منامات نوح عبد الرحيم وأحواله

قصة قصيرة


حجم الخط-+=

المنام الأول

رأيتُ في منامي: أّنّ وباء كورونا عاد مُـجدّداً فاختطفت يده الـمخاتلة قريبي الـمُقرّب (ف) وأضجعته أياما على السرير الأبيض، إلا أنّ الوباء لـم يـُمهله أياماً إضافية في الـحياة حتى انطلقت الرسائل الكثيفة من هاتف النّاعي لتُفجعنا بـخبر موته الثقيل على نفوسنا التعبة من كمد الـحياة وشقائها.

تناقلنا الـخبر الـحزين، كمن يتناقلون الـجمر بين أيديهم، ثـم اتـجهنا عصراً إلى مقبرة الثليماء*، تلك الـمساحة الشّرهة التي ابتلعت الكثير من أقاربنا وجيراننا وأصدقائنا، وربـما نـحـن في يوم ما سنكون مـمن ابتلعتهم.

كانت الشمس تضيء الطريق الزراعي تـجاه الـمقبرة، وبعد وقت مائع بطيء وصلنا إلى سُورها الطويل، فدُسْتُ ترابـها بـخفين جلديين بُنيين، ورغم أن جوربيّ السميكين الأسودين كانا مُلتصقين بقدميّ حتى أعلى كعبيّ فقد دَبَّ التنمّل فيهما بعشوائية.

ها هي ذي مقبرة الثليماء ذات الأسوار العتيقة، والـمساحة الـهائلة، والأبواب الـحديدية الكبيرة ذات النقوش الصدئة، حيث القبور على مدّ البصر، موتى من سنوات طويلةٍ ابتلعتهم هذه الـمقبرة التي لا تشبع، وغير بعيدٍ منّا مُشيّعون خلف ميتٍ للتو جاءوا به، ونـحن كغيرنا نُشيع ميتاً ونُساهِم في دفعه إلى مرقده.

رأيت الوجوه تـموج في غبش الـحقيقة الشاخصة، وعن يـمينهم قريبي الـمسجّى على آلة الـموت، وقد استدارت على جثمانه أكفان الرحيل، وعند رأسه يقف طاقم طبي عُنِيَ بشؤون دفن ضحايا الوباء. هناك كان الوداع الأخير لتتلوه عبارات العزاء الـمُتداخلة بين الـمشيعين.

ودّعنا فقيدنا، وصرنا جـماعات صغيرة داخل دائرة من جـماعات أخرى تتوغّل في مشاعر الـحزن ذاتـها. كانت رائحة العزاء الثقيلة تطوف بالـجميع تصحبها أصوات تأتأة أقارب الـموتى الـمدفونين للتو، كان تأتآتـهم تتعثّر في مسامع الـمُعزّين والـمُواسين، وهي تتمازج مع آخرين ينفُضون أيديهم من تراب القبور، ويساوون أكمام ثيابـهم البيضاء بـخمول، وهم ينظرون بتأمل باردٍ إلى وجوه الـمعزين وذوي الـمتوفين.

وسريعاً دفعني حنيني إلى زيارة قبر جدي لأبي في أقصى الـمقبرة، نظرت إلى القبر الذي ينام فيه جدي منذ منتصف التسعينيات، والريح تـهبّ باردةً على بدني. فجأة سألني حفّار القبور الـحنطي النحيل:

– هل تزوز أحداً؟

دون أن أفتح فمي، نظرت إلى ملامـحه الذابلة ورأسه الأشعث، ثـم هززت رأسي بالإجابة، فانتقلت نظراتي إلى معطفه الأزرق الطويل، فسحب يده من جيبه الأيسر وارتفع دخان كثيف حال بيننا، وصوت شديد العذوبة يُغنّي مُتعثّراً في شجنه:

أَيْنَ الأَحِبَّةُ قَدْ تَفَرَّقَ جَـمْعُهُـمْ
أَطيَافُهُمْ قَدْ أَغْمَضَتْ أَجفَاني

غَابُوا فَلا ذِكرَى لَـهُمْ أَسْلُو بِـهَا
تُبْرِي جُرُوحَ القَلبِ مِنْ أَحزَاني.

ثم استيقظتُ من نومي

*

مـاجـد سـلـيـمـان: قاص من السعودية.

*الثليماء/ الثَّلْمَاء: تأنيث الأثلم، وهو الفَلول في السيف والـحائط وغيره، قال الـحفصي: الثلماء من نواحي اليمامة… لا تبعد (الثلَيْمَاء) عن مدينة الـخرج جنوباً أكثر من عشرين كيلاً، ولـم تعد تسمى بغير الثليماء فقط، وكانت قبلُ غير مُصغّرة (الثّلْمَاء). انتقلت من كونـها منهلاً فأصبحت قرية ذات نـخيل ومزارع، تقع على قارعة الطريق بين (الـخرج) وبينَ (البَيَاض) و(هُرَيِّسان) ومرابخ الدهناء، في جنوبي الرياض – السعودية. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى