ليو تولستوي (1826-1910)
Great Thinkers
ترجمة: مؤمن الوزان
آمن ليو تولستوي بأنَّ الرواية ليست مصدرًا للتسلية بل أداةٌ للتعليم النفسي والإصلاح، وأنها الوسيلة الأعلى التي يسعنا بفضلها أن نسبرَ غورَ الآخرين، لا سيما مَن افتقروا إلى جاذبية المظهر الخارجي، لذا فالرواية توسِّع مداركنا الإنسانية وتزيد تسامحنا.
وُلدَ تولستوي في سنة 1828 في ياسنايا بوليانا، وهي عزبة العائلة الكبيرة وتبعد مئة ميلٍ جنوبي موسكو. كان مقدَّرًا أن تكون بيته إلى آخر عمره، وإن تخلل ذلك ابتعاده عنها أحيانا. تُوفي والداه في صباه، وتولَّى أقاربه رعايته. تخبَّطَ تولستوي في دراسته الجامعية، ووصفه أحد المحاضرين بأنَّه ’غير قادرٍ ولا راغبٍ بالتعلُّم‘. وقضى شطرًا من شبابه في المقامرة ومعاقرة الخمر وملاحقة الغجريات، وشاركَ بعدها في حرب القرم برتبة ضابط مدفعيّة. تزوَّج تولستوي في أوائل ثلاثينياته الفتيَّةَ صوفيا بسنِّ الثامنة عشرة، وهي امرأة ذات تعليمٍ مرموقٍ، وثقافة عالية. أنجبَ الزوجان ثلاثة عشرَ طفلًا عاشَ تسعة منهم بعد النفاس.
كان زواجهما عصيبًا، وعكَّرت صفوه المشاجرات حول الجِماع والمرارةِ من كلا الطرفين. أرخى تولستوي لحيةً طويلة، وصارَ مهووسا بصحته الجسدية، وسلخَ معظمَ يومه في مكتبه. وما فعله داخل مكتبه كان كتابة بضعة كتبٍ حققت نجاحا باهرًا، من بينها الحرب والسلم، وأنَّا كارينينا، وموت إيفان إيليتش. لم يؤمن تولستوي بفكرة الفن من أجل الفن [أي أن غاية الفنِّ في ذاته]، واعتنقَ معتقدًا يقول بأنَّ على الفنِّ الجيدِ أن يجعلنا أقلَ تزمُّتًا أخلاقيّا وتعسفًا في إطلاق الأحكام على الآخرين، وأن يُعينَ الفنُّ الدينَ على تطوير مقدرتنا في المحافظة على الكياسة والأخلاق. وغالبًا ما رفضَ النقَّادُ الحداثيون الجانب الأخلاقيّ التزمُّتيّ المتحمس في تولستوي، لأنهم لم يرغبوا بتدنيس الفنِّ بمَهمةٍ، وفي حقيقة الأمر فإنَّ هذا الجانب هو أهمُ سمة في تولستوي، وما كان لأي من جهوده أنْ تقدَّرَ على النحوِ اللائق بدون اعتبار هذا السمة فيه.
كانت رواية الحرب والسلم أولى روايات تولستوي العظيمة، نُشرت في سنة 1869 وهو بسنِّ الحادية والأربعين. نُقابل في الرواية ناتاشا روستوف، امرأة في مقتبل العمر بنفسٍ منشرحة للحياة ومبتهجة. تُخطبُ في أول أمرها لأندري، رجلٌ صادقُ وعطوف يُحبُّها حبًا جمًا لكن شابه البُعدُ الشعوريّ والتجنُّب. حين كان أندري مسافرًا لإيطاليا التقت ناتاشا برجلٍ فاسقٍ سوداويّ وسيم يُدعى أناتولي، وهويت في جاذبيته. وأوشكَ أن ينحجَ في استدراجها واقناعها بالهروب معه بيد أنَّ عائلتها تمكَّنت من إيقافها في آخر لحظة. فُتنَ الجميعُ بناتاشا أشدَّ فتنةٍ، وساقها هذا الضربُ من الفتنة لتخريب شمائلها وإنزال الخزي بعائلتها. فشلتْ ناتاشا بمعايير الحياة فشلًا ذريعًا، وربما لو شاهدنا مقطعًا أخباريًا عن امرئ مثلها فلا ريب أنَّنا سنراها غير جديرةٍ بتعاطفنا الذي نمحضه عامة الناس. لقد ارتكبتَ الكثيرَ غير مفكَّرة بسوى نفسها، ونالت في الختام ما تستحقُّه. مع ذلك فإنَّ ما يراه تولستوي أننا لو تمكنَّا من فَهم ما يدور بداخلِ ذهن ناتاشا فلن يسعنا أن نحرمها من شفقتنا. فهي ليست منغمسة في ذاتها وملذاتها، أو رعناء أو فاسقة، بل شابة غريرةٌ جنسيًّا شعرت بأنَّ حبيبها تخلَّى عنها بعد أن غرقت بحبه. كما أنها عفويّةٌ جدًا، وذات نفسٍ متَّقدة، ومن السهل أن تضطربَ نفسُها بالفرحِ والسعادة. وهي قلقةٌ بإفراطٍ في سعيها ألا تَخذلَ الآخرين، الأمرُ الذي أوقعها في المكروه بالتلاعب والمكرِ بأناتولي. يبقى تولستوي في صفِّ ناتاشا، وبفعلته هذه فإنه يجعلنا نتمرَّسُ على شعور يعتقدُ أنَّه أساسٌ لحياة أخلاقيّة، ومفاده لو أننا أبصرنا بيقين ما يعتلجُ في نفوس الآخرين، وهو ما لا يسعهم أن يُظهروه لنا في الحال المعتاد أو بوجهٍ واحد، فإننا سنُعاملهم باللطف واللين الحقيق بهم وما يحتاجون إليه. ولا يجب أن يكون أمرؤ خارجَ حيَّز شفقتنا ورحمتنا.
يرى تولستوي أنَّ للرواية مَهمةً مُحددة وهي أن تُعيننا على فهم الشخصيات ’غير المحبوبة‘. ظهرت في أدب تولستوي واحدةً من أكثر الشخصيات البغيضة مبدأيًا، وتتمثل في زوج أنّا كارينينا، بطلة روايته العظيمة التي تحمل اسم البطلة، البهي والصارم كارينين. تسرد لنا الرواية المأساوية قصةَ المتزوجة أنَّا، المرأة الحسناء الذكيّة ذات القلبِ العطوف، التي تهوي في غرام فرونسكي، ضابطٌ فتيٌّ من الخيَّالة صبوحُ الوجه. أما زوج أنَّا، الكونت ألكسي ألكسندروفيتش كارينين، فهو صعبُ المراس، ورابط الجأش، ومنضبط، وموظفٌ حكوميّ مرموق، وغالبا ما كان صُلْبَ القلبٍ وعاجزًا عن الاستجابة لمتطلبات زوجته العاطفية. انشغلَ فكرُ كارينين، حين أبصرَ تقادم العلاقة بين أنّا وفرونسكي، بما سيتأتى منها من نميمة اجتماعيّة تقوِّضُ منزلته الرفيعة، وبدا أنَّه لا يكترثُ بتاتا لكل ما يمتُّ للزواج بصلة، وما أبِهَ لما حدث بل تعاملَ بجفاء وفظاظة. لكن حين ولدت أنَّا طفلَ عشيقها، سقطت في المرض، وفي مشهدٍ عاطفيّ مُحزن، تأثَّر كارينين من سويداء قلبه وبكى الرضيعَ وأمَه وغفرَ لأنَّا التي أجابته:
“’لا يسعكَ أن تغفر لي!‘. وانتابته على حين غرَّة حالٌ روحانيّة مباركة منحته دفعة واحدة سعادةً جديدةً لم يَخْبرَها من قبل قطُّ، وملأ فؤادَه شعورُ حبٍّ عاصف ومغفرةٌ لأعدائه. ركعَ قُبالة زوجته وأحنى رأسه على باطن ذراع أنَّا ونحبَ مثل طفلٍ”.
أحبَّ كارينين الجديد المتجافي طفلَ أنَّا:
“وانتابه نحو المولود الرضيع عاطفة لاهبة حقًا، ليس شفقةً حسبُ بل وعطفًا أيضًا. أولى اهتمامًا بهذا المخلوق الصغير الوديع بدافعٍ من رحمة بادئ الأمر، وكان يعوده في حِضانته عدَّة مراتٍ يوميًا. ويصدفُ أحيانا أن يفترشَ الأرض قاعدًا بصمتٍ نصفَ ساعةٍ يُحدِّق إلى الوجه المغمض العينين الصغير في نومه، ويرقبُ حركاتِ الحاجبين المقطِّبين، واليدين السمينتين الصغيرتين، والأنامل المقبوضة التي تحكُّ عينيه وأنفه”.
وتمكَّنَّا بفضل الحصيف تولستوي أن نرى جوانبَ غير متوقَّعة تماما في هذا الرجل، ونفسُه الجوانيّة ليست ما نتوقعه إطلاقًا حين نحكم عليه من خارجه. لكن مقصد تولستوي أنَّ كارينين ليس بشخصية استثنائيّة حقًا في هذا الجانب، إنما هو مزيجٌ عاديّ من الخير والشر. ومن المعتاد كثيرًا أنَّ للناسِ ذوي المظهر البغيض مخزونًا مهولًا من الرقة الدفينة، وشمائلَ أرق مما يُبدون ومختلفة عما يُبرزه مظهرهم المتمنع.
يقودنا هذا الحديث إلى رحلة مقابلة مع شخصيّة ذات صلة وثيقة بروايات تولستوي، وهو بطل رواية موت إيفان إيليتش المنشورة في سنة 1886. نلتقي في أول الرواية بإيفان، قاضي بلاطٍ رفيع الشأن في قمة المجتمع، ويظهرُ ذا أثرةٍ ومختالا ومتشائما. يسقطُ إيفان في أحد الأيام من السلَّم حين كان يساعد في تعليق الستائر، وتملَّكه شعورٌ عنيف بألمٍ داخلي بدا أمارةَ مرضٍ شُخِّصَ إثرها بأنَّه داءٌ مُهلك. لم يكن لإيفان بعدها سوى أشهرٍ معدودةٍ في الحياة، وسلخَ إيفان شوطًا طويلا من وقته في الجلوس فوق الأريكة حين كانت صحته تتدهور. أدركت عائلته مضارَّ موته وما أشدَّ عواقبه على وضعها الماليّ والاجتماعيّ، وبدأت تسأم منه ومرضِه. كان إيفان قصيرًا ومتعكِّرَ المزاج، لكنَّه مرَّ في داخله بتجليَّات كثيرة. تبصَّر في حياته الخالية، وكفَّر عن خوائها فصارَ حسَّاسًا وعطوفا، وتعامل بلطفٍ مع خادمه، وهو رجلٌ متواضعٌ من أصلٍ فلاحيّ. وزادَ حنقه من السبيل الخرقاء التي يطرقها الناس في عدم التنبُّه إلى الحقيقة الوحيدة المرَّة في الحياة، وهي أننا جميعًا سنموت. أدركَ إيفان أنَّ من اللازم أنْ تشخصَ قُبالتنا أخلاقنا دائما وأن تُلهمنا اللطف المستمر والتعاطف. وصوَّره تولستوي لنا ساعةَ احتضاره بأنَّه أشفقَ في آخر المطاف على كلِّ من حوله وغفر لهم.
قصَّ علينا تولستوي، كعادته في الكتابة، بالتفصيل المجريات النفسيّة والفلسفية التي تضطرم في رأسِ البطل. كان كلُّ من حوله، من أطبائه وعائلته، يراه رجلًا متجهمًا يسلخُ وقته مُديرًا وجهه إلى الجدار يقول لهم دائما ’اغربوا عن وجهي واتركوني وحدي‘، لكنه يعوي في حينها بكآبةٍ، ومع ذلك يسعنا أنْ نرى إنسانًا حالمًا، ونبيًا، ورجلًا بشجاعة أخلاقية لافتةٍ وكرمٍ. أراد تولستوي منا، حين كتب عن إيفان، أنَّ نبصرَ حياته مثالًا محتملًا عن حياة كلِّ امرئ لو أننا استطعنا التيقُّظ فقط قبل فوات الأوان.
***
ألفى تولستوي نفسه بسن السبعين منجرفًا بالتفكير في معنى أن تكون كاتبًا، وسطَّر في ذلك مقالة طويلة عنوانها ما الفن؟ فكتبَ واحدًا من أنفعِ كتبه. رأى تولستوي في هذا الكتاب أنَّ للفنٍ مَهمة كبرى، وأخبرنا أنَّه بالفن العظيم “تُزاح المشاعر المنحطَّة -وهي أقلُ ما نحتاج إليه ونريده لخير البشرية- وتُستبدل بالمشاعر الطيبة التي تنفعنا خيرَ نفعٍ على المستويين الفردي والجماعي. وهذا هو هدف الفن”. عرفَ تولستوي، الكاتب المتمرس والفاتن، أنَّ الروايات يجب أن تكون ممتعة وإلا فإننا لن نبذل جهدًا في عناء قرائتها، لكن اقتنعَ أيضًا بأنها لا بد أن تطمحَ إلى أن تكون شيئًا مختلفًا، وسيلةً تدعمُنا في دربنا المتعثِّر نحو النضوج واللطف. ويسع الرواية أن تفعلها لأنها قادرة على بلوغ أشياءَ نحن بعازتها لكن نادرًا ما نصل إليها، وهي الحيوات الآخرين الداخليّة. كتب تولستوي في كتاب ما الفن؟ عن أعمال الأدباء الآخرين على وجه الخصوص، لكنه ضمَّنَ الحديثَ عن كتبه بنحو غير مباشرٍ ومتواضع. لا يجب على الكاتب الحقيقي أن يُساعدَ القارئ على تزجية الوقت حسب، وينبغي للكتابة أن تكون وسيلةَ علاجٍ، ومحاولة لتعليمنا الصحة العاطفية والحسِّ الأخلاقي الصالح.
ازدادت المشكلات بين ليو وزوجته صوفيا بتقدمها بالعمر، واشتكى بأنَّ لكليهما “أفكارًا متعارضة تماما عن معنى الوجود”، ومع ذلك أصرَّ على أنَّه ما زال يحبُ صوفيا وإنْ “صارتْ انفعاليةً أكثرَ فأكثرَ، ومستبدةً، ولا تمتثل له”، واعترفَ بأنه يَئِسَ من محاولته الإفصاح عن مشاعره. كتب تولستوي “ما من مأساة أكبر من مأساة فراش الزوجية”.
بلغَ السيلُ الزبى مع تولستوي بعد أن تجاوز الثمانين من العمر فهجرَ زوجته وعائلته. غادرَ في جُنحٍ ظلامٍ ليلة تشرينيّة قارسة البرودة، وأصيبَ بالتهاب رئوي فقضى نحبه في محطة قطار قريبة حين كان ينتظر قدوم القطار في سنة 1910. كانت جنازة تولستوي حدثًا عموميًا كبيرًا، حضره آلاف الناس من داخل روسيا وخارجها. وهو أمرٌ جديرٌ بالوقوع إذ كان لهدف الكتابي المركزي نتائجُ اجتماعية مهولة. أيقنَ تولستوي أنَّ الصورة التي يظنُّها الآخرون عنا هي القوةَّ المحركة العظيمة للعلاقات، والاقتصاد، والسياسة. واعتنقَ فكرةً الأخَّاذة بأنَّ الفن يمكن أن يكون عربةً تُوصلنا إلى تصوراتٍ أدق، وألطف غالبا، عما يجول في عقول، وحيوات، الآخرين.
أُعيدَ جثمانُ تولستوي إلى منزله وقُبرَ في حديقته، تحت الأشجار حيث أحبَّ أن يلعبَ في صباه.