
إيملي ديكنسون (Emily Dickinson) واحدة من أعظم شعراء أمريكا على الإطلاق، وقد نالت هذه المكانة عن جدارة واستحقاق، فقصائدها السهلة في بُنيتها، الحادة الذكاء في أفكارها، الشديدة العمق في أحاسيسها، تستمد مادتها وصورها من قضايا الإنسان الأساسية: من آلام الحب وأفراحه، من طبيعة الموت التي لا يسبر غورها، الجنس، ويلات الحروب، الدين، الدعوة الى المرح، التأمل في أهمية الموسيقى والأدب والفن.
صاغت ديكنسون نوعا جديدا من الشخصية في شعرها، والمتحدثون في شعرها يشبهون المتحدث في قصائد برونتي وبراونينغ، فهم يتميزون بأنهم مراقبون حصيفون يرون أوجه القصور في مجتمعاتهم، وحالات الهروب التي يمكن تصورها ولجعل التجريد ملموسا ولتحديد المعنى بدون حصر فقد ابتكرت ديكنسون لغة بيضاوية مميزة للتعبير عما كان ممكنا لكنه لم يتحقق. وهذه الطريقة تشبه طريقة أصحاب الفلسفة المتعالية [اتحاد الفلسفة المتعالية حركة فلسفية تطورت في نهاية عشرينيات القرن الثامن عشر شرق الولايات المتحدة، ويركز أصحابها على الحس أكثر من التجربة] وقد قرأت ديكنسون معظم أعمال اتحاد الفلسفة المتعالية. لم تغادر ديكنسون منزلها كثيراً، فقد عاشت حياة انطوائية إلى حد بعيد. كتبت، في مساحتها الخاصة في منزل أبيها، ما يزيد عن 1700 قصيدة لم ينشر منها خلال حياتها إلا 11 قصيدة في بعض الصحف المحلية بأسماء مستعارة. هكذا لم يعلم أحد عن موهبتها سوى حلقة ضيقة من أفراد أسرتها والمقربين من الأصدقاء. نُشر المجلد الأول من شعرها عام 1890 وذلك بعد أربع سنوات من وفاتها، وقد لاقى نجاحا مذهلا. ولم يخطر ببال أحد –ولا حتى ديكنسون نفسها– أن قصائدها سوف تحدث ثورة أدبية في القرن العشرين. وبعد وفاتها بسبعين سنة نُشر أول كتاب جامع لقصائدها دون تعديل.
الميلاد والتعليم في أكاديمية أمهرست
ولدت إيملي ديكنسون في أمهرست ولاية ماساتشوستس، في كانون الثاني/ ديسمبر 1830، لعائلة محافظة وغنية، وفي وقت ولادتها كان أبوها إدوارد ديكنسون محاميا شابا وطموحا، عمل في السياسة وفاز بمقعد في الكونغرس ممثلا عن ولايته. وكان جدها من المساهمين في إنشاء كلية أمهرست. عاشت في طفولتها المبكرة رفقة اثنين من أخوتها وهما، أخوها وليام الذي يكبرها بعام ونصف، وأختها لافينيا، وقد ارتادوا المدرسة الابتدائية في أمهرست معا، والتي تكونت من غرفة واحدة. ثم درسوا في أكاديمية أمهرست، لكن ما لبث الأخ أن افترق عن أختيه، فقد أُرسِلَ وليام إلى مدرسة اخرى، لقد ذكرت ديكنسون أنها كانت مسرورة بكل كادر المدرسة، ومنهجها وطلابها. تفخر أكاديمية أمهرست بارتباطها المباشر بكلية أمهرست، وتنظّم حضورا منتظما للطلاب في قاعات كلية أمهرست لمحاضرات في مختلف التخصصات (الفلك، الكيمياء، الجيولوجيا، الرياضيات، التاريخ الطبيعي، الفلسفة الطبيعية وعلم الحيوان). تعكسُ لنا هذه القائمة التركيزَ على العلوم في القرن التاسع عشر، ويظهر هذا التركيز مرة أخرى في قصائد ديكنسون ورسائلها، من خلال الافتتان بالتسمية ونظرتها الثاقبة، وهواية غرس الزهور وعنايتها بوصف النباتات واهتماماتها بالقوة الكيميائية. وعلى الرغم من هذه الاهتمامات فلم تهتم بالعلوم بذات الطريقة التي دعا إليها أساتذتها. وفي قصيدة مبكرة لها وبخت العلم لاهتماماته المتطفلة، كما أن دراسته تسلب الحياة من الأشياء على حد قولها. ومع هذا فقد كانت دراسة علم النبات مصدر بهجة لديكنسون وكانت تحرص على زراعة النباتات والعناية بها، وتدعو أصدقائها لحضور دروس النبات. استندت في دراستها لعلم النبات إلى الدروس التي حضرتها في الكلية، وفيما بعد على كتاب كان معتمدا في المعاهد الدينية للبنات، وهو من تأليف الأستاذ الميرا لينكون الأستاذ في علم النبات. تميز الكتاب بنوع معين من التاريخ الطبيعي، مع التركيز على الطبيعة الدينية لدراسة العلم. واعتمد أسلوبه على الحجة مع التعميم. وأكَّد لطلابه أن دراسة العالم الطبيعي تقودنا لمعرفة الله، فملاحظة الأنظمة الدقيقة في الكون تظهر يد الخالق. يتوافق تقييم لينكون للفلسفة الطبيعية جيدًا مع سياسة أمهرست المحلية. وكرس إدوارد هيتشوك، رئيس أكاديمية أمهرست حياته للحفاظ على الاتصال المستمر بين العالم الطبيعي وخالقه، وكان محاضرا متكررا في الأكاديمية، ونالت ديكنسون الكثير من الفرص لسماعه وهو يتحدث، ومن خلال عناوين كتبه يمكننا معرفة المواضيع وجدت ديكنسون أنَّ الحكمة الدينية التقليدية هي الجزء الأقل قدرة على الصمود بين هذه الحجج، فمن خلال ما قرأته وسمعته في أكاديمية أمهرست للعلوم أثبتت الملاحظة العلميه تميزها في الوصف القوي.
تكمن قوة أكاديمية أمهرست في تركيزها على العلم، إلا إنها ساهمت في تطور ديكنسون الشعري، وتعرفت خلال السنوات التسع التي قضتها في الأكاديمية على أستاذها الأول، ليونارد همفري Leonard Humphrey. وتشير ردة فعلها على وفاته غير المتوقعة على نموها الشعري المتزايد. يتوازى تعيين همفري أستاذًا في الأكاديمية مع العلاقات التي أقامتها ديكنسون في الأكاديمية، فقد أنشأت صداقات قوية مع مجموعة من الطلاب، ومن بينهم أبياه روت (Abiah Root) إيملي فاولر، جين همفري التي كانت رفيقة ديكنسون في سكن الأكاديمية. وكما كان شائعا للشابات من الطبقة فإن التعليم الرسمي الذي تلقينه وفر لهن استقلالا ذاتيا مؤقتا، واحترام وجهات نظرهن. تطلَّبت العديد من المدارس مثل أكاديمية أمهرست الحضور يوما كاملا، لذا فإن الواجبات المنزلية خاضعة للواجبات المدرسية، وكان المنهج الدراسي في كثير من الأحيان هو ذات المنهج الدراسي الذي يتعلمه الشباب. مثَّلت الدراسة في أكاديمية أمهرست وقتا للتحدي الفكري والحريّة النسبية للبنات، ونظر الطلاب لأنفسهم باحثينَ وتركت الكلية انطباعا كبيرا في تفكيرهم. لم تترك ديكنسون بعد أن أنهت الأكاديمية مواصلةَ دراستها كما كان شائعا عند الفتيات في وقتها.
التجربة الدينية
تركت ديكنسون في سن الخامسة عشر الأكاديمية لمواصلة تعليمها العالي، والتحقت في خريف 1847 بمدرسة (ماونت هايلوك) الدينية للبنات، التي أشرفت عليها الأستاذة ماري ليون. كانت ماري تجري جلسات أسبوعية مع طلابها لتقييم حالة الإيمان عندهم، واختبارهم بالمسائل الدينية. وقسِّمت الشابات إلى ثلاث فئات:
1- من نشأنَ نشأة دينية مسيحية.
2- من أعربن عن رغبتهن بالمسيحية.
3- من ليس لهم رغبة باعتناق المسيحية.
اختارت ديكنسون أن تكون في الفئة الثالثة، والعضو الوحيد في تلك الفئة، تذكر زميلة ديكنسون، كلارا تيرنر: عندما طلبت ماري ليون من الطلاب الذين يرغبون في أن يكونوا مسيحيين، قام الجميع إلا إيملي بقيت في مكانها [تعبيرا عن عدم رغبتها]. وتضيف كلارا، لقد أخبرتني إيملي قائلة «لقد ظنوا أنه أمر غريب أنني لم أنهض» وأضافت مع لمعة في عينيها «لكنني أعتقد أنَّ الكذب أكثر غرابة».
لقد كانت إيملي المتمردة الوحيدة في ذلك الاجتماع، لكن سجلات المدرسة أشارت فيما بعد الى أنّ إيملي لم تكن الوحيدة التي لم تكن راغبة بالانضمام لصفوف المسيحيين، ففي نهاية الدراسة تبين أنّ ثلاثين طالبة لديهن ذات موقف إيملي. أدى قصر إقامة ديكنسون في مدرسة ماونت هوليوك [سنة واحدة] إلى الكثير من التكهنات حول طبيعة رحيلها، وقال بعض النقاد إنه يمكن رؤية بداية ما يسمى بالانعزالية، من خلال إشاراتها المتكررة للوطن والحنين إليه، ولكن الرسائل لا تشير بأي حال من الأحوال أن أنشطتها قد تعطلت، لم يكن لها نوع الأصدقاء المقربين نفسه كالذين كانوا في أكاديمية أمهرست، ولكن تقارير عملها عن النشاط اليومي تشير إلى أنها كانت جزءا من أنشطة المدرسة. وبسبب عدم التيقن من الجهة التي قررت عدم عودتها للمدرسة، نسبت ديكنسون القرار إلى والدها، تشير سمعة والدها بأنه فردٌ متدين في الشؤون الخاصة والعامة إلى أن قراره قد يكون نابعا من رغبته في إبقاء ابنته في المنزل، والواقع إن تعليقات ديكنسون تؤكد هذه التكهنات، ودائما ما رضخت لرغبات والدها، ولكنها تصفه في مواضع أخرى بوصف لطيف فتقول: “إنه مشغول جدًا بممارسة المحاماة، حتى إنه لا يستطيع أن يلاحظ ما يجري في المنزل”. وقد قدَّم أحد النقاد وهو ريتشارد سيوال تفسيرا مثيرا، فبالنظر إلى منهج مدرسة ماونت هوليوك، ومعرفة عدد النصوص الدينية الكثيرة التي درستها في أكاديمية أمهرست، خَلُصَ إلى أن مدرسة ماونت هوليوك ليس لديها الكثير لتضيفه إلى ديكنسون.
يختم ترك ديكنسون لماونت هوليوك على نهاية تعليمها الرسمي، ومن الاطلاع على رسائل ديكنسون في تلك المدة «1850» يتبين لنا أنها كرهت العمل المنزلي وتشعر بالإحباط مع قيود الوقت التي أوجدها العمل.
حياة المنزل والشعر والرسائل
كان منزل عائلة ديكنسون ملتقى الكثير من أصدقاء والدها من السياسيين ورجال الدولة، وقد أتعبها الوضع. إذ كانت ديكنسون تهتم بالمنزل وإرشاد إخوتها، وقدَّمت نفسها ناصحًا حريصًا في رسائلها إلى أخيها أوستين حينما كان يدرس القانون في جامعة هارفارد، واستخدمت المديح الزائد بحقه، وشجَّعته لكي تدعوه للتساؤل حول قيمة تصوراته، وساندته لكي يحقق طموحه. تتميز رسائل ديكنسون لأوستين بكثافتها، لكنها انقطعت بعد مدة عندما انشغل أوستين بشق طريقه في الحياة، وقرر الإقامة في أمهرست وتولى دور والده في عمله القانوني. ثم تزوج سوزان جليبرت الزواج الذي رحَّبت بها ديكنسون بشدة، فقد وفر لها حضور سوزان الشعور بوجود أخت جديدة في العائلة. وفي الوقت الذي تضاءلت فيه علاقتها مع أوستين؛ نمت علاقتها بسوزان التي مثلت لها الرفيق المحبوب والناقد والأنا. نشأت سوزان نشأة مختلفة عن إيملي فهي تنتمي للطبقة العاملة.
كتبت ديكنسون في 1875 قصيدة، جاء فيها: “الهروب مِثْلُ كلمة شاكرة”. وكلمة الهروب هنا إشارة للروح في المقام الأول، ويعتمد الفداء والخلاص وفقًا لها على الحرية. تنتهي القصيدة بالثناء على “الكلمة الوثيقة” للهروب، في تناقص بين رؤية “المُخلِّص” مع هالة كونه “إنسانًا مُنقذًا”، وتقول بأنَّه من الجليّ ثمة خيارٌ واحد: “لهذا ألقي برأسي فوق الكلمة الوثيقة” فهي تدعو القارئ ليقابل ما بين تجسيد “المسيح” وتجسيد آخر. تقلب ديكنسون اللغةَ المسيحية المرتبطة بـمقاصد “الكلمة” وتضع نفسها بديلًا لتجسيد المخلِّص. وكانت قد اختارت كلمة “هروب” قبل عقدٍ من الزمن، الاختيار الذي بدا واضحًا ومقصودًا. ففي قصائد تعود إلى عام 1862 تصف ديكنسون التجارب الروحيّة مُشخِّصة هذه “الأحداث” بعبارات اللحظات، فتمرُّ من “لحظات الروح المعصوبة” مشيرة للفكرة المتشككة إلى الحرية الروحية. ولن تُحبس الروح في “لحظات هروب” ولا تحتوي قوَّتها الانفجاريّة: “للروح لحظاتُ هروب/ حين تُنفجرُ كل الأبواب/ ترقصُ مثل دويّة، في الخارج،/ وتتمايل طوال الاوقت”.
من خلال الاطلاع على قصائد ديكنسون نعرف أنها رفضت أن تكون مقيدة بالواجبات المطلوبة منها. ودائما ما تدفعها طلبات أبويها أو أصدقائها المقربين إلى “الهرب”. خلال مرحلة الانتعاش في 1850 في أمهرست، كتبت ديكنسون تقييمها للظروف، بعيدا عن استخدام لغة التجديد المرتبطة بالمفردات الإحيائية، فقد وصفت مشهد خراب مظلم بفعل ابتلاء الروح. وفي رسالتها الموسومة بالتمرد إلى همفري، كتبت “كيف تزداد وحدة هذا العالم، شيء مقفر جدا يزحف فوق الروح، ونحن لا نعرف اسمه، ولن يزول، إما السماء تبدو أكبر، وإما الارض أصغر بكثير، وإما أن الله أعظم. نشعر بأن حاجاتنا زادت، المسيح يدعو الجميع، وكلهم أجابوا، أما أنا أقف وحيدة متمردة، كلهم يعتقدون أنهم وجدوا، لا أستطيع أن اخبرك ما الذي وجدوه، لكنهم يظنون أنه شيء ثمين، أتساءل إن كان كذلك؟”. لقد وضع سؤال ديكنسون الإطار على عقد من الزمان، وخلال تلك العشر سنوات حددت ما كان ثمينا بنحوٍ لا جدال فيه، ليس الدين بل الشعر، ليس الآلة التي اختزلت جوهرها بل عملية صنع الاستعارات ومشاهدة المعنى وهو يتكشَّف.
تشير رسائلها عام 1850 إلى أنّ عقلها كان يحول دون إمكانية الانشغال بعملها الفني، وازدادت الفجوة بينها وبين اصدقائها، وصفت هدف حياتها لكنها لم تحدد بوضوح وتقول “لقد تجرأت على فعل أشياء غريبة” كما أنها أكدت استقلالها: “لم أطلب النصيحة من أحد” وأمضت شتاء ذلك العام بقراءة قصائد شاعرها المفضل رالف إيمرسون. ووصفت الشتاء بأنه حلم طويل لم تستيقظ منه بعد. كانت رسائلها في هذه المدة طويلة ومتكررة، وزودتها لغتها الرفعية بمساحة تدريب لنفسها لتطوير نفسها كاتبةً. وجربت في رسائلها الشغوفة لصديقاتها أصواتا مختلفة، في بعض الأحيان كانت تبدو بطلةَ إحدى الروايات المعاصرة، وساردةً توبخ الشخصيات على فشلها ولعبت دورًا سماويًا لاستكشاف احتمالية التحوَّل الإيماني الاعتقادي الجديد لتقترب فحسب من منطقة اللا واقعية المميزة في تجربتها الخاصة. وبسبب عدم توفر الرسائل المرسلة إلى إيملي، لا يستطيع النقاد معرفة ما إذا كان لغة أصدقائها تشبه لغتها.
لكن الحرية التي كتبت بها إلى همفري وفاولر تشير إلى أنّ ردودهم شجعت أفكارها، قد يكون هذا التشجيع صدر من سوزان جليبرت أيضا مع أننا لا نعرف الكثير حول العلاقة المبكرة بينهما فإنّ الرسائل المرسلة إلى جليبرت أثناء دراستها في جامعة بالتيمور، تتحدث بنوع من الأمل من منظور مشترك إن لم يكن مهنة مشتركة. وقد تكهن النقاد المتأخرين، بأن جليبرت قد حسبت نفسها شاعرة أيضا، وتقف العديد من رسائل ديكنسون وراء هذا التكهن، فمن الرسائل القليلة التي وصلت إلينا الرسالة التي أرسلتها ديكنسون إلى جليبرت عام 1861 وفيها نقاشات وخلافات حول الشعر، تشير إلى أنها شاعرة. ومهما كانت طموحات جليبرت الشعرية، فقد نظرت إليها ديكسنون واحدة من أهم قرّائها وأقربهم، فأرسلت إلى جليبرت أكثر من 270 قصيدة. لكن هذه العلاقة تخللها جدل يسير ثم حدث كسر أكثر خطورة في العلاقة، قد يكون الخلاف بسبب اختلافهما حول الدين. وفيما يخص رأي ديكنسون بالزواج، فهو رأي يتميز بالتناقض إذ يرتكز رأيها بوضوح على مفهومها لما يتطلبه دور الزوجة، والطبيعة الاجتماعية للزواج. ومن خلال وجودها وعملها في بيت عائلتها، كانت مطيعة وتؤدي واجباتها. ورأت كيف أن عملها أصبح ثانويا.
في ملاحظتها للنساء المتزوجات ومن ضمنهن أمها، خلصت إلى أن الزوجة تتعرض لتدهور الصحة النفسية والجسدية، والمطالب غير الملباة وغياب الذات التي كانت جزءا من العلاقة بين الزوج والزوجة، وتعكس قصيدة لها بعنوان «الذهب» هذا المعنى. القيمة والهيبة غائبان عن المرأة، التي تؤدي واجباتها الزوجية، وتظل الخسارة غير معلنة.
تقول:
نذرت نفسها تلبي حاجاته
ضحت بمتعتها
لتقوم بواجبها المشرف
امرأةً وزوجة
وتربط في قصيدة أخرى حياةَ المرأة بيوم زفافها. هذه الافكار لا تنتمي للقصائد فقط، بل نجدها في الرسائل أيضا. فقد كتبت رسالة لصديقتها جليبرت أثناء علاقتها مع أوستين، وذلك قبل أربعة أعوام من زواجهما، تكشف الرسائل وجهة نظرها بالزواج، ورأت أن هناك فرقا بين الأفكار المتخيلة حول الحياة الزوجية، وكيف أننا نتخيلها حياة رومانسية، وبين واقع الزواج والحياة الجافة التي تعيشها المرأة المتزوجة. فهي ترى أن الزواج يستنزف المرأة. وحاولت عبر الرسائل أن تستميل جليبرت الى رأيها هذا، لكن سوزان جليبرت حسمت أمرها وأعدَّت نفسها لتكون زوجة تقليدية تربي أطفالها وتهتم بزوجها المحامي الشاب. مع تذبذب العلاقة بين ديكنسون وجليبرت، كان هناك جوانب أخرى في حياة ديكنسون، فقدت شهدت خمسينيات القرن التاسع عشر تحولا في صداقاتها، وبدأ اصدقاؤها بالزواج وتأسيس أسرهم الخاصة، مما جعلها وحيدة، لذلك سعت للحصول على أصدقاء جدد. فوجدت ضالتها في الكتب، ألهمتها الكتب أفكارا كثيرة، ومادة مهمة ساهمت في تكوينها كاتبةً. قرأت ديكنسون، إضافة للكتب المنهجية في دراستها والكتب التي فرضها عليها والدها، أعمالَ الكتاب المعاصرين على جانبي الأطلسي [أوروبا وأمريكا الشمالية].
فمن بين البريطانيين قرأت للشعراء الرومانسيين، والأخوات برونتي، وبراونينغ، وجورج إليوت. وعلى الجانب الأمريكي قرأت لونجفيلو، وثورو، وإيمرسون. وادَّعت أنها لم تقرأ لوالت ويتمان. وقرأت لتوماس كاريل، وتشارلز داروين، وماثيو أرنولد. منح معاصرو ديكنسون نوعا من التداول لكتاباتها، فقد كانت ديكنسون تراسل الكثير من الشخصيات، وفي رسائلها العديد من الإشارات التي تعبَّر عن مدى الوضوح في عباراتها مع الاخرين. ومن ضمن هذه الشخصيات التي راسلتها ثمة شخصيتان أدبيتان هما صموئيل بولز ( Samuel bowles) وجوديا هولاند. عمل صموئيل بولز محررا أدبيا، وديكنسون ترسل إليه قصائدها لنشرها، من خلال الاطلاع على الرسائل، يظهر أن اللغة العاطفية تشبه اللغة الموجودة في رسائلها الى سوزان. واعترفت في إحدى الرسائل بحبها لصموئيل، إلا إنه، عبر عن حبه وتمسكه بزوجته ماري.
انتقلت ديكنسون مع عائلتها الى واشنطن في 1853، لأنَّ أباها كان عضوا في الكونغرس، وفي 1855 لم يُعد انتخاب والدها إدوارد ديكنسون، لذلك تحول اهتمامه إلى مقر إقامته في أمهرست، وأقفل راجعًا إلى عمله في المجال القانوني، عادت العائلة كلها إلى المنزل الذي ولدت فيه ديكنسون، وقضت فيه أول عشر سنوات من حياتها. أصبح البيت عالمها، وتتواصل مع الخارج بواسطة مئات الرسائل والقصائد. لم تتوقف عن الكتابة، تحديدا أثناء عزلتها إذ إنها بعد سنّ الثلاثين قرّرت عدم الخروج من البيت، وظلّت تطلّ على العالم من خلال شرفة غرفتها؛ العالم الذي يتمثّل في الجيران، وقافلة السيرك التي تمرّ مرّة واحدة في السنة، وبعض الفلاحين الذين يحملون المحصول، والنحل، والحديقة، وتفاصيل بسيطة أخرى. لم تتزوج ديكنسون قط، غير أنها كانت مغرمةً دائما بأساتذتها، كما أغرمت بكاهن البلدة وأقامت علاقة سرية معه.
سنوات صعبة
تزوج أوستين وسوزان جيلبرت عام 1856، وكانت السنوات التي تلت زواج سوزان شديدة الصعوبة على ديكنسون وتعكس رسائلها مركزية الصداقة في حياتها، فكتبت في إحدى رسائلها لصمويل بولز في 1858: “أصدقائي هم ثروتي، إذًا، اُعذرني على جشع اكتنازها”. وشهدت هذه المرحلة من حياتها خسائر كبيرة في هذه “الثروة” فقد اختطف الموت أول أستاذ لها وهو ليونارد همفري. وثمة خسائر أخرى نتيجة لزواج بعض صديقاتها وابتعادهن عن أمهرست. وتوفيت والدة أبناء عمها، فكانت تواسيهم وتخفف عنهم فقدهم، فقد سعت كلماتها الى تحقيق المستحيل، وعلقت قائلة “الأرواح المنفصلة لا يمكن شفائها”. وكتبت في رسائلها عن الانفصال وعرضت صورا للحفاظ على الأرواح معا. تحول أسلوبها في الكتابة على نحوٍ متزايدٍ الى الأسلوب الغامض، فامتازت كتاباتها بكثرة الأقوال المأثورة والتلميحات، فهي تطلب من القارئ أن يربط بين العبارات لتلخيص السياق الذي تمت الاشارة إليه، ومعرفة المعنى الكلي من خلال الأجزاء الصغيرة.
تُذكِّر ديكنسون عبر رسائلها مَن تُراسلهم إلى أن عوالمهم المكسورة ليست سوى فوضى من الشظايا، وخلف الأجزاء الظاهرية من تصريحاتها القصيرة تكمن الدعوة لتذكير العالم الذي يشترك فيه كل مراسل بمعرفة معينة. وفي الوقت الذي كانت ديكنسون تهتم بالصداقة، حدَّتْ من الوقت اليومي الذي تقضيه مع الآخرين، وبحلول 1858 أصبحت ديكنسون قليلة الخروج، ولا تلتقي سوى القليل من الناس، ولقبت بالمعتزلة والناسكة. شرعت ديكنسون في عام 1858 بتنظيم قصائدها في ملفات خاصة. وفي عام 1860 كتبت ديكنسون أكثر من 150 قصيدة، وفي الوقت ذاته راسلت الكثير من الشخصيات، وساعدتها الرسائل مطورةً من أسلوبها في الكتابة، أي أنها تمرينٌ مهمٌ لها. تحمل القصائد التي يعود تاريخها إلى عام 1858 النمطَ القياسي للترنيمة (النشيد)، واستخدمت ديكنسون العديد من الأوزان الشعرية السائدة في التراتيل وخصوصا البحر الرباعي (أربعة أزواج من المقاطع في البيت الواحد يكون المقطع الثاني في كل منها مشدَّدا أو منبورا) كما استخدمت بكثرة ما يعرف بالقافية الشاذة (off-rhymes) ومثال على ذلك تقفية كلمة (ocean) مع كلمة (noon) أو كلمة (seam) مع كلمة (swim). وكان لديكنسون طريقة مدهشة في استخدام اللغة اليومية العادية وهي طريقة تدعى التأليف -أي جعل الشيء مألوفا، من شأنها حسب قولها أن “تستخلص إحساسا عجيبا من معانٍ عادية”. شهدت أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر بداية أعظم حقبة شعرية لديكنسون، وكتبت بحلول عام 1865 ما يقارب (1100) قصيدة. رافق كتابة هذه القصائد الضغوطات التي تعرضت لها نتيجة لابتعاد سوزان وزواجها. ومن ناحية أخرى فقد عانت من بصرها (اعتقد الباحثون المعاصرون أن ديكنسون عانت من الحمى الروماتيزمية- التهاب مؤلم في القزحية، مما أجبرها على تجنب أي نوع من الضوء) وهذا كان أحد أسباب عزلتها. شهدت السنوات بين هاتين الصعوبتين، انفجارا في التعبير في كل من القصائد والرسائل، وتميزت كتاباتها بالتحرر من القيود.
نشرت خلال حياتها القليل جدا من قصائدها، رغم ذلك، انتشرت قصائدها على نطاق واسع بين أصدقائها، وكانت تقرأ القصائد للضيوف. وأرسلت قصائد لجميع مراسليها الصحفيين. راسلت ديكنسون توماس هيغسون (1823-1911)، الذي كان واحدا من المناضلين لإلغاء العبودية في أمريكا ومساندا لحقوق المرأة، وفي الحرب الأهلية الأمريكية كان عقيدا في كارولاينا الجنوبية، في أوّل كتيبة مكوّنة من جنود من أصول إفريقية، كما تمتّع بسلطة كبيرة في الأوساط الثقافية آنذاك. بعد سنوات من المراسلات الطويلة مع إيميلي ديكنسون التي كانت تختم رسائلها بعبارة: تلميذتكَ، قرّر هيغنسون -بدافع الفضول- السفر للقائها؛ اللقاء الذي قال بعده: إنها امرأة قبيحة غير أن كلامها عن الشِّعر يفرِّغ الإنسان من طاقته العصبية.
كتبت ديكنسون لهيغنسون عام 1862 “عملي هو المحيط” العبارة التي أشارت إلى نهايتين عزز كلاهما التوسع الذي تصورته لعملها. وكتبت إلى هولاند أيضا “عملي هو أن أحب، عملي هو أن أغنِّي” فهي تستحضر في جميع تلك العبارات الصيغَ الموجهة بلا حدود، في الترنيمة يمتد الصوت عبر الفضاء، ولا تستطيع الأذن أن تقيس أنغامه المشتتة، فالحب مثالي شرط لا نهاية له وكذلك المحيط. الصورة التي عادت إليها ديكنسون عدة مرات في شعرها، وتشير إلى عدم وجود حدود، فحين يذهب الأفراد وفقا لشروط ديكنسون إلى المحيط فإنهم يقفون على حافة مساحة غير محدودة. ويكمن المفتاح في قصائدها في الكلمة الصغيرة، من خلال تلك الكلمة يُفهم المعنى. فشعرها مشحون بالإيماءات والدلالات المختلفة، ولكتابتها خاصيتان تميزها عن الكُتّاب الآخرين، وهي الكتابة بحروف استهلالية، واستخدام الشرطات في جميع قصائدها، كما تتَّسمُ بالغموض وشدة الحساسية، وغالبا ما تكون قصائدها تعاريف، مثلا استخدام كلمة الأمل في قولها: “الأمل هو الشيء المكسو بالريش”. تستهلُّ إيميلي ديكنسون قصيدتها بصورة مجازية عن الأمل، إذ تشبهه بالطائر، واصفة إيَّاه بـ “الشيء”، كأنَّما تعرّفه تعريفاً معجمياً، لتحدثنا فيما بعدُ عمَّا يميز هذا الشيء، وهو الريش الذي يمنحه القدرة على الطيران، فيحلّق عالياً ثم يأوي إلى أرواحنا، حيث الروح مَجثَمُ الأمل، كما العشُّ مَجثَمُ الطائر. “التخلي هو فضيلة ثاقبة” لا ينفصل التعريف الديكنسونيّ عن الاستعارة، ودائما ما تعبر الجملة التي تقولها عن المقابلة بين المكتوب والمقصود.
توفيت إيملي ديكنسون في الخامس عشر من أيار/ مايو 1886 إثر أصابتها بالفشل الكلوي، عثر أفراد عائلتها بعد وفاتها على الرزم التي تضم 1700 قصيدة لها.