من الحاضر إلى الماضي: فحص الأدب التاريخي، رواية “مذكرات هادريان” لمارجرت يورسنار أنموذجًا

ديفا جِشَوي


حجم الخط-+=

ترجمة: نيازي الهادي

يتساءل الناظر في الأعمال الأدبية المبنية على الوقائع التاريخية عن مدى مطابقة الأدب للواقع، وهذا تساؤل مشروع، غير أن فيه نظر، إذ حريٌّ بالقارئ شيء من التخفّف من إلزام العمل الأدبي بموافقة صحيح التاريخ. فرواية كمذكّرات هادريان لمارجرت يورسنار تنقل قارئها بحقٍّ لزمن الإمبراطور هادريان، إلا أنها لا تلتزم بالتدرّج في حياة هادريان كما كانت في الواقع، هذا، لأن يورسنار لم تكن من أحبار الروم إنما هي روائية ومؤرخة، ولذا تأثر سردها في الرواية بالتغييرات التي تلحق بالأحداث التاريخية عبر القرون. فلو أن لحظة تاريخية ما تجمّدت في الزمن، لبقيت كما هي، إلا أن سِجِلّ تلك اللحظة هو مصدر المؤرخ لا اللحظة نفسها، وهذا السجلّ يلحقه التغيير كغيره من الأشياء. ثم إن السجلّات، جديدها وقديمها، خاضعة لوجهات النظر التي يقل فيها الحياد. ومع أخذ هذا في الاعتبار فإننا سنعرف أن بلوغ الصحة التاريخيّة يستحيل في بعض الحالات. كثير من يظن التاريخ مجموعة من الأخبار التي لا يطرأ عليها التغيير، فكأنما نُقِشت على حجر، وإن كانت كذلك فكم من ناقش أتاه فزاد فيه وأنقص منه. في حديثها عن مثل هذا الأحجار والتماثيل التي يأتى عليها الدهر، كتبت مارجرت يورسنار بحصافة في رسالتها “الزمن، النحّات العظيم”، فمع أنه لا يزعم زاعم أن التمثال حي كصاحبه فإن أحواله تتبدل كصاحبه. تقول يورسنار “تترك كل الحوادث أثرها في التماثيل حتى تغيّرات الطقس في محابسها داخل المتحف” (انظر في النحّات العظيم ص58)، بل إن الزاوية التي ترى الأجيال منها هذه الآثار تترك أثرها في الطريقة التي تراه بها الأجيال اللاحقة. “فمن بين كل التغييرات التي يحدثها الزمن، لا شيء يؤثّر في الآثار كتفاوت ذائقة مبصريها”. (النحات العظيم ص61). مَثَل التاريخ وأخباره كمَثل تلك الأحجار، وهذه مقاربة ذكية لأن عادة التماثيل البقاء والصمود، فتماثيل الحجر والمعدن التي تذكرها يورسنار مواد صلبة صعبة الكسر يمكنها الاستمرار قرونا، ونحن إذ نقارب الحجر بالخبر نزعم أن للخبر [أو السجلّ التاريخي] الصمود مثله مثل التماثيل. ومع ذلك على القارئ الإمعان، إذ إن الكاتبة حين تقول بصمود السجلّات فهي لا ترى أن ما بين يدينا يطابق الأصل المنقول عن الحادثة سواءً بسواء. يتعاقب الزمان على السجل، وتطرأ عليه المراجعات والتوضيحات وربما الترجمات العديدة، مبايِنةً النسخ المنقولة التي عندنا عن السجل الأصلي. طبّق هذا إن شئت على كل أحداث التاريخ، كالإمبراطورية الرومانية مثلًا، فكم من سجلاتها دخلته التراجم والتفاسير. 

في رسالتها “الزمن، التمثال العظيم” تكتب يورسنار “قد تنسف التماثيل نسفًا وتجعل دكّاء ثم يعاد رصف حطامها لإنتاج مادة جديدة” (الرسالة ص58). إن روايتها “مذكرات هادريان” تحمل شيئًا من هذا، فقد جمعت ما نقل إلينا من أخبار هادريان المفرّقة في الكتب ووفّقت بينها لتؤلّف الرواية، فكأنها أعادت إحياء حياة هادريان من هذا القطع المتباينة، وأَعمَلت فيها التقديم والتأخير والإضافة بحسب ما يقتضي الحال. هذا وغيره مما لا بد منه في مثل هذه المؤلّفات، فمع أنه بلغنا من أخبار الإمبراطور الكثير فإنه عاش في زمن بعيد. واعلم أن مثل هذا التأليف والتوفيق لا يقتصر على الأدب، بل إن المؤرخين أنفسهم قد يضطرون لمثله وإن كانوا موضوعيّين. هذه الهوّة الزمنية التي تفصل تلك العصور عن عصرنا تؤدي إلى معضلات نظرية، عَرَض مثلها ليورسنار في محاولتها لإيجاد “الصوت الحقيقي” لهادريان، وقد كتبت في حواشيها على الرواية أنها تصورّتها حوارية في الأسلوب، غير أنها عجزت عن إيجاد صوت هادريان الحقيقي هذا في حوارات بقية الشخصيات. بَيد أن سببًا آخر لعجزها عن إيجاده، وهو أن كتابة التاريخ لا تكون حوارية في العادة، فلم يكن عندها أصل في ذلك ترجع إليه، تقول “لا مصدر عندنا للأحاديث الشائكة بين هادريان والآخرين عن عظائم الأمور وطارئها ومعقَّدِها، ولا لنبرات حديثهم، ولا لأنصاف ابتساماتهم، وكل هذا يمكنه تغيير سير الأحداث كليًا” (النحّات العظيم ص31). ولولا بقيّة باقية من تلك النقاشات لبَدَت الحوارات في الرواية معاصرةً للغاية.
بَنَت يورسنار روايتها من صوت هادريان المنثور في الكتب، تقول “في محاولتي إعادة اكتشاف ذاك الصوت بحثتُ في القليل المتنوّع الذي تركه هادريان نفسه” (النحّات العظيم ص33). “هادريان نفسه” يا لها من التفاتة مهمة- وبه تكون قد أخذت من المصدر مباشرة -وما أقلّه من مصدر- في سعيها لإيجاد هذا الصوت الذي ارتأت أنه ملائم له. ثمّ شبّهت جمعها إياه من مصادره بإعادة بناء تمثال رخامي بِضمّ أجزائه المتناثرة، كما في الرسالة ص35. وأعربت الكاتبة عن صعوبة ذلك قبل الرواية بزمن وذكرته في مقالها “الصوت واللغة في الرواية التاريخية”.
مَكثت يورسنار في كتابة روايتها نحو عشرين سنة، وتقول إنّ طول هذه المدة ساعدها في إدراك بُعد زمن الإمبراطور [عنها، على نحو أفضل]. فلتكون المذكرات قابلة للتصديق لزمها أن تجعلها كأنما كتبها الإمبراطور نفسه لا هي، وهي [إنما نجحت في هذا] نجاحًا فاق الآخرين، لأنها استطاعت تمييز صوتها عن صوت هادريان [الذي تكلّم عبرها] في المذكّرات. وفي مراجعتها لهذا تقول إنها لا تزعم أن نجاحها كان متّسقًا في طول الرواية، وتذكر أنها “لم تعد تظن أن هادريان كان لِيَكتب عن نفسه كما في روايتها”، فإذا كانت جودة فقرة ما في الرواية غير كافية لاستحضار شخصية هادريان فإن مشكلة فقراتٍ غيرها كانت في استخدام اللغة المعاصرة. وفي هذا السياق، تتذكّر الفقرة التي تلت وفاة أنتينوس في الرواية قائلة “لقد جعلته يتكلم بالفرنسية الحديثة”. استعراضها هذا وإن كان ملاحظة أكثر من كونه نقدًا يرينا كيف لمَرور الزمان أن يكون عائقًا أمام التصوير الدقيق للتاريخ -أو قل التصوير “الأصيل” على رأي يورسنار-.
إن قلنا “التاريخ” فإننا لا نعني الأحداث نفسها إنما سردها، نعني الوثائق والسجلات التي يعتريها التغيير، فكأنها تماثيل ينحتها نحّات عظيم هو الزمن، “فيُراكم عليها التراب والزنجار” (النحّات العظيم ص58)، والمرء وهو ينظر لتعبير يورسنار اللطيف هذا -كيف أن مجرّد وجود التماثيل يبليها- له أن يطبّقه على التاريخ. تزيد الكاتبة فتقول “ليس على الأرض تمثال يوناني واحد باق على الحال التي صنع عليها” (النحّات العظيم ص57)، وكمثله، لن نستطيع رؤية أحداث الماضي كما رآها أصحابها، بيد أننا نستطيع تخيّله كأنه حاضر، مثلما نستطيع تخمين الشكل الأصلي للتمثال. إعادة سرد التاريخ سردًا مثاليًا متينًا ضربٌ من المستحيل، وعليه يكون من الجهد المهدر تحرّي الدقة في كل التفاصيل.
تتبّعت يورسنار التفاصيل في السجلات “الأصيلة” التي سجلت حياة هادريان عن قرب، وكان هذا منهجها في البحث لا غاية تريد إدراكها. إنّ إيجاد جوهر حياة هادريان وأحداثها كان هاجسها الأكبر، والأمر كان كما قالت “في [سبيل] الحقيقة التاريخية، يخطئ المرء ويصيب”. (هادريان ص330)، “ومن الأهمية بمكان أن يبدو الانطباع [الذي يتركه الكاتب] بل وتعبيره عنه، أصيلًا” (النحات العظيم ص36). لا يعني هذا إهمال التفاصيل التي تدعمها الوثائق، مثل هذا يجب توضيحه حين نناقش “مذكرات هادريان”، الكتاب الذي أنتجه البحث العميق في سجلّات عصره. بيد أن أهمية السجلات التاريخية تتضاءل لأن التاريخ لا يسلم من الاضطراب، وإنك تلجأ إلى كثير من التخمين لتجمع صورة متكاملة عن حدث تاريخي ما، وكأنك [إذ تخمن] كمن يتخطّف ويقتنص [ما يراه جيدًا من التفاصيل]، وكما سلف الذكر، فإن هذه هي الطريقة الأنجع في التعامل مع حوادث العصور الخالية، فتقادم عهد السجلات يتناسب طرديًا مع إمكانية تلفها وفقدانها.
إنّ لنا أن نسترجع هذه اللحظات المفقودة ونعيد بناءها، مثلها مثل أي مظهر آخر من مظاهر التاريخ، غير أن إثبات [مطابقة نسختنا للأصل] عسير. [تُمثّل] يورسنار قائلة “لكل جرح أن يساعدنا في إعادة تركيب الجريمة بل واكتشاف أسبابها” (النحّات العظيم ص59). إن الفراغ الذي تتركه المعلومة المفقودة دليل [على وجودها]، وكل فرضية تحاول كشف ماهية تلك المعلومة لن تعد محكمة إلا بحسب ما يسمح بها دليلها، ولهذا تقول الكاتبة “فليكن لعدم الإحكام مجال” (النحات ص36)، وقد طبّقت ما قالته هنا في كتابتها للرواية. علينا الإقرار بأن تخميناتنا هذه في النهاية محض تخمينات، وكذلك بأن تطاول الزمان يمنعنا من اكتشاف كل التفاصيل، وعليه يكون ترك المجال لعدم الدقة مما لا بد منه ما دمنا لا نملك وسيلةً تقرّب الشُّقّة.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى