مارتن هايدغر (1889-1976)
Great Thinkers
ترجمة: موسى جعفر
مع أن هذا الحقل لا يخلو من متنافسين مميزين آخرين فنجم مارتن هايدغر يسطع في التاريخ التنافسي للفلاسفة الألمان غير المفهومين منتصرًا عامًا. فلا شيء ينافس نثره في تحفته «الكينونة والزمان» التي نشرت في العام 1927، بسبب الكلمات الملتوية وكثرة الكلمات الألمانية المركبة المعقدة التي صاغها بنفسه، مثل: نسيان الكينونة Seinsvergessenheit والتجذر في التربة Bodenständigkeit والدستور الأساسي Wesensverfassung. أغلب الظن أن كتابات هايدغر ستبدو مربكة بل ومزعجة في البداية، لكن يستطيع المرء الاعتياد على أسلوبه بالتدريج، فيدرك أن وراء ضبابية نثره بعض الحقائق اليسيرة والمألوفة أحيانًا عن معنى حياتنا وعلل زماننا والطرق إلى الحرية؛ لذا فإنه يستحق الاهتمام.
ولد هايدغر ألمانيًا في مقاطعة ريفية، وكان يحب التمشي في الريف وقطف الفطر والنوم مبكرًا، ويكره التلفاز والطائرات وموسيقى البوب والطعام المعالج، وظل كذلك بطرق كثيرة.. غدا مولود العام 1889 للعائلة الكاثوليكية الفقيرة، نجمًا أكاديميًا بعد نشره لكتاب الكينونة والزمان. لكنه زل زللًا كبيرًا حين صدق وعود هتلر في منتصف الثلاثينيات (ولم يكن الوحيد)؛ تمنى أن يعيد النازيون كرامة الألمان وانتظامهم، فقدم بعض الخطب الملتهبة المناصرة للنازية تماشيًا مع تيار عصره، وحاول حظر اليهود من التدريس في جامعة فرايبرغ التي كان عميدًا لها. ويكاد المرء يسامحه على فترة الخَبَلِ تلك لأنه دفع ثمنها غاليًا بعد خسارة الألمان الحرب في عام 1945؛ اقتيد إلى لجنة اجتثاث النازية، ومُنِعَ من التدريس حتى نهاية العقد. المثير للدهشة أن وظيفته انتعشت من جديد بالتدريج، وهذا خير دليل على جاذبية أفكاره. لكن منذ ذلك الحين حتى وفاته في العام 1976، بات هايدغر يمضي وقتًا أكثر فأكثر في كوخ امتلكه في الغابة، بعيدًا عن الحضارة الحديثة. سعى هايدغر في مساره الوظيفي إلى مساعدتنا للعيش بحكمة أكبر. لقد أرادنا أن نتشجع في مواجهة بعض الحقائق، وأن نحيا حياةً أعمق وأسعد وأغنى. إذ لم تكن الفلسفة ممارسة أكاديمية برأيه، بل حرفة روحية وشكلًا من أشكال العلاج كما عدَّها الإغريقيون. شخَّص هايدغر الإنسانية المعاصرة بأنها تعاني من عدة أمراض روحية جديدة هي:
1- فاتنا الالتفات إلى أننا على قيد الحياة
نحن نعلم به نظريًا بالطبع، لكننا لسنا على اتصال دائم بسر الوجود الخالص في روتين حياتنا اليومية بنحوٍ مناسب، بالسر الذي سمّاه هايدغر das Sein أو الكينونة. في الحقيقة فإن معظم فلسفته مكرسة لمحاولة تنبيهنا إلى غرابة الوجود على كوكب يدور في كون يبدو صامتًا وغريبًا وغير مأهول. نحن لا نشعر بالغرابة المدهشة لكل شيء إلا في بعض اللحظات الشاذة، ربما متأخرًا في الليل، أو عندما نكون مرضى ووحيدين طول اليوم، أو في أثناء التمشي في الريف. عندها نشعر فنتساءل عن سبب وجود الأشياء بالطريقة التي هي عليها، ولماذا نحن هنا عوضًا عن هناك، ولماذا العالم بهذا الشكل، ولمَ تلك الشجرة أو هذا المنزل بهذه الهيئة. يتحدث هايدغر عن سر الكينونة بتوكيد ليصوِّر تلك اللحظات النادرة عندما تتذبذب حالة الأشياء الطبيعية قليلًا. وواقع الأمر أن كامل فلسفته دؤوبة على جعلنا نقدر هذا المفهوم المجرد والمهم، ونتفاعل معه بنحوٍ مناسب.
يرى هايدغر العالم الحديث ماكنة جهنمية مصممة لصرف انتباهنا عن طبيعة الكينونة الأساسية المدهشة. إنه يسحبنا نحو المهام العملية ويثقلنا بالمعلومات ويقتل الصمت ويرفض تركنا بمفردنا باستمرار.. ولعل بعض السبب يكمن في أن لإدراك سر الكينونة أبعاده المرعبة. إذ قد يتملكنا الخوف angst ونحن ندرك شرطية ولا معنى وخلو كل شيء بدا لنا أساسيًا وضروريًا وشديد الأهمية سابقًا من أي غاية حقيقية. فقد نسأل لماذا نعمل هذا العمل بدلًا من ذاك، أو لم نحن في علاقة مع هذه الشخصية عوضًا عن تلك، ولم نحن أحياء في حين يمكننا الموت بسهولة… جزء كبير من الحياة اليومية مصمم ليبقي هذه الأسئلة الغريبة والمخيفة والمهمة بعيدة. ما نهرب منه فعلًا هو المواجهة مع -وحتى غير الألمان يستطيعون الإحساس بعمق هذا المصطلح «الهايدغريّ»- ألـ das Nichts أو العدم، الذي يقبع على الجانب الآخر من الكينونة. العدم «موجود» في كل مكان، إنه يطاردنا وسيبتلعنا جميعًا في النهاية، لكن هايدغر يصر على أن الإبحار في الحياة ليس جيدًا ما لم يحمل المرء العدم والطبيعة الوجيزة للوجود معه على ظهر السفينة. على سبيل المثال كما قد نفعل حين يفسِحُ نورُ مساء لطيف المجال للظلام في نهاية يوم صيفي دافئ على تلال جبال الألب البافارية.
2- فاتنا ترابط جميع الكينونات
نحن ننظر إلى العالم عبر موشور اهتماماتنا الضيقة. وحاجاتنا المهنية تلوِّن ما نوليه اهتمامًا. فنعُامل الآخرين والطبيعة على أنهم وسائل لا غايات. لكننا قد نستطيع أحيانًا تجاوز أفقنا الضيق إلى منظور أرحب لترابطنا مع باقي الوجود (ومجددًا فإن التمشي في الريف يساعد على هذا الإدراك). يمكننا الشعور حينها بما سماه هايدغر وحدة الكينونة، فنلاحظ -بطريقة لم تسبق لنا ملاحظتها- أننا وتلك الدعسوقة على اللحاء، وذلك الحجر وتلك الغيمة جميعًا في الوجود في هذه الأثناء، ونحن موحدون جوهريًا بحقيقة الكينونة الأساسية. يثمِّن هايدغر هذه اللحظات، ويريدنا أن نستخدمها منصَّة قفز إلى نوع أعمق من السخاء، وقهر لما نشعر به من غرور وعدم انتماء، وتقدير أكبر لوجيز الزمن المتبقي لنا قبل أن يلتهمنا العدم.
3- يفوتنا أن نكون أحرارًا ونعيش لأجلنا
من البديهي أن جزءًا كبيرًا من حياتنا غير حر كثيرًا. فنحن -بصياغة هايدغر المميزة- قد «رمينا إلى العالم» في بداية حياتنا؛ رمينا إلى وسط اجتماعي معين وضيق، محاطون بسلوكيات صارمة وتعصبات بالية وضروريات حياتية ليست من صنعنا. يريد الفيلسوف مساعدتنا في التغلب على هذا الرمي Geworfenheit عبر فهم سماته المتعددة. يجدر بنا السعي إلى فهم ضحالتنا النفسية والاجتماعية والمهنية ثم التنزه عنها إلى منظور أشمل. وبفعل ذلك فإننا سنرتحل الرحلة الهايدغرية الكلاسيكية من ألـ Uneigentlichkeitإلى الـEigentlichkeit، أي من الزيف إلى الأصالة. عندها سنبدأ بالحياة لأجلنا جوهريًا. لكن هايدغر يعتقد أن أغلبنا يفشل في هذه المهمة فشلًا ذريعًا. فنحن نستسلم بكل سهولة لنمط اجتماعي سطحي من ألـ«نفسهم» (هايدغر يستخدم هذا الوصف عكسًا لـ«نفسنا»). إننا نتبع الثرثرة Gerede التي نشاهدها في التلفاز ونقرأها في الجرائد ونسمعها في المدن الكبيرة التي كره هايدغر أن يمضي الوقت فيها. ما سيساعدنا في سحب نفسنا من الـنفسهم، هو تركيز شديد بحق على موتنا المحتوم. من المرجح أننا لن نتوقف عن العيش لأجلهم إلا عندما ندرك قصور أيديهم عن إنقاذنا من العدم، حينها سنكف عن هذا القلق برأي الآخرين، ونتوقف عن تكريس حصة الأسد من حياتنا وطاقتنا في سبيل نيل إعجاب أناس لم يعجبوا بنا من الأساس. مع أن الخوف من العدم غير مريح فهو ينقذنا، لأن الوعي بتوجهنا إلى الموت هو طريق الحياة! نذكر في هذا الباب جواب هايدغر المقتضب عن سؤال طرح عليه في محاضرة ألقاها في العام 1961، إذ كان قد سُئِلَ عن كيف يستطيع المرء استعادة أصالته، فأجاب بأننا يجب أن نهدف إلى قضاء وقت أكثر في المقابر.
4- نحن نعامل الآخرين كأدوات
مع إن فعلنا يكون عن غير قصد فإننا غالبًا ما نعامل الآخرين على أنهم أدوات (أو das Zeug كما أسماه هايدغر)، كما لو أنهم معدات لا كائنات. يكمن عقار هذه الأنانية في الاحتكاك بالفن. فهو الذي سيساعدنا في تقليل زهونا بنفسنا وتثمين استقلالية سائر البشر والموجودات.
لوحة لفنسنت فان كوخ: زوجان من الأحذية 1887
فصَّل هايدغر هذه الفكرة في أُثناء نقاشه للوحة زوجان من الأحذية لفان كوخ. فمع أننا لا نهتم للأحذية كثيرًا في العادة، فما هي إلا قطعة أخرى من اللوازم واجبة الاقتناء، فإننا نجبر -عندما تعرض علينا في قماش لوحة- على ملاحظتها لذاتها، كما لو نراها لأول مرة. ويمكن أن يحدث ذات الشيء عندما نواجه بأجزاء أخرى من العالم الطبيعي أو الصناعي حين يعرضها فنانون كبار. سوف نشعر بنوع جديد من الاهتمام Sorge بكينونات غير أنفسنا بفضل الفن.
الخلاصة
يجافي الحقيقة من يقول إن معاني هايدغر وقيمه واضحة كليًا على الدوام. لكن ما يخبرنا به لمفيد على نحو مفاجئ، وحكيم ومذهل على نحو متقطع. ونحن نعلم الكثير مما يقوله بشكل ما، بغض النظر عن الكلمات واللغة الاستثنائية التي يستخدمها. نحن فقط نحتاج إلى تذكير وتشجيع لنأخذ ما نعلم على محمل الجد، وهنا يأتي دور أسلوب النثر الغريب الذي يساعدنا في ذلك. نحن نعلم في صميم قلوبنا أن الوقت قد حان لقهر ألـ Geworfenheit ووجوب أن نصبح أكثر إدراكًا بالـdas Nichts؛ إننا ندين لأنفسنا بالهرب من قبضة ألـ das Gerede لأجل ألـEigentlichkeit، وذلك بمساعدة هيِّنة من المقبرة.