بابلو نيرودا
Poetry Foundation
ترجمة: مؤمن الوزان
خلَّف نيرودا، الشاعر غزير الإنتاج، أعمالًا ثريّة ومتنوعة، شملت قصائد الحب الملتهب والرقيق، والملاحم، والشعر السياسي، والشعر حول الأشياء المألوفة والحيوانات.
ولد بابلو نيرودا – الشاعر والدبلوماسي والسياسي – ريكاردو إليسير نفتالي رييس باسوالتو في بلدة بارال جنوب تشيلي. توفيت والدته، وهي معلمة، بعد ولادته بمدة وجيزة، وبعد عامين انتقل والده، وهو عامل سكة حديد، إلى مدينة تيموكو حيث تزوج مرة أخرى. بدأ نيرودا كتابة الشعر في سن العاشرة، على الرغم من معارضة والده، وساهم منذ عام 1918 إلى1920 بالعديد من الأعمال في المجلات والصحف المحلية، بتشجيع من غابرييلا ميسترال. اتَّخذ في عام 1920 اسم قلم “بابلو نيرودا (سيتبناه رسميًا في عام 1946) ليتجنب رفضَ والده. انتقل نيرودا إلى سانتياغو، عاصمة تشيلي، في عام 1921 والتحق بالجامعة لدراسة الفرنسية، عازمًا على أن يُصبحَ مدرسًا. بعد سنتين وبسن الثامنة عشرة، نشر أول مجلداته الشعرية “أضواء الشفق”، وأتبعه في عام 1924 بـ “عشرون قصيدة حب وأغنية اليأس”، وهو كتاب من قصائد الحب السوداوية التي دفعت به إلى الأضواء، مُثيرةً ضجةً كبيرة لشهوانيتها الصريحة، فتبتدئ أولى قصائده بـ: “جسدُ امرأة، تلال بيضاء أفخاذ بيضاء/ تبدين كعَالَمٍ مستلقٍ في حالة خضوع”. استخدم نيرودا صورًا واستعارات أصليّة لتتبع مسار علاقاته الغرامية، واستحضار البحر، والطقس، والريف البري لأرض وطنه، فضلا عن تجسيده لعشقه. ثم نشر ديوانه الشعري الثالث “محاولة الرجل اللا متناهي” في عام 1926، إلى جانب نشره لرواية، ساعدت جميعها في ترسيخ سمعة المؤلف.
تعيينات قُنصليّة
وافق نيرودا في عام 1927 على منصب القنصل الفخري في رانغون، بورما (ميانمار الآن)، وبقي متنقلًا في السنوات القلائل اللاحقة بين مناصب دبلوماسية، قاضيًا حياته في سيلان (سريلانكا الآن)، وجاوا، وسنغافورة. كان وجوده متواضعا جدًا، حيث كان منصب القنصل غير مدفوع الأجر، وتأثر من أعماق روحه من الحرمان الذي كان شاهدًا عليه. وقاده ارتباطه المتزايد بالجماهير المُعدمة في آسيا إلى نشره ديوان “السُكنى على الأرض (1933-1935)”. تختلف هذه القصائد التي رسخت سمعته العالمية تمام الاختلاف في أسلوبها عن القصائد الغنائية التقليدية في ديوان “عشرون قصيدة حب”. وعكست هذه القصائد بشكلها السريالي شعورَ نيرودا بالغربة وردة فعله تجاه فوضى العالم ولا معقوليته. وفي جاوا، التقى نيرودا بماريا أنتونيتا هاغينار، وهي امرأة هولندية تزوجها عام 1930. عاد الزوجان عام 1932 إلى تشيلي، وعُيِّنَ نيرودا بعد ذلك بعام قنصلا في بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، حيث أصبح صديقا للشاعر والمسرحي الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا.
الجمهورياتية الإسبانية
شغل نيرودا في عام 1934 منصب القنصل في مدينة برشلونة، ثم انتقل إلى مدريد حيث وُلِدت ابنته مالفا. ومن خلال صداقته مع لوركا، أصبح نيرودا جزء من دائرة أدبية كان أعضاؤها منخرطون في السياسة اليسارية. ومع اندلاع الحرب الاهلية الإسبانية في عام 1936، عمل نيرودا على حشد الدعم للجمهوريين، وانغمس في الساسية على نحو أكبر عندما قُتل لوركا على يد فرقة إعدامات قومية. تحول شعر نيرودا في تلك الأثناء ليكون أقلَّ شخصيّة وأكثر في توجهاته الاجتماعية والسياسية، ونشر في عام 1937 قصيدة “إسبانيا في قلبي” الداعمة للحركة الجمهورية، وكلَّفته هذه القصيدة منصبه. استُدعي نيرودا إلى تشيلي، وانخرط بعد عودته في السياسات اليسارية. وفي تلك الأثناء، انفصل نيرودا عن زوجته وعاش مع عشيقته، الرسامة الأرجنتينية، ديليا ديل كاريل. عُين نيرودا مجددًا قنصلا في باريس، قبل أن يصبح القنصل العام في مكسيكو ستي، حيث تزوَّج ديليا ديل كاريل في عام 1943. وخلال ذلك العام، زار دولة البيرو، وتسلّق قلعة الإنكا في ماتشو بيتشو، التجربة التي ألهمته لكتابة “مرتفعات ماتشو بيتشو (1945)”. احتفت هذه القصيدة الطويلة المكونة من اثني عشر جزءًا بالحضارات القديمة لأمريكا الجنوبية. وشكَّل هذا العمل جزءًا رئيسًا من عمله “النشيد الشامل”، المُؤلَّف المحلمي الذي عمل عليه نيرودا على نحو متقطع منذ عام 1938.
السياسة والنفي
بعودته إلى تشيلي، رمى نيرودا بنفسه في السياسات الوطنية، وأصبح عضوًا في مجلس الشيوخ، وانضمَّ بعد ذلك بوقتٍ قصير إلى الحزب الشيوعي. شارك نيرودا في حملة دعم المرشح الرئاسي “غابرييل غونزاليز فيديلا” الذي انتُخِبَ رئيسًا في عام 1946 ثم انتقل على نحو غير متوقع نحو اليمين. طُرد نيرودا من منصبه عضوا في مجلس الشيوخ ثم أصبح مهددًا بالاعتقال في نهاية المطاف بسبب نقده الصريح لإجراءات فيديلا القمعية. وأُجبر في عام 1948 على الاختفاء، وبعد أكثر من سنة من العيش سرًّا، ارتحل إلى المنفى، هاربًا على صهوة حصان عبر جبال الأنديز نحو الأرجنتين. سافر نيرودا على مدى السنوات الثلاث التالية حول أوروبا، بما في ذلك زيارة إلى الاتحاد السوفيتي الذي كان نيرودا يكن حينها الإعجاب الكبير لطاغيته جوزيف ستالين. بدأ نيرودا علاقة غرامية مع امرأة تشيلية تدعى ماتيلدا أوروتيا، التي ستصبح حبه الكبير وأعظم مصدر إلهام له في حياته، وتزوَّج الاثنان في عام 1966. واصل نيرودا العمل على ديوانه “النشيد الشامل” الذي نُشر أخيرًا في المكسيك عام 1950. كان هذا الديوان تتويجا لشعره العام، وانطلق في نظمه من تعاطفه مع الشيوعيين واعتزازه القومي. يتألف الديوان من 330 قصيدة موزعة في خمسة عشر فصلا، استعرضَ فيه ماضي أمريكا الجنوبية وحاضرها. إنها تحتفي بالعالم الطبيعي للمنطقة وكذلك مُستكشفيها وغُزاتها وأبطالها وشهدائها وحتى أفرادها العاديين.
أعمال في تشيلي
تمكن نيرودا في عام 1952 من العودة إلى تشيلي، حيث قدم دعمه للحملة الرئاسية (غير الناجحة) للمرشح سلفادور ألليندي، وأصدر ديوان قصائد حب، “أشعار النقيب” مُهداة إلى أوروتيا، والذي نشره تحت اسم مجهول حتى لا يجرح ديل كاريل التي كانت ما تزال زوجته. انفصل الزوجان بالتراضي في عام 1955، وعاش نيرودا وأوروتيا معًا.
تنعَّم نيرودا في تلك المرحلة من حياته بالثراء والشهرة وتُرجمت أعماله إلى عديد من لغات العالم. استمرَّ بالكتابة على نحو محموم في آخر عقدين من عمره، ناشرًا أكثر من عشرين كتابًا. وأصدرَ في عام 1954 ديوان “القصائد الأولية” التي شهدت تغييرًا في أسلوبه، بسطورٍ شعرية قصيرة ركَّزت على المصطلحات الواضحة للغة الشارع. وعلى سبيل المثال، تتألف “قصيدة للخمر” من: خمرٌ نهاريٌّ مُلون/ خمرٌ ليليٌّ ملون/ خمرٌ بأقدام أرجوانية/ أو خمر بدم التوباز.
كان “Estravagaria” المنشور في عام 1958 عمله الرئيس التالي، بقصائده الاستبطانيّة وبعضًا من قصائد الحب. كتب نيرودا خلال هذه المرحلة في شعر الطبيعة، بالإضافة إلى الشعر الشخصي والسياسي والعام. حلَّ التغيير في حياة نيرودا بفوز الرئيس الاشتراكي المُنتخب حديثا سلفادور ألليندي في عام 1970، والذي عيَّنه سفيرًا في فرنسا. وفي العام التالي، نال نيرودا جائزة نوبل في الأدب. لم يستمر نيرودا في منصبه طويلًا إذ عاد إلى تشيلي في عام 1972 إثر تشخيصه بمرض السرطان وتدهور صحته على نحو سيئ جدًا، ليموت في السنة اللاحقة، بُعيد أيام قلائل من الانقلاب العسكري الذي رأى فيه موتَ صديقه سلفادور ألليندي وتحطُّمَ آماله حول وطنه. تحولت حشود الحداد في جنازته إلى احتجاجاتٍ عامة مُرتجلة ضد الدكتاتورية الجديدة. وما تزال الشائعات حول اغتيال نيرودا على يد قائد الانقلاب العسكري، الجنرال بنكوتشيت، مستمرة حتى وقتنا هذا.