قصة سريرين: الترحال والعودة في الأوديسة

ماتيوز ستروزينسكي


حجم الخط-+=

ترجمة: فاطمة مصطفى

تتجلى الذروة في ملحمة الأوديسة في لحظة اللقاء العظيم بين أوديسيوس وزوجته الحبيبة بينيلوبي، بعد أن أجهز على خطّابها بمعونة ابنه تيليماكوس، غير أن زوجته، التي طال انتظارها إياه عشرين عامًا، لم تذعن بسهولة لكونه زوجها. أرادت بينيلوبي أن تمتحن هذا الغريب، فادّعت أنها باتت واثقة من هويته، ثم أمرت المربية العجوز، يوريكليا، أن تحرك سرير الزوجية من موضعه وتنقله إلى موضع آخر. يجيبها أوديسيوس بمرارة ويقصُّ عليها كيف بنى تلك الحجرة حول شجرة زيتون حية، وجعل من جذعها إحدى قوائم السرير (الأوديسة، 23: 183–207). ولما حملته هذه الإشارة من معرفة حميمية أدركت بينيلوبي أن هذا الغريب إنما هو زوجها الحبيب.

من أول الأمور التي أفصح عنها أوديسيوس في حديثه هو قلقه من أن يكون أحدهم قد “نقل سريره إلى موضع آخر” (ἄλλοσε θῆκε). تلوح في هذا القول إشارة خفية إلى الثيمة الكبرى في الأوديسة: الغياب، والترحال، ثم العودة إلى الديار. إن افتراض أوديسيوس أن البيت يبقى على حاله هو أساس جهوده كلها. لكن ذهوله وألمه من احتمال أن يكون موضع السرير قد تغير ينفتح على معنى أعمق. إذ أصبح هذا السرير رمزًا لزواجه وبيته ووطنه، فهل بقي كل شيء على حاله؟ الجواب، حتمًا لا. لكن إلى أي مدى عبث الزمن القاسي بأساسات حياة أوديسيوس؟ إن مجرد التفكير أن السرير قد أُزيح من مكانه يزلزل المعنى الكامن في كل السنوات التي قضاها أوديسيوس مرتحلًا. إن الرمزية العميقة لاستقرار السرير وما توحي به قد تمثل مركز العالم الإنساني، تتعزز حين يقول أوديسيوس إن إزاحة سريره عن موضعه عمل لا يقدر عليه إلا إله (23.185–186). فثبات سرير الزوجية مرتكز على القانون الإلهي (ناموس): جزء من النظام الكوني الذي تنتظم فيه الحياة البشرية، نظام لا يحق لبشرٍ أن يخرقه. قد يستطيع الإله ذلك، وربما يفعل، لكنه حتى لو خرقه فلن يفعل ذلك “بسهولة” (μὴ ῥῃδίως). يلمّح أوديسيوس في نفسه إلى قراءة السرير، وثباته الذي لا يتزعزع، بوصفه رمزًا للزواج، والعائلة، والوطن، وكل ما يشكل ركائز الأمان والنظام في الوجود الإنساني، وذلك حين يصف السرير بأنه “علامة عظيمة” (μέγα σῆμα).

يفهمُ مفسرو هذه القطعة أن كلمة σῆμα (سيما sēma) آية تمكّن من التمييز، لكن جاءت غالبًا في الإلياذة بمعنى فأل سماوي، (انظر، على سبيل المثال، الإلياذة 2.353, 8.171, 13.244). يكرر الشاعر استخدام هذا المصطلح في نهاية المقطع ذاته، ففي البيت 203، يُوصَف السرير بأنه “علامة راسخة” أو “دلالة مغروسة” (σῆμα ἔμπεδον)، لأنه ليس مجرد إشارة سماوية، بل هو كذلك شيء متجذر في الأرض، يجمع بين العالَمين: عالم الآلهة وعالم البشر. لذا، فإن السرير، وما يمثّله من رموز، متجذر في السماء كما في الأرض. 

يتوسع أوديسيوس في إبراز هذه الثيمة المرتبطة بالجذور، حين يروي قصة بناء حجرتهم الزوجية. يذكر أن شجرة الزيتون كانت تنمو في ذلك الموضع، فالحجرة صُمِّمت بيدٍ بشرية، لكن الشجرة كانت حية، نامية، جزءًا من نظام الطبيعة، ومحاطة “داخل الفناء” بسياج. هكذا يتشكل لدينا فضاء مغلق، محمي، مفصول عن الخارج، وفي قلبه تنمو الشجرة. إن هذا يستدعي إلى الذهن صورة لمكان مقدس، له حرمته وهيبته. الشجرة الجميلة الحية هي مركز هذه المساحة، مثلما يكون سرير الزوجية هو مركز حياة الإنسان. إضافة إلى ذلك، الشجرة هي “النضج والازدهار”، ويوحي نوعها المؤنث بالأم الجميلة والخصبة. لكن يبدو أن الشجرة نفسها ترمز أيضًا إلى أساسٍ ذكوري، لأنها “سميكة وضخمة كالعمود”. لذا تحمل الشجرة معنى مزدوجًا، يوحي نوعها وتاجها المورق بطابع أنثوي، في حين يوحي جذعها السميك بطابع ذكوري. في الوقت نفسه يحمل لُبّ الجذع دلالة رمزية تُسمى “محور العالم” في الدراسات الدينية، وهو عمود مقدس يربط السماء بالأرض، ويقف في مركز العالم.

ستدور المعاني التالية حول فكرة الروابط المتينة والوثيقة بين عناصر مختلفة، فمثلًا جدران الغرفة مبنية من أحجار، ووصفت الأبواب كذلك بطريقة مشابهة. تؤكد هذه الاختيارات اللغوية الطبيعة الراسخة للزواج، وهو “تلاؤم مناسب”، اتحاد متكامل بين الرجل والمرأة، لكنه من ناحية أخرى يُذكرنا بالدلالات الجنسية للجماع. يثير بناء الجدران وإضافة السقف إلى الغرفة المرتقبة فكرةَ الحميمية والخصوصية والانفصال عن العالم الخارجي، كأن الغرفة شيء شديد الخصوصية والانغلاق، وهذا أيضًا تلميح إلى المعاني الرمزية للباطن الغامض لجسد الأنثى، حيث تبدأ الحياة البشرية. تظهر هذه المعاني الجنسية أيضًا في وصف عمل أوديسيوس على الشجرة، فالأوراق التي يقطعها تُشبَّه بالشَّعْر، كأن شجرة الزيتون عذراء شابة تفقد عذريتها مع زوجها. ويثير تقليم الجذع وصقله صورًا ترتبط بالعلاقة الزوجية، إلى جانب صورة ثقب الخشب واختراقه. إن أوديسيوس يصنع حجرتَه الزوجية، أي إنه يبني حياته مع بينيلوبي، منزله وأسرته، على أساس متين من الشجرة الحية، التي تجمع بين طابع أنثوي في خصوبتها الوارفة، وطابع ذكوري في وقفتها المنتصبة. في النهاية، يزيّن السرير بالذهب والفضة والعاج والأرجوان، وهي رموز قد تشير إلى البهاء الإلهي والملكي للزواج. يتسم عمل أوديسيوس كله بالاجتهاد والدقة، بما يعكس انخراطه الكامل في العملية. وبعد كل ذلك، يقول لبينيلوبي: “أُريكِ هذه العلامة”، هذا الرمز الإلهي. لكن ما يلي ذلك يُعد من أروع التباينات الشعورية.

يستسلم أوديسيوس للحزن والحنين بعد هذا الفيض الإيروتيكي والديني من الدلالات الرمزية المتواري في مشهد بناء الحجرة، ويبدأ قوله بأن لا أحد من البشر يستطيع أن يحرّك السرير، ووحده الإله يمكنه فعل ذلك، وربما بجهدٍ عظيم. كأنما يقصد بذلك إلى أن سر الزواج، ومعه البنية الكاملة للحياة البشرية التي تقوم عليه، إنما هي أسرارٌ مصونةٌ بحماية الآلهة وناموسهم. الشجرة التي صُنع منها السرير ضاربة بجذورها في الأرض، فيما تتفتح أوراقها نحو السماء. لكن أوديسيوس يناقض قوله، ويعترف بشكوكه قائلًا: “لا أدري، يا امرأة، أما يزال سريري في مكانه، أم أن رجلًا ما قد نقله، بعد أن قطعه من أسفله.” يُصاب أوديسيوس بالحزن، إذ يدرك أن الإنسان، حين يتجرأ على انتهاك القوانين الإلهية بدافع الطيش، أو الجشع، أو الشهوة -كما يفعل في كثير من الأحيان- إنما يهدد بانهيار نظام الوجود بأكمله، أو في الأقل يُخِلّ بتوازنه. يوحي الشاعر بأن الزواج، والبيت، والعائلة، رغم تجذرهم في النظام الإلهي للحياة، فهي أمور تنمو ببطء كالأشجار، وتتطلب عملاً دؤوبًا يشبه النجارة. فالإفساد والهدم أسرع بكثير من البناء والنماء.

هذا المشهد، ومعه صورة السرير، يأتيان في تضاد صارخ مع مشهد آخر عظيم في الأوديسة، يتمحور أيضًا حول رمزية السرير. ففي الكتاب الثامن، يستمع أوديسيوس، في قصر جزيرة سكيريا، إلى نشيدٍ ينشده الشاعر ديمودوكوس (8.266–81). يأتي النشيد في منتصف الملحمة، في قلب ترحاله، حين لا يزال أوديسيوس بعيدًا عن وطنه. لذا، يمكن للمرء أن يتوقع أن يحمل هذا المشهد ما يعاكس الاستقرار والنظام اللذين يظهران في الكتاب الثالث والعشرين. وهكذا كان، إذ إن النشيد يحكي عن خيانة زوجية، عن “تدنيس السرير” و”تلويث المضجع” (λέχος δ᾽ ᾔσχυνε καὶ εὐνήν)، وهو ما يبدو، في ضوء المشهد السابق، كأنه الخطيئة القصوى بحق الحياة الإنسان. يروي النشيد قصة الآلهة أفروديت، زوجة هيفايستوس الأعرج القبيح، التي خانته مع آريس الوسيم والرجولي. وتتجلى هنا أيضًا استعارات الاختباء والخصوصية، كما في مشهد الكتاب الثالث والعشرين، لكن هنا لها معنى معاكس. فحين تعبّر الخصوصية في الكتاب الأخير عن الألفة الغامضة التي تحمي الزواج من العالم الخارجي، فإنها في الكتاب الثامن تُسهم في تدمير الزواج. أراد آريس وأفروديت الاختباء، لكن هيليوس، إله النور، منعهما. وتنعكس صورة مماثلة للخصوصية المظلمة في تخطيط هيفايستوس للانتقام “في أعماق قلبه”، وهو قابع في أعماق معمله المظلمة.

تقف شجرة الزيتون الحية، النامية، في الكتاب الثالث والعشرين، في تضاد واضح مع فن وحرفة هيفايستوس الجامدة. تحول خيانة آريس وأفروديت الزواج إلى شيء زائف، ومن ثم فإن العقوبة أيضًا ستكون ذات سمتٍ زائف، محاكيةً لتلك الخيانة. عينا بعين. فهيفايستوس يصنع قيودًا لزوجته وعشيقها في معمله، قيودًا لا تُفك ولا تُكسر. وهذه بدورها صورة معكوسة لرمزية الزواج المتين المتلاحم التي نجدها في الكتاب الثالث والعشرين. سيلتحم آريس وأفروديت في رباط كاذب، خادع، لا يمتُّ إلى قداسة الزواج بصلة. كأني بالشاعر يقول إن الزواج الحق ينبغي أن يكون راسخًا كثقل السندان، ومتينًا كقيود هيفايستوس، لكن آريس وأفروديت أفسدا هذا المعنى. سيبقيان “ثابتين” (ἔμπεδον)، ولكن الثبات هنا لا يدل على الطمأنينة، كما في مشهد السرير الشرعي، بل يرمز إلى العقاب، إلى الجزاء على انتهاك حرمة سرير الزوجية. يمدُّ هيفايستوس القيود التي صنعها حول السرير وفوقه، تمامًا كما بنى أوديسيوس زواجه حول المركز الثابت، لكن الإله الحِرفي يبين من خلال حيلته أن هذا المركز يمكن أن يتحطم بالخيانة، وأن ذلك يوجب العقاب. يقابل الشاعر قيود هيفايستوس السحرية بشبكة العنكبوت، يُحبس فيها آريس وأفروديت عاجزين عن الحركة، في صورة ساخرة من ثبات الزواج الحقيقي. ومن موضوعات هذا النشيد أيضًا التباين بين الجمال الظاهري الزائف والفساد الداخلي المستتر. فهيفايستوس، القبيح الأعرج، في مقابل آريس الجميل القوي، وأفروديت الفاتنة. لكن ذلك الجمال، كما يلمّح هوميروس، ليس سوى خداع مموّه. فعين أفروديت، في نظره، ليست سوى “عين كلبة شهوانية”. حتى صنعة هيفايستوس يمكن قراءتها على هذا النحو: إن متانة الزواج لا تُصاغ من معادن لا تنكسر، بل تنبت من الأرض، كما تنمو شجرة الزيتون. 

يمكن النظر إلى هذين المشهدين -من الكتابين الثامن والثالث والعشرين- بوصفهما تجليين عميقين لمعنى الترحال والعودة في رحلة أوديسيوس. فالبحث عن الثبات، والأمان، والأسرة، والوطن، المتمثل في رمز سرير الزوجية، يقابله عالم النفي بما فيه من تبدل وفوضى وغياب اليقين. حين سمع أوديسيوس نشيد ديمودوكوس، كان لا يزال تائهًا بعيدًا عن وطنه، في حين كانت زوجته ترزح تحت حصار الخطّاب الذين يدفعونها إلى الخيانة. وما يلفت النظر أن الآلهة -لا البشر- هم من خانوا ودمروا، فيما ظل الإنسان أمينًا. تقف بينيلوبي في تناقض صارخ مع أفروديت؛ ففي الوقت الذي تُغري فيه الحورية كاليبسو أوديسيوس بالخلود والزواج، يردُّ عليها بأنه يعلم أن بينيلوبي ليست بجمالها، لكنها زوجته، وهو لا يرغب إلا في العودة إليها.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى