نبوءة شاعر
يتجمدُ الحبرُ في محيط قلمك، تُفزعه دعوات الموت الذي تنام المدينة فوق وسادته، تفركه بيديك كما كنت تفعل أيام المدرسة، تمسك الورقة البيضاء، تفترضُ أن تكون حُبلى بهلوساتك، بمجرد أن يقذف القلم شهوتك فوق سطورها: لكنها غصة الحرب. تعلل بهذا، وأنت تترك كلماتك متراصة على بوابة الأسطر، تدعك حنجرتك بلعنات، وشتائم اعتدت تجميل إطار صورتها البذيئة. تستسلم أصابعك لدورانها بين مدارات تصنعها عبثية القلم، تتبعثرُ الكلمات المعقودة في لسانك، تعضُّ أسنانك شفاه ليل تزعجك وجنته الشاحبة، وأنت تطالع صورة ضحية تحكي وجعك بفقدان ابتسامة للأبد، تحدق إلى أخرى تظهرُ فيها آلات موت مصندقة، تلوح بانتظارها لأصابع قتلة في طريقهم لإحراق مدينتك الآمنة، تتخبطُ معها أصابع فكرتك بحثاً عن شتائم لائقة.
يُفزعك صوت السيدة الجالسة بجوارك؛ ينفض غبار سكونك، ويقذف بك لأحضان امرأة تُقاسمك ليال فقدت بوصلة الإنسانية، يتبادر إلى ذهنك أنه دوي يُنتهك هدوؤك من أطراف المدينة، ويشعل كل انفجار منه رزمة من أعواد قلقك المتيبسة. تستبق زوجتك تشنجك منها، تربت على ظهرِ مباغتة بحةُ حنجرتها لك، فيتحابق شرودك عليك نيابة عنها، تشفق أنفاسك مدة غيابك عن أحضانها، غير أن نبضها المتسارع يقربك من بترها لأمل عودتك إليها، وأصابعك تسرد عجزها في نسج كلمات تخيط منها رثاء تحقنه قلب امرأة، لا يزال الأرق يخنقك كلًا منكما بمحاذاة تناثر جسد بعلها وسط رصاص القتلة، لكن وحدك من يلمح لوم أهدابها، ولعناتك تتعثر بازدراء همجيتهم قبالة مأساتها. تطردُ وهلةً شعورًا كهذا، تجلب ابتسامة نائمة من سريرها، تضعها بين أصابع زوجتك، تهمس لها من دون أن تنطق بحرف: لا القتلة أتموا صلواتهم الجهادية، ولا بوادر لأن تلبي رثاء زوجك كلمات تلفعها الصمم فجأة.
تتأمل أشياءك بوجه حبيبتك؛ تميع كلماتك فوق أشلاء مزقها لهيب الحرب، تشعرُ برغبة جامحة في البكاء، تحاول اغتراف النسيان من كلمات متعطشة لرشف شفاهك، تغمزها بابتسامة مُخادعة تسعى لمحو شكوكها في غيابك. لكن وجناتك القاطبة، المنفضة الحبلى بأعقاب السجائر، ضحكتك المجلجلة التي قصفتها الحرب، وأكثر من ذلك، إحساسك بالوحدة واستقبالك لمجرد: حبيبي، منها كما لو أنها رصاصة تهرب بجسدك من طريقها، حتى إنها رأت بعيون رعبك من صوتها ما يشبه هلع رجل عادت إليه الحياة، في حين تتناوله الأيادي صوب قبره. لم يعد الأمر سرّاً تخبئه وسط سطور هذياناتك كما كنت تفعل من قبل، تتفحص عري مخاوفك أمامها الآن، تعابث هروبك منها كما كانت كلماتك تفعل بوجوه القتلة، وأنت تجرجر تلفعهم بالقبح، بينما تتسمرُّ أعينهم كجسد ضحية ينتظر إزهاق روحه. تبدو لك منكسراً وضعيفاً، تطرد إحساسك بنظرات مضطربة تقدمها لزوجتك، وكلك أمل أن ترجع هذه المرة لكلمات، فتجدها تتجهز لمضاجعتك.
كغيرها من الضحايا، تبقى كلماتك مُكتظة بالتساؤلات، وأنت تنتظرُ حبيبتك ولو قُبلة مُفككه، تدغدغ بها فاجعة شفاهها لطول غيابك في زوايا الليل، تهرب أهدابك ثانية بعيداً عنها، تبحلقُ في جسد القتيل المنحوتة صورته سقف غرفتك، تطوفُ بأرجاء منزله الذي خيّم الظلام جدرانه، وأودع رحيله شمعة الأسرة للأبد، تستوقف بصرك جسد القاتل المبتهل بنصره، تلوك الورقة ومداراتها بيديك، وفوق رمش عينيّ حبيبتك يلوذُ بصرك بالفرار إلى اللا مكان. يسألك ذهول امرأة بجوارك، عن جدوى احتدام غيظك الليلة، تتكسر عصيّ كلمات، ويتسعُ تلعثم أحرفك المتباعدة، وأنت تفشل بمنحها ولو صورة مغبشة لما أنت فيه. ترمي رأسك مجدداً بين نهديها الناعسين، تستمع لنشيج قلبها، تحبس دموع عينيك، تبتلع وجع كلماتك وخوف أحزانك، تقفُ على أطراف أصابعك، تمسك يديها المُذعنة لك، تفشل بدعك حنجرتك ولو بكلمة يتيمة تهدأ قشعريرة حيرتها، لكن عناد كلماتك يتنامى إذا ما هممت بالتحدث، حتى إنك تُقرر ابتكار لغة جديدة، تتكهن أنها لن تجد صعوبة بفهمها؛ تستجيب لك، تقفُ خلف لغتك الطارئة، تضعُ رأسها على صدرك، تبعدها قبل أن تتسلل لأصوات قلبك، تمنع محاولة إبعادك لها، يتحرر صوتك من عقدته، وأنت تضحك دونما مقدمات، قبل أن تتوسلها بأن تشاركك الرقص، لكنها تصفع زيف حيلتك: حبيبي يا بن الخديعة لنرقص، ولكن على آرائك قلوبنا المثخنة بسر الغياب.
تقفُ أمامها كعاشقٍ بليد، تستسلم لحديث قلبها، تدرك حجم ما أنت فيه، وهي ترسمُ حجم غيابك فوق أُفق كلماتها الحنونة، تبدو لها متعباً وحزيناً، ترى بعينيها كآبتك التي كُنت تحاولُ إخفاءها عن نفسك، تتذكرُ ما تبحث عنه، ينسلخ إنصاتك من بين يديها دونما مقدمات، تركضُ ذاكرتك بين أكوام النصوص المتراصة، تجد صعوبة بالوصول إلى قصيدة صديقك التي يفرض حضورها لحظتك، تضعُ سبابتك على شفاه حبيبتك: وجدتها. تسحبها إلى حيث أرشيفك الإلكتروني، تمرُّ اللحظات وهي تكتم حيرتها إلى جوارك، تستقر في مرفأ بحثك، وما أن تنهي قراءة النص تُعيدُ ظهرك إلى الوراء، تركلها مُتسائلاً: أليس هذا تقرير موجز للحال الذي نعيشه يا حبيبتي؟ لكنها غادرتك بعيداً، غابت عنك، ليس كغياب أيامك مُنذ أضرمت الحرب جحيمها، بل لمكانٍ آخر أكثرُ قرباً إلى لحظتك التي تتقاسم وجعها معها، وأبعد من بعد المسافة التي أنجبها دمار الحرب: ما بكِ حبيبتي؟ توقفت بين يدي نبوءة صديقك الشاعر، سكنت هناك، لا تساورها أي رغبة في العودة: ما بكِ حبيبتي؟ غابت كما المدينة التائهة بين أمن ماضيها وخوف لحظتها، تجاهد فك طلاسم ما حفرته الكلمات فوق صخور قلبها: ما بكِ حبيبتي؟ ترمقك بنظرة من زاوية عينيها: لا شيء يا حبيبي؛ هلمَّ بنا!
– إلى أين؟
– إلى حيث صَدَقت نبوءة صديقك الشاعر.
– أين؟
تضحك، ثم تردف بشيء من نبوءة أخذتك منها: نأخذُ حصتنا من موتٍ قد لا يتأتى بعد اليوم.
تأخذها بأحضانك، وتصرخ:
هلمِّي بنا.
*
بلال طاهر: قاص من اليمن