هوس ماري شيلي بالمقابر

بيس لوف-جوي


حجم الخط-+=

ترجمة: فاطمة مصطفى

طالما كانت مؤلفة فرانكنشتاين ترى رابطًا بين الحب والموت. فقد كانت تزور المقبرة لتتواصل مع والدتها المتوفاة، وعشيقها. شرحت ماري شيلي في المقدمة التي كتبتها لفرانكنشتاين عام 1831م: “ليس غريبًا أن فكرة الكتابة قد خطرت لي في وقتٍ مبكرٍ من حياتي، وأنا ابنةٌ لوالدين ذوي شهرة أدبية مرموقة.” بهذه العبارة تُجيب ماري عن سؤالٍ طُرِح عليها كثيرًا، وهو ما يعادل في القرن التاسع عشر السؤال القائل: “ما الذي يدفع فتاةً لطيفةً مثلك إلى الكتابة عن أمور كهذه؟”، ويكشف استهلالها بذكر والديها عن مدى عمق حضورهما في وعيها بذاتها. لكن واحدٌ فقط من والديها عاش ليشهد نشر فرانكنشتاين. ماري وولستونكرافت جودوين، الكاتبة النسوية اللامعة التي اشتهرت بكتابها دفاعًا عن حقوق المرأة، وتوفيت بعد أن وضعت ماري بزمن قصير، وهي حقيقة لحقت ابنتها لبقية حياتها. لكن لم تكن ماري الرضيعة هي المُلامة، بل الجراح د. بويناند، الذي أزال المشيمة قطعةً قطعة بيديه الملوثتين، مما أدى إلى إصابتها بحمى النفاس، ونجم عن ذلك وفاة وولستونكرافت بعد أيام قليلة من الولادة. (وفي ضوء ما أنجزته ابنتها من أعمالٍ إبداعية، يجدر التذكير بأن حمى النفاس كانت في ذلك الوقت تُنقَل في الغالب عن طريق الأطباء الذين كانوا ينتقلون مباشرةً من تشريح الجثث إلى توليد النساء).

شاهد القبر كان بمثابة الأم الوحيدة لماري شيلي – ساندرا غيلبرت

بعد ذلك، أصبح “الأم الحقيقية الوحيدة لماري شيلي هو شاهد القبر”، كما تكتب ساندرا م. غيلبرت. وهذه العبارة ليست مجازية تمامًا كما قد تبدو للوهلة الأولى، إذ قضت ماري وقتًا طويلاً عند قبر والدتها في مقبرة كنيسة سانت بانكراس، تقرأ الأعمال الأدبية هناك. وكان والدها، الكاتب والمفكر الإصلاحي وليم غودوين، قد اصطحبها إلى المقبرة أول مرةٍ وهي طفلة، ثم واصلت زيارة والدتها بمفردها، لا سيما بعد أن تزوج والدها جارته ماري جين كليرمون، التي ظنتها ماري لا تطاق، فتوترت حياتها في المنزل كثيرًا. تقول غيلبرت: “ولأنها لم تعرف أمها قط… كانت القراءة وسيلتها الأساسية لتحديد هويتها، ولا سيما في سنواتها الأولى مع شيلي، حين كانت تكتب فرانكنشتاين”. وتضيف: “لقد كانت ماري شيلي تُمعِن النظر في أعمال أبويها بلا انقطاع، حتى ليجوز القول إنها كانت “تقرأ” أسرتها، وأن علاقتها بكتبهم كانت امتدادًا لتلك الصلة، إذ بدت الكتب بمثابة والديها البديلين، وصفحاتها وكلماتها تقوم مقام اللحم والدم”. فمعظم قراءاتها في طفولتها المبكرة كانت داخل المقبرة نفسها. واتخذت المقبرة رابطًا جديدًا عندما دخل بِرسي شيلي حياتها. حافظت أسرة غودوين على الجو الثقافي في منزلهم، بزوار راديكاليين مثل الكاتب وليم هازليت، الفنان توماس لورنس، الكيميائي همفري ديفي، والشاعر صامويل تايلور كولريدج (الذي سمح ذات مرة لماري وأختها من أبيها بالاستماع إلى إلقاء قصيدة البحار العجوز بعد أن اكتشف أنهما كانتا تختبئان تحت الأريكة). لكن لم يكن لأحد تأثيرٌ على ماري بقدر ما كان لبِرسي، المولَع بوالدها، والذي جاء لتناول العشاء في أحد الليالي، أواخر عام 1812. التقى الاثنان مجددًا عام 1814، وعلى الرغم من أن ماري كانت في السادسة عشرة فقط، وأن الشاعر ذا الحادية والعشرين كان متزوجًا (بفتاة أخرى في السادسة عشرة أيضًا)، فقد بدآ يتنزهان معًا في ساحة كنيسة القديس بانكراس. كانت ماري مفتونة بفكره المثالي وجرأته، وبمظهره الذي وصفه صديقه توماس جيفرسون هوغ بأنه “جامح، مثقف، من عالمٍ آخر”.

يمكن للقراءة كذلك، أن تكون فعلًا بعثيًا

يكتب مارتن غاريت، مؤرخ سيرة ماري، أن آل غودوين كانوا في الغالب يظنون أن ماري وبِرسي كانا “يجددان عهدهما بمبادئهما الإصلاحية” في المقبرة. إلا أن ما كان يجري بينهما تعدى هذا الظن بقليل، ففي شهر حزيران/ يونيو أعلنا حبهما لبعض، وبعد مدة وجيزة تعاشرا للمرة الأولى، وهو ما تؤكده “الرواية المتداولة” أنه جرى في فناء الكنيسة، بحسب غاريت. تقول غيلبرت: “إن قبر والدتها موقعٌ كئيب، بل حتى مُفزِع، لأن يكون مسرحًا للقراءة أو الكتابة أو حتى للحب”. لكن لماري شيلي لم تكن المقبرة مجرد عنبرٍ للجثث المتعفنة، بل مكانًا للمعرفة والتقارب، مكانًا تقرأ فيه لتعمق ثقافتها الأدبية وصلتها بأمها، ومكانًا عرفت فيه أسرار الغرائز الجنسية. وهكذا اجتمعت المعرفة الأدبية والعائلية والجسدية كلها في مكانٍ واحد. 

ظهرت فكرة المقبرة بصفتها مكان لكسب المعرفة (وأحيانًا المعرفة المحرمة أيضًا) في أشهر أعمالها. فقد كان فيكتور فرانكنشتاين يُلحِقُ دراساته الكيميائية والتشريحية بزيارات للمقابر حين كان طالبًا، مبررًا ذلك بقوله: “يجب علينا أن نستعين بالموت أولًا لنفهم أسباب الحياة”. فالمقبرة، أو في الأقل ما التُقطَ منها، هو الشاهد على لحظة اكتشاف فيكتور الكبرى، تلك اللحظة التي تقوم عليها سائر أحداث الرواية. 

والآن وجدتني مدفوعًا إلى تقصي أسباب هذا التحلل ومراحل تطوره، ومجبَرًا على قضاء الليالي والأيام في السراديب وبيوت الجثث… رأيتُ بهجة الخد الحي تذوي لتخلفها عفونة الموت، ورأيتُ الدود يرث ما كان للعَين والدماغ من عجائب. توقفتُ أراقب وأحلل دقائق الأسباب كلها، كما تجلّت في هذا التحول من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة، حتى انبثق لي من صميم تلك العتمة نورٌ خاطف -نورٌ باهر مذهل، لكنه بسيط كل البساطة- حتى إنني، رغم دوار العظمة التي كشفتها رؤيته، دهشتُ أنه وسط هذا الحشد من العباقرة الذين درسوا العلم ذاته، لم يُكتَب لأحد سواي أن يظفر بهذا السر المذهل“.

والسر، بالطبع، هو سر الحياة نفسها- السر الكامن في كيفية “صنع الأجزاء المكوِّنة لكائن ما وجمعها ومنحها حرارة الحياة”، كما تكتب ماري في المقدمة. حقيقة أن جسد وحش فرانكنشتاين مجمعٌ من أشلاء الجثث، يوازي تشتت هوية ماري نفسها: فهي مثل مخلوقها بوجهٍ ما، بدون أم، وتجمّع نفسها من شذراتٍ ميتة تتمثل في الكتب. رواية فرانكنشتاين نفسها مجمعةٌ من أجزاء متفرقة، فالرواية مبنيةٌ في سلسلةٍ من الحكايات المتداخلة، نصوص داخل نصوص. تربط غيلبرت بين “الأسلوب الاستدلالي” في الرواية وبين محاولات شيلي لفهم الجنس، وهي المحاولات التي بدأت أولًا في المقبرة، وكانت “قراءة الأدلة الوثائقية وجمعها، وفحصها، وتحليلها، والبحث فيها، تمثل لشيلي طريقةً أساسية -وإن كانت تنطوي على نزعة تَطفّلية- لاستكشاف الجذور، وشرح الهوية، وفهم الجنسانية”. كما تشير غيلبرت، ثمة طرائق أخرى لقراءة وحش فرانكنشتاين بوصفه تمثيلًا رمزيًا لماري شيلي نفسها، وللأنوثة بوجهٍ عام. ففي حين تميل الثقافة الشائعة إلى التمركز حول شخصية فيكتور بوصفه “عالِمًا مجنونًا”، تتجلى أكثر مقاطع الرواية تأثيرًا في مونولوج الوحش، الذي تقرؤه غيلبرت بوصفه “تأملًا فلسفيًا في معنى أن تولد بلا ‘روح’ أو تاريخ، وكذلك استكشافًا لما يشعر به المرء حين يكون ‘كتلةً قذرة تتحرك وتتحدث، شيئًا، آخر، مخلوقٌ من الجنس الثاني'”. فهي ترى أن قراءة الوحش لكتاب السير لپلوتارخ لها دلالة خاصة، لأنها تُعد مدخلًا لتعريفه بالتاريخ المعتمد الذي حُرِم منه بسبب أصله غير الاعتيادي- وهو التاريخ نفسه الذي غالبًا ما أُقصيت منه النساء. (تكتب ساندرا م. غيلبرت وسوزان غوبار في كتابهما المرأة المجنونة في العلّية: “ما المرأةُ إلا رجل بلا تاريخ، أو في الأقل بلا ذلك التاريخ الذي يسرده پلوتارخ في كتابه السير“). أما لماري شيلي على وجه الخصوص، فإن معاناتها من فقدان والدتها والشعور بالإقصاء من أسرة والدها بعد أن تزوج مرة أخرى، جعلت فكرة أن تولد بلا تاريخ -أو في الأقل أن ترتبط بتاريخٍ محجوب أو مُحرَّف- كانت ذات أثر عاطفي بالغ.

يمكن للقراءة كذلك، أن تكون فعلًا بعثيًا. وقد أدركت ماري ذلك بفضل والدها. جادَلَ غودوين في مقالته “القبور” (1809) لصالح إقامة النُّصُب التذكارية على قبور “الموتى المرموقين” وتأسيس ما أسماه الباحث بول ويستوڤر برنامج “سياحة القبور” في بريطانيا. يكتب ويستوڤر أن غودوين كان يرى أن “الكتب القديمة هي الأجساد التي تتلبسها الأشباح”، وأن “القراءة هي لقاءٌ مع ظلال الكتّاب الراحلين”، ولعل ابنته أخذت هذه النظرة على محمل الجد. ومع ذلك، لم تكن القراءة سوى شكل واحد من أشكال التواصل مع الموتى، فقد كان غودوين يؤمن أيضًا بقوة زيارة بقاياهم المادية، كما شاركته ابنته ذلك الإيمان بوضوح. يكتب غودوين “ما يزال للموتى موضعهم الذي نزورهم فيه، موضعٌ إن جلسنا عنده بنفسٍ ساكنة هادئة، لا بدَّ أن نشعر فيه بحضورهم”. تُظهر ماري شيئًا من هذه النظرة في مشهد مؤثر آخر في فرانكنشتاين. فأول مكانٍ يقصده فيكتور قبل أن يغادر جنيف ليبحث عن مخلوقه، هي المقبرة التي دُفن فيها والده وأخوه وعروسه. تكتب ماري: “مع اقتراب الليل، وجدتُ نفسي عند مدخل المقبرة… دخلتها، واقتربتُ من أضرحتهم التي حملت أسمائهم… كانت أرواح الراحلين تبدو وكأنها ترفرف حولي، وتلقي ظلاً يُحَسُّ ولا يُرى على رأس الثاكل.” وفي هذا الموضع بالذات يقسم فيكتور بالانتقام من صنيعه: “يا ليل… وبالأرواح التي تحرسك، أُقسم أن أطارد ذلك الشيطان… وأستنجد بكم، يا أرواح الموتى، وبرُسُل الثأر الطوّافين، أن تعينوني وتهدوني في عملي”.

تقرأ غيلبرت، مثل غيرها من الباحثين، رواية فرانكنشتاين بوصفها “قصة رعب عن الأمومة”.

في حين كان شكل التواصل مع الموتى الذي سعى إليه غودوين أقل دراميةً من جلسة الاستحضار الصغيرة التي غذّاها انتقامُ فيكتور، فقد ظل تواصلاً حميميًّا في جوهره. ويكتب ويستوڤر أن غودوين، رغم رغبته في أن يوطّد القراء صلتهم بالموتى بزيارة قبور المرموقين، كان هو نفسه يتوق إلى تلك الألفة، فيقول: “كنتُ أودُّ لو يحفّ [الموتى]… بطريقي وبفراشي، وألا أسمح لنفسي بأن أتواصل مع الأحياء أكثر مما أتواصل مع الأخيار الراحلين”. مع أن العبارة لا ينبغي أن تُقرأ بالضرورة قراءةً جنسية فهي تكتسب دلالاتٍ أعمق حين نتذكر أن “الصديق المثالي” الذي يذكره غودوين في مقاله لإثبات أهمية البقايا يُشار غالبًا إلى أنها ماري وولستونكرافت. يفتتح غودوين وصف هذا الصديق بعبارة “رجلٌ عظيم ورائع”، إلا أنه يرسم ملامح من التعاطف والحميمية تبدو أقرب إلى صفات شريك حياة منها إلى علاقة أفلاطونية. (وهو يستبق أكثر المحنِّطين رعبًا حين يقول: “لأبذلُ كل ما أملك لو استطعتُ اقتناء فنٍ يصون لصديقي نضارته وحمرته الوردية، فيبقى رفيقًا لي إلى اليوم”). إن اهتمام ماري شيلي بالبقايا، وبالمقابر، ليس إرثًا ورثته عن وفاة أمها فحسب، بل هو أيضًا امتدادٌ لشواغل أبيها في ممارسات استحضار الموتى. مع ذلك، وبحكم كونها ابنةَ امرأةٍ توفيت بعد أحد عشر يومًا من ولادتها، وأمًّا لثلاثة أطفال ماتوا عقب الولادة، وجدت ماري نفسها في موقع فريد يتيح لها إدراك هشاشة الخط الفاصل بين الأحياء والأموات، وكيف يمكن للحياة والموت معًا أن ينبثقا من الموضع ذاته: الرحم. 

تقرأ غيلبرت، مثل غيرها من الباحثين، رواية فرانكنشتاين بوصفها “قصة رعب عن الأمومة”. في الواقع، كانت ماري تفر بين الحين والآخر مع بِرسي شيلي في أثناء كتابتها للرواية، وتذكر غيلبرت أنها كانت إما “حاملًا، أو نُفَساء، أو مُرضِعة” على نحو يكاد لا ينقطع، وأن كثيرًا من الاستعارات المحيطة بصنع فيكتور لمخلوقه توحي بالحمل. يولد الوحش في “معمل خلقٍ قذر” (“قذر لأنه جنسيّ على نحو فاضح”، كما تقول غيلبرت.) واللغة الوصفية التي تحيط بعملية حضانته تتسع بسهولة لهذا المعنى المزدوج: “مشاقٌ لا تُصدَق”، “هزيل من طول الحبس”، “أدوات الحياة”. وترى غيلبرت أن “ولوج فيكتور إلى ما كان بليك يسميه مجال التوليد يتجلى في إدراكه لضرورة الترابط بين هذين الضدين المتكاملين: الجنس والموت”. وتنوّه غيلبرت إلى أن الوحش لا يُمنَح اسمًا أبدًا، لأن شيلي كانت واعية تمامًا للعلاقة بين الاسم والشرعية الاجتماعية في المجتمع الأبوي. وقد تكون ماري مدركة أيضًا حقيقةَ أن اسم ميلادها، ماري وولستونكرافت غودوين، هو نفسه اسم المرأة التي ماتت بعد أن وضعتها، وكأنها هي ذاتها “بُعثت من الموت، جثةٌ مشحونة بالكهرباء، تنهض ساخرةً مما كان ينبغي أن يكون مهد الحياة”.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى