كيف نقرأ الأدب
تيري إيغلتون
مؤمن الوزان
يناقش هذا الكتاب النقدي في صنوف الأدب الرئيسة الثلاثة (الشعر والمسرحية والرواية) لمؤلفه الناقد والكاتب الإنجليزي تيري إيغلتون ويطرح قضايا تخص القراءة الأدبية واكتشاف القيمة الأدبية في أي عمل، فيقسّم بحثه النقدي في هذا الكتاب تقسيما يشمل العناصر الفنية التي يمكن الانطلاق منها للوصول إلى قضيتين مهمتين هي كيف نقرأ ونتعامل مع العمل الذي بين يدينا وكيف نكتشف قيمته. فتقييم العمل الأدبي يقوم على الافتتاحيات والشخصية والسرد والتفسير وهذه العناصر الأربعة توصلنا إلى جواب السؤال الثاني الدائر حول قيمة العمل الفني وهو الفصل الخامس والأخير من الكتاب. الكتاب يتناول في فصوله الخمس مقاطع نثرية (مسرحية وروائية) وشعرية، والقيام بتشريحها ونقدها وتفسيرها وكشف مواضع القوة والمزايا التي ترفعها إلى مقام الأدب والتميّز. وفي مقدمته للكتاب يرد على أقوال أولئك الذي يزعمون أن النقد هو عملية تخلو من المتعة بقوله: ويحدوني الأمل في أن أبيّن أثناء الدرس أن في وسع التحليل النقدي أن يكون متعة فيساعد بذلك على هدم الخرافة القائلة إن التحليل عدو المتعة. ووفقا لهذا الأمل الذي حدا مؤلف الكتاب فإن أسلوب التحليل والعرض يوحي بأننا في حضرة عارف لما يقول ويكتب بأسلوب رهيف رشيق بعيدا عن التعقيدات المصطلحاتية أو الشرحيّة التي غالبا ما تكون سمة كتب النقد، فأسلوب الكاتب يضفي سمة أدبية على الكتاب وكأنه يسمو بالعمل النقدي الأكاديمي إلى مقام الأدب والإبداع، وهذا ما تبيّنه المقاطع والفقرات النثرية والشعرية التي يقتبسها من أجل بناء نظريته التحليلية التي تقوم على العناصر التي اختارها في إرشاد القارئ أو الدارس إلى الآلية الصحيحة التي يتبعها في قراءة العمل الأدبي.
الافتتاحيات من أكثر العناصر الفنية أهمية في أي عمل أدبي إذ تمثل المفتاح إلى مجاهيل ومغاليق العمل الأدبي وهي التي ترسل إشارات المتعة والإثارة والجو الذي ستكتسيه الرواية وأحداثها. وتكون الشخصيات هي الرابط بين أي عمل وقارئه، وتختلف الوسائل التي تُصدَّر عبرها هذه الشخصية أو طريقة التعامل معها، ونظرا لأي أساس يكون التعامل معها، هل هي شخصيات واقعية نفرض عليها قوانين الحياة الطبيعية، أم هل هي شخصيات يجب أن تعامل في عالم خيالي جامح على حدود المنطق والمقبول والممكن وقوعه. تعرضت الشخصيات الروائية لتغييرات مختلفة سواء على مستوى البناء أو التصوير والتقديم للقارئ كما في الرواية الحديثة ورواية ما بعد الحداثة، فالشخصية هي مركز الحبكة والحبكة مركز الرواية، وكلاهما مرتبطان بالسرد، ومن هنا تغدو الشخصية متشعبة العلاقة والتفرعات متماهية مع عناصر الرواية الفنية الأخرى، وجزء لا ينفصل عن صيرورة العمل الأدبي وتطوره حتى تخوم النهاية. والسرد هو الآلية التي تعرض بها الشخصية والحبكة، فأهميته هو أنه السمة التي نعرف من خلالها الأدب، فكيف نعرف الأدب إن لم نقرأ وكيف نقرأ إن لم يكن هناك شيء مكتوب، فالسرد هو آلية العرض القصصي أو الصوري أو أي وسيلة أخرى تنقل لنا حدثا أو قصة ما، ويطرح إيغلتون سؤالا مهما ما الذي يجعلنا أن نصدق بما يسرده لنا السارد في العمل الذي بين أيدينا أو لا يترك لنا فرصة سانحة بأن نشكك بوقوع الحدث مع عدمه، يجيب بأن كلمة رواية كافية لأن “تستبعد كل هذه الأسئلة بوصفها لا أساس لها من الصحة ويفترض بنا أن ننحي لسلطة الراوي… لكن الانحناء لسلطة الراوي لا ينطوي على مخاطرة كبيرة ما دمنا غير موقعين على عقد طويل الأمد معه”. ليبدأ بعدها بتفصيل ممتع وشائق في العرض والتحليل لما تنتجه هذه الاتفاقية المؤقتة بين القارئ والمؤلَف الذي بين يدينا، وتصبح العلاقة وثيقة بين القارئ والشخصيات، والتي أرى أن العلاقة التي تنشأ بين الشخصيات وأحداث الرواية من جهة والقارئ من جهة أخرى هي المحرك لآلية النجاح التي يمكن أن يصل لها أي عمل، وهذه الوشائج والأواصر التي تربط بين القارئ والعمل الأدبي تكمن فيها كل الخطورة وتضحى القضية صراعا بين صياد وفريسة، وتعطي العمل أبعاده الأدبية والفنية، وهي أيضا سلاحٌ ذو حدين بيد المؤلف فإما أن تكون هذه العلاقة بين القارئ والرواية متقنة فيسلم القارئ بكل أسلحته للرواية ويضحى هو الآخر شخصية بيد الكاتب وإما أن يفقد الكاتب سيطرته ويبقى مصير عمله بيد القارئ الذي قد يودي بالعمل إلى مهاوٍ لم يتوقعها الكاتب، وهذا ما يُشمل به الناقد، الذي يعمل على تحليل العمل الأدبي والوقوف عند عناصره الفنية والأدبية التي يضعها على طاولة البحث من أجل كشف المكامن التي يحويها ويوحيها العمل. ويبقى اختلاف زمن الكتابة وزمن القراءة من العوامل المؤثرة في العمل ومغازيه التي تصل إلى القارئ فيذكر إيغلتون جواب روبرت براوننغ عما تعنيه إحدى قصائده المبهمة، قيل إنه رد مجيبا: “عندما كتبت هذه القصيدة، كان الله ثم روبرت براوننغ يعرفان ما يعنيه، أما الآن فالله وحده يعرف معناها”.
ويثير إيغلتون سؤالا مهما، هل ينبغي للمؤلف أن يكون أمينا؟ يجيب: “إن الأمانة -كما هو معروف- ليست مفهوما ذا دلالة واسعة في المناقشات النقدية. كما إنها ليست ذات دلالة في الحياة الواقعية”. ويضيف: “إننا نستطيع أن نتحدث عن مقاطع من اللغة بوصفها فارغة أو عميقة، رنانة أو بالغة الإثارة، مصطنعة أو مثيرة للاشمئزاز. لكن هذا لا يشبه الحديث عن مؤلف في مثل هذه المصطلحات، إذ يمكن للمؤلف أن يجهد نفسه ليصبح أمينا، غير أن المطاف ينتهي به وقد أنتج قطعة فنية تبدو زائفة. إن المرء لا يمكنه أن يكون أمينا على نحو متوهج في مفردات عبثية أو جوفاء تماما”. مفهوم الأمانة في الرواية أو أي عمل أدبي مفهوم فضفاض يحمل معانٍ عدة، ولا يمكن أن نطبق مفهوم الأمانة بالإطلاق على العمل الأدبي الفني، إن نقل الواقع والحدث كما هو بكل أمانة مكانه المحكمة وشهادات الشهود، أما الرواية فهي عمل لا تحده قوانين الأمانة والنقل الأمين، وإلا سيفقد الأدب قيمته ولا تكون هناك أي أسباب لكتابة الأدب، ويتحول الأمر إلى كتابات بحثية اجتماعية أو مؤلفات تاريخية. لكن لا يمكننا أن نتجاهل مفهوم الأمانة الروائية حين يوظفها الراوي بما يسمى الإكراهات في العمل فهو يجد نفسه عند كتابة رواية تاريخية أو استخدام الرواية وسيلةً لتوضيح أو تخليد حقبة تاريخية أو قضية علمية أو فلسفية، مطالبا بالصدق والأمانة وإلا فقد عمله قيمته وفشل في التعبير عن أهدافه. يقول إيكو على لسان إحدى شخصياته في رواية اسم الوردة: “الكتب لم توضع كي نؤمن بما تقوله ولكن لكي نتحرى فيها”. ويقول د.هـ. لورانس: “لا تثق بالراوي وثق بالرواية”.
إذًا فالعمل الأدبي كالنهر يعتمد على ضفتين إحداهما المرسِلة-الكاتب – والأخرى المستقبِلة- القارئ- وباختلال التوازن يفقد النهر مجراه ويضيع العمل في متاهات غيبية من سوء الفهم والتضليل. تبقى القيمة للعمل الأدبي ويقول إيغلتون: “ما الشيء الذي يجعل من العمل الأدبي عملا جيدا أو رديئا أو وسطا ليس بالجيد ولا بالرديء؟ ثمة أجوبة عديدة عن هذا السؤال شهدتها القرون المنصرفة. عمق البصيرة، والواقعية، والوحدة الشكلية، ونيل الإعجاب الشامل، والتعقيد الأخلاقي، والابتكار اللفظي، والرؤية التخيلية: كل هذه العناصر جرى ذكرها بين وقت وآخر على أنها علامات على العظمة الأدبية، من دون ذكر معيار أو معيارين أكثر للربية؛ مثل التعبير عن روح الأمة التي لا تقهر، أو زيادة معدل إنتاج الفولاذ بتصوير مصانع الفولاذ أبطالا ملحميين”. يشرع بعدها في تفنيد ونقد ما ذكر من أسباب حول قيمة العمل الأدبي والاستحسان الذي يناله أي عمل أو الرفض والاستهجان، وتبقى المعايير ناجمة عن آراء شخصية وحتى الأعمال التي نالت رضى الغالبية فإنها تبقى منتقدة من قبل آخرين. وإن عملية الاتفاق على أسس ومعايير واحدة لهو ضرب من الخيال والمستحيل فالطبيعة البشرية واختلاف الأذواق والأفكار والثقافات التي يأتي منها كل قارئ أو ناقد، تجعل لدينا أعمالا مقبولة ومرفوضة في الوقت نفسه، ولكن الشمس لا يحجبها غربال، فإن بعض الأعمال الأدبية كالحرب والسلم وعوليس تبقى محتفظة بقيمتها ومقامها الذي نالته رغم مرور الأزمان، وحتى المتعة لا تكون معيار لقيمة العمل يقول إيغلتون “ربما تستحسن عملا أثناء قرائته دون أن تجد المتعة، وأن تستمتع بقراءة عمل دون أن تستحسنه”. ويختم بحثه بأمثلة من الأدب يوضح معايير قيمتها والتي تنوعت ما بين لغوية وأسلوبية والإبداعية.