مُذَكّرات الأَعْمَش
قصة قصيرة
“الأَعْمَشُ: الفاسد العين الذي تَغْسَِقُ عيناه، ومثله الأَرْمَصُ والعَمَشُ: أَن لا تزالَ العين تُسِيل الدمع ولا يَكادُ الأَعْمش يُبْصِرُ بها”.
ليلٌ لا ينجلي.
أغبش المساء، أزداد حلكة وخوف، وأفل بصيص ضوء القمر الساقط على زجاج نافذتي، تساءلت لماذا يهربُ النور من لقائي الحتمي وإياه؟ أهو خائفٌ مثلي؟ ولدت بعينينِ منطفئ بريقهما، يخفقان، يتَلألَآنِ في الظلام كعيني هرّة، وجسد هزيل، أجعد الشّعر، ووجه سمح سخيّ فيه كرامات الأنس والبؤس، وفي كل صباحٍ أخرجُ للعالم الذي أراه ولا يراني، أرتادُ المقهى ذاته منذ قرابة العشرين عاماً، المقهى المركون في زاوية آخر الشارع، أحتسي الشايّ مع صديقي الذي مات منتحرًا قبل عامين. قال لي أريد الذهاب إلى السماء لأراها. لم أكترث لكلامه وقتها، وظننته ممسوماً بهلوساته، وتعاطيه عقاقير مهدئة لأعصابهِ التالفة أو ما بقيّ منها حيًّا. أخبرته ألا يخف سيكون كل شيءٍ على ما يرام. في كل مرة نتقابل فيها يبدأ الجلوس بمحذاتي يتأملني، ويشرع في الإنصات التام لسماع مذكراتي اليومية وقصائدي الهزلية الساخرة، فتتبدى في داخلي سعادة عارمة وأنا أنقل الكلمات من المعنى الحسيّ إلى كائنٍ غادر الوجود بمحض الصدفة، وكما أنني خائف من الموت، وتغمرني رائحته الزكية، ناشرًا عبقهُ الزيتوني، تمتعض الحياة مني فتغادرني وحدها وبمشيئتها، يختارني وحيُّ الخوف ”الخوف من الموت هو الموت”. يقطع حبل أفكاري، يصرخ بأعلى صوته جميلةٌ قصائدك، يكيل لي عبارات الاستحسان والمدح، تغمرني الراحة وأضحك معه وأقول في سري: إني بلغتُ منايّ؛ نالت استحسانه وإعجابه.
حلَّ الصمت وكسر حاجز الضوضاء المكان، كان ميعاد الليل يسابق عقارب الساعة، حازماً صمته، اعتلى سلّم السكينة ليهبَّ بالمكوث أطول مدة ممكنة عهدًا للاتفاق المبرم، وأن تبقَ عينايّ مغلقتين لكي لا يتسلل فيها نور الله، إنه القربان المُشرّع لوصية الناموس، رمى على عينيّ قميص “يعقوب” حتى اسودت عينايّ وأنا كظيم، يتوسطها هوة عميقةٌ من الخواء. مشيّت ببطء لغرفتي، أتحسس في طريقي الأشياء من حولي، ولكن سرعان ما أتعثر عند أول خطوة أخطوها، فأسقط صريع الصمت، أسعى جاهدًا بالاستناد إلى الجدار لأنتشل جسدي من الأرض لكي لا يبتلعني الظلام، كعيني التي سقطت في بركة من السواد وغرقت، وانطفأت للأبد، فأنا لا أودُّ أن يغرق جسدي معها، خوفاً من أن تلاحقني أسراب الظلال، وأسقط في أشْراكها، أتحسس بيدي الطريق مجددًا. تراني الجمادات وأنا أحثُّ الخطى بحذر، بمهل، تظن أنه يصعب عليّ تحديد أماكنها ورؤيتها، لكنني أراها كما تراني هي جمادا، منضدة خشبيّة في منتصف غرفة المعيشة، وأرففٌ معلّقة في المجهول بين الأرضية والسقف، وكتبٌ مكتظة، متكدّسة متراكمة فوق بعضها البعض حتى تكاد عناوينها أن تختنق. وممرٌ طويل في آخره سجني. منفايّ. أمشي ببطءٍ شديد، محترساً الاصطدام بباب غرفتي كعادتي المتكررة بنسيان وجوده، ولكن الباب هذه المرة خدعني، فعند اقترابي منه انفتح على مصراعيه، واخترق جسدي بحرٌ من الظلام.
وصلتُ وجهتي أخيرًا، جلستُ جلسةً -مُسْتوْفِزَاً القعْفَزى- مستشعرًا صوت الصمت وهو يداعبُ أذني بِخفة، أنفاسي متسارعة، ونبضات قلبي تكاد تخترق قفصي الصدريّ، كم مرة طرأت لي فكرة هروبه من صدري ليتوارى وراء. ساخرًا مني لعجزي عن تحديد مكانه لأهمَّ بالبحث عنه، أظن إنها فكرةٌ سخيفة. يمتلئ النسيان برائحة الذكريات العالقة، يبعثرها علّها تتحرر قيودها من الأسر، فتهربُ من سطوة الماضي والحاضر إليّ أنا. وأنا لا أهرب لأي مكان خوفاً من ألا أجدني عندما استيقظ.
قضَّ مضجعي الأرق أمسى صاحبا وخليلا، صديقا دائماً لا يتركني لأهنئ في النوم أو لأكسب بعض الوقت في سبات لا يتعدى الساعة، يجلس الأرق على صدري بكل ثقله، كما يكتظ العالم اليوم في أفكاري اللا منقطعة عنه، يناولني جرعات من الظلام أفرغها في عينيّ قطرة.. قطرة. يتسع معها محيطُ اللّيل وأفلاك البروج. هأنذا منكباً بجلستي أتحسسُ أشلاء الأوراق المتكورة كقذيفة مقذوفة من مدفع، أفكُّ لثماها وأعريها كما يتعرى الليل بنور الشمس، أبسط الأوراق على جلد الأرض وأفرشها، وأمسك القلم بيدين مرتعشتين.
وأكتب.. أكت ب!
يوم الاثنين، الساعة: الثانية وإحدى وعشرون دقيقة صباحاً.
السماءُ صامتة لا تبكي ولا تبدي أي ردة فعل أتراها عاجزةٌ عن الكلام؟ الظلام يملأ المكان ويلتهمه بشراهة كأنه وحش “بهموت”.
لا أرى شيئاً سوى النور الذي يسطع من قلبي يقودني حيث لا ترغب قدماي في المسير نحوه. أسيرٌ للأمكنة التي يرتادها قلبي بحثًّا عن صديقي بين الحضور، صدري مكتظٌ بقيامات الغرباء، أسمع أنينهم وشكواهم ومصائبهم، كأن جميعهم أنا. أتمنى لي القدرة على عيش حياة هادئة فارغة من البشر، الطير، الحجر لا أحد هنا سوى أنا. حياةٌ تضحك لي، فينفجر نور الصباح في وجهي المُباد.
صديقي “أنير” [1].
منذ أن قررت الرحيل لعالم الأموات للقائها، هجرتني، وتركتني هنا وحدي، لأعاني لوعة غيابك، وأشرب مرارة الحزن والفقد، تركتني هنا لأصارع مرضك، عقاقيرك، موتك، أيُّ صديقٍ يهجر أخاه عامين ولا يبْدَأُه السَّلام! أخبرتك أني كالصمت هادئ جدًا، في أعماقي يصرخ القلق ويضطرب الحزن وأغدو كما ترى وحيدًا من أمسِي وظِلي، وحيدًا مني لا وجهة لديّ لأيّ حياة أخرى، أعيش حيوات اليأس واحدة تلو الأخرى وأنسى موتي.
أتذكر عندما كنت أفتش في غرفتي عن رسائلك ويومياتك التي تكتبها.
”من أنير إلى أريناس. [2]
إنه اليوم الأول من شباط.
عزيزتي الجميلة “أريناس” .
اليوم ذاهبٌ إلى طبيب النفسي لأتلقى العلاج، أحب الالتزام بمواعيدي، وأحضرها في باكورة الصباح، الجو جميل هذا اليوم هواؤه نقيّ، ونسماته بارده، أشعر بأني عصفور. تحرر للتو من قفصه. إني سعيد جدًا، والسعادة تغمر روحي المقفرة، أسقاني غيّث حبكِ قطرات هواكِ، فلامس جسدي الأهيف وأحياني حباًّ وعشقاً، أخطُّ رسالتي هذه وكلي حياة، أن تهديك الحياة قُبلة الشفاء، أطمحُ إليك بخطواتي المرتجفة، لا تصل في المدى القريب، تصل في المدى البعيد منك، هذا الصباح يعيد إلي الكثير من الحرية والحب، أنتشي بخمرك أثمل، أترنح، أقف، أسقط، لا أسقط، فأهوي في غرامكِ، فارسكِ الطريد قد فني في أرضكِ كجوادٍ جريح، ما أجمل أرضكِ وهي تستقبلني بكل رحابة حب، وأنتِ تظهرين بكل فتنة جمالك وحياؤك أمام عيني، انصت لصوتك الغنائي بكل تأملاتي، أسافر فيكِ وإليكِ، فأعود حاملاً أزهار الكامبيون كملاكٍ من الجنة، أهواكِ بملء الروح في ثمالتها، وبأصبوحة طائرٍ شجيّ أقامَ أغنية الوجد، أنتِ عشيرتي وشريعتي، ووطني الذي وهب لي بهاءكِ، لبستُ ثوبَ البياضِ ورفعتُ رايتك البيضاء على شاهد حبي، صوتكِ أمتزج بأغنيات النوارسِ، أقف أمامكِ وأنا أفكرُ كيف خلقكِ الإله بهيئة الفردوس، رائحة عطرك الأنثوي يفوح منك، تأسرني رائحته الذكية، وملامحك فاتنةٌ كآية الجمال. أحبكِ كثيرًا”.
صحتي تتماثل للشفاء، هذا ما أخبرني به الطبيب، وبأني سأعود إلى حياتي الطبيعية لأمارسها كما أريد. ما رأيك في أن نخرج معا إلى البحر؟ فالبحر جميلٌ في فصل الشتاء. حبيبتي الرائعة أنا تائقٌ لقرائتك خطابي هذا، وأنتظر بفارغ الصبر رسالتكِ لا تطيلي عليَّ بالرد.
”من أريناس إلى أنير.
لقد قرأتُ خِطابك. وأنا سعيدةٌ جدًا بأنك تتماثل للشفاء. والخبر أسعدني كثيرًا. عزيزي أنير لا أعلم كيف أصف لك شعوري وأنا أقرأ رسائلك المملوءة بالحب والأمان، تغدقُ عليّ بكلماتك الرنانة العذبة، وأسحر بلغتك الجميلة، أيها (الملاك) أحب وجودي بجانبك، أنا تلك الفتاة التي ستستندك مهما عصفت بك الحياة، فلن أتخلى عنك مهما كلّف الأمر، أصبحت محبًّا للحياة يا أنير وهذا يشعرني بالرضا، زهرتك اليوم بدأت في كتابة روايتها الأولى، إنه أول طريق لي في عالم الكتابة، متمحسةٌ جدًا أن أجعلك إحدى شُخُوص روايتي وبطلها، سأشارك مقدمتها عندما أنتهي منها. صحيح تذكرتُ شيئاً فقدت عدت لممارسة هوايتي وهو الرسم فكما تعلم أني شغوفة كثيرًا بالرسم، يبدو أني أحب الحياة مثلك.
أيها الملاك أنير أنتظر قدومك، فأنا أرغب في الذهاب للبحر والاستمتاع معك.
زهرتك الحبيبة أريناس”.
أخذت الرسائل المدونة ووضعتها جانباً. أعادني أزيزُ الصمت من خيالي لواقعي المرير. تأملتُ الظلال المتحركة وهي تسبح في الفضاء بلا جناحين. تطوف في أرجاء غرفتي، وتمثلت في شكل أريناس رأيتها ممدودة على الأرض، وبجوارها صديقي ظلانِ حميمان غرقا في بحرٍ من الظلام. سقطت أريناس من أعلى الجسر على قاربٍ كان متروكاً هناك ففارقت الحياة على الفور، بلغ أنير نبأ موتها، ساءت صحته كثيرًا عندما علم بأنها تركته إلى الأبد. وأن الموت كان صديقاً حميماً لها. لم يحتمل الوحية فخرج في ليلةٍ مظلمة، البدر فيها مكتملاً ومنعكساً على سطح البحر، ألقى بجسده في البحر، فابتلع القمر جسده، أراد الذهاب حيث ذهبت. ذهابٌ بلا عودة.
كان بالإمكان معالجة الأمر دون أن ينتهي المطاف بكارثة مدوية في قلبي. أنا أخسر جميع من ألتقيهم، كأني شخص مشئوم، داء الشؤم، ولعنةٌ تصيب كل من أحبه بالموت، هكذا دونما عنوان وسبب، أشعرُ بأني حزينٌ ووحيد، كل من أحبهم رحلوا أحبائي وأصدقائي وأنا. أرى اسمي في قائمة الأموات، قبري يتسع لهم جميعاً ولا يتسع لي.
نباح الكلاب يخترق جدار الصمت، فيصبح نباحها عواءً لا يتوقف، استيقظت من تعبي بعد أن خذلني جسدي ونمت في مكاني، فركت عينيّ الفارغة لأجدني ظِلاً لا شكل له، ليس حولي أحد كنتُ مذهولاً حقاً. أين أنا؟ هل فارقت الحياة؟ تزداد أمواج الظلام بقوة، أحدهم يجرني إلى الأعماق لا أستطيع التنفس ولا الحراك. ينهار ظلي ببطء، تتصلب أنسجة ظلي فأتلاشى في نور الصباح.
___
تعني كلمتا أنير وأريناس بلغة الطوارق:
[1]: ملاك.
[٢]: أريناس: اسم وردة جميلة تدعى le’o ferre’
*
سلطان سالم سيف المعمري: قاص من عمان.