قرب شجرة الكستناء
قصة قصيرة
لم أشعر يوماً بأي فضول تجاه حكاية خالي، الحكاية التي ظلت طي الكتمان وحافظ على سريتها بيت جدي كمن يحافظ على عقد من اللؤلؤ الثمين، لكن بعد ذلك الحلم الغريب استيقظ فضولي من سباته وبدأت أسأل وأبحث هنا وهناك عن أي معلومة تخصه، عن ماضيه وعن كل تلك الأحداث التي قادته الى مصيره ذاك.
دائما ما كنا نزور قبره في أيام الأعياد ونوزع حلوى “من السما” على الفقراء من أجل أن تبقى ذكراه حية، ذكرى شاب لم يكن بالإمكان إنقاذه، هل كان بالإمكان استيعاب كل ذاك الظلام الذي تكاثف كغيوم شتائية ثقيلة حول رأسه؟
دُفن قرب شجرة الكستناء التي غطى الثلج المتساقط منذ الفجر فروعها، في قبرٍ صغير لا يتناسب وضخامة جسده، قامت خالاتي حول القبر كساحراتٍ من العصور الوسطى حتى إن شعورهن كن مصبوغة بلون دم الغزال، بملامح باردة وباهتة، مما حصدَ الكثير من مخاوف أهل المحلة تجاههن.
وقفت من بعيد امرأة ذات سمنة مقبولة ترتدي ثوباً أسود وتغطي شعرها بحجاب أبيض مزركش، تحملق وتخاف أن تقترب، تخشى أن يستيقظ من قبره ويحطم ما تبقى من حياتها وكأن نصيبها من الدنيا أن تصبح أرملة للمرة الثانية.
استشعرن التفوق المعنوي عليه مع أنه تفوق مشوب بحزنٍ يحطم جدران القلب، قضى جدي كل عمره وهو يجعل من خالي أيقونةً نادرة، تمثالاً لإله يوناني يجب السجود له وأن خالاتي مهما حققن، مهما صبرن، مهما كافحن، فلسن إلا ظلا لعملاقٍ اسمه جورج، لرجلٍ مُدلل لم يصنع ما خُلق من أجله. كان أكثر كسلاً من أن يتحمل أثقاله رجلا وسندا للعائلة.
في الأيام التي سبقت وفاته كان يسكر كثيراً لا تفارق زجاجة الخمر يده اليمنى، يهيم على وجهه في الطرقات حتى يركض أطفال المحلة وراءه ويلقون عليه الحجارة، كان نصف مستيقظ معظم الوقت، تفوح منه رائحة بول تزكم الأنوف وتُنفر الناس منه. عثروا على جثته مشوهة قرب كنيسة الأرمن، وآثار دماء على ثيابه، بطريقةٍ ما لم يستغرب أحد مصيره ذاك عليها.
كان الثلج يتساقط لذا غادرن مُسرعات في طرقات محلة وادي ابن مريم الضيقة والمتعرجة، وتراقبهنّ عيون النساء من نوافذ البيوت برعدة وتنسجن حولهن الأساطير.
في عودته الأخيرة تلك عاد ليموت، طلب منهن أن يعثرن لهُ على زوجة. أرهقته ليالي الوحدة والترحال، وإنه ينوي أن يثبت أقدامه في العالم بذرية تحمل اسم العائلة أخبرهن بحماسة وبعينين لامعتين عن مواصفات الزوجة العتيدة، قدمن لهُ شاي الميرمية والحلوى المحشوة بالفستق، وقعدن تحت قدميه يستمعن ويتأملن خيراً، نهضَ كمن نسيَ كلامه للتو واكتفى بالقول وهو يؤشر بيديه ’أريدها امرأة غنية فقط فأنا مفلس تماماً‘. أدركن أنه يحتاج الى عروسٍ بقلب كبير أيضاً كي تتحمل شقياً مراوغاً مثله. اخترن لهُ أرملة المعلم هارون، امرأة تقية وذات قسمات هادئة تملك مزرعة للتبغ يعمل فيها مزارعون قادمون من ضواحي مدن قامشلو ودياربكر، كانت غنية بمقاييس ذلك الوقت
عاملته مثل أم أكثر من كونها زوجة، دللتهُ وعشقته أكثر من زوجها السابق، شعرت بأنه فرصتها الوحيدة في هذه الدنيا، وسيرحمها من كلام الناس وكل أولئك التجار الطامعين في أموالها وجسدها. كانت امرأة بعقلٍ تجاري لكن بقلبٍ أحمق. أضاع أموالها ومزرعتها في القمار، خسرت كل شيء دفعةً واحدة، ولم ينفع الحب في تقويم سلوكه بل شاركته في الوصول إلى هذه الوجهة، بين يوم وليلة وجدت نفسها أكثر نساء المحلة فقراً، لقد بدد بروحٍ طفولية طائشة كل ما امتلكت. اعتقدت أنها قد تستطيع إدارته مثلما أدارت أعمالها ولكنها فشلت. ثمرة واحدة قادرة على إفساد سلة كاملة من الفاكهة. دائما ما تصرف على هذا النحو، محطماً حياة الجميع دون أن يلتفت أو يشعر بأي ذنب. ذات يوم وقبل مغيب الشمس جاءت إلى خالاتي، وقعت أمامهن ملتاعة، وهي تندب نصيبها وحظها العاثر، بل راحت تقص شعرها الأسود الطويل في حضرتهن ولعنت خالي. لعنته بأقبح اللعنات، وحملتهن ذنب كل من سيلتهمها بكلامه القاسي، كضبعٍ يلتهم جثة فريسته، هربت من المحلة واختفت أخبارها تماماً.
’لم نشهد مثل هذا الزمهرير قط…‘. همست إحدى خالاتي، وهي تمسح بسبابتها كلتا عينيها ثم توقفت غير عابئة بالثلج لتسأل بصوتٍ مبحوح ’هل كان بالإمكان إنقاذه؟‘. ضحكن ضحكة خافتة باستهزاءٍ مرير، وتذكرن إحدى المرات حين عاد ليشارك في مراسيم دفن والدتهن. كانت تشتاق إليه في أيامها الأخيرة، وتتذكره حتى بعد أن أصيبت بالخرف، تستيقظ في الهزيع الرابع من الليل لتردد مقاطعاً من سفر المزامير على ضوء المصباح، وتصرخ حتى تحطم عزلة غرفتها الشبيهة بصومعة النساك ’أنقذوا جورج. أنقذوه حتى لا تصطاده الوحوش‘. كثيراً ما خاطبت أيقونة مريم العذراء المرتدية ثوباً أزرق، وتحتضن طفلاً صغيرا، بكلماتٍ آرامية مبهمة، كانت غير واعية بما يدور حولها على الإطلاق، ولا تفرق بين ساعات الليل والنهار إنما تخبرهن أنها ستغادر هذه الدنيا وسيلحق بها جورج فلن تتحمل العيش بدونه، وحين يسألنها إن كانت أحبتهن مثلما أحبته فتجيب بحنان ’إنه وحيدي وثمرة انتظاراتي الطويلة‘.
في اليوم الثالث لموتها جاء من أوروبا متاخراً كالعادة، بكى بمرارة وهو يلطم وينتف شعر لحيته الرمادي، مجيئه في ذلك التوقيت أعاد إلى اذهان جميع أهل المحلة مقتل عبد الرب المأساوي. في أيام صباه أحب خالي شابة لعُوبا مغناجا وذات شأن، كانت رئيسة جوقة الترنيم في الكنيسة أعواما، حافظت على منصبها هذا مع أن المنافسة الشديدة، إذ كانت الجوقة ممتلئة بالأصوات العذبة بل وأكثر عذوبة من صوتها لكنها امتلكت تاثيراً، لا يمكن مقاومته، في الكاهن والناس. خافَ منها الكل ربما بسبب والدها الغني، الذي كانت الأقاويل تدور حول سرقته للآثار وبيعها، شارك في ترميم سور المقبرة وإصلاح جدار الكنيسة المتهالك، لذا لم يجرؤ أحد على إزعاج ابنته، أو ربما بسبب جمال ملامحها وبشرتها الحليبية المتناسقة مع شعرها الأشقر الطويل الذي ينساب على كتفيها كأنها امرأة من عالمٍ آخر. أحبها خالي حباً جماً، تعلق بها وأراد امتلاكها، كان ينتظر أمام منزلها ساعات ليحظى بنظرة عشوائية منها لا أكثر. يلاحقها في الأسواق والحفلات، وينتظر بصبر يوم الأحد ليسمع صوتها وهي تترنم. أصيب بلوثة في عقله، ولياليَ طويلة لم تفارقه الحمى مردداً اسمها والعرق البارد يتساقط من وجهه. كان ذات مرة بين شبان المحلة التفتت نحوه بازدراء، وبصقت في وجهه، واصفةً إياه بأنه أبله يلاحقها لا غير، وأنها قد تدوس رأسه إذا بقيَ يلاحقها هكذا. انكسر خالي مثل غصنٍ هش وتبعثرت كرامته مثل شجرة تساقطت أوراقها الصفراء في خريف عاصفٍ وموحش. اقتاده جدي إلى مستشفى للأعصاب في الموصل، تحسن قليلاً وبات مستعداً لمواجهة الحياة. ليتهُ مضى إلى بغداد أو البصرة كما نصحهُ جدي لكنه عاد كفراشة تمضي إلى النار بقرارٍ شخصي منها. مضت جدتي لتخطبها، قبلت قدميها بتذلل وبحنان الأمهات لتقبل بخالي عريساً. لم توافق. كانت يافعة ومتغطرسة لكن تسترشد بحكمة الأيام، لم تكن لتقبل بخالي مهما حدث، لم يستمر في أي عمل أكثر من يومين ويقضي أمسياته في شرب الخمر ولعب القمار، لم يكن الرجل الذي سيمنحها مصيراً مختلفاً عن مصير رفيقاتها، كان يغلق الطريق المؤدي إلى السوق الشعبي مثل رجل عصابة، ويضرب بالعصا على قفا النساء المرتديات ملابساً لا تعجبه، وفي نهاية المساء يعود مغطى بالدماء بعد أن أشبعه شباب المحلة ركلاً وبصقاً وصفعاً. فضّلت أن تتزوج عبد الرب التاجر السرياني، الشاب الذي وعدها أن يزين جسدها بالذهب، وأن يخصص لها خادمة ترافقها، بل وعدها أن يأتي بكوكب الزهرة تحت قدميها. كانت المحلة كلها تستعد لزفافها، النساء مشغولات بخياطة الأثواب، ويتنافسن على حجز موعد لدى كوافيرات المحلة اللاتي ينتظرن هكذا حفلات بفارغ الصبر ويضعن الخصومات السعرية لجذب أكبر عدد من النساء. كانت الحفلات فسحة الناس الوحيدة لقضاء وقت مريح بعيداً عن تعب الصيد والزراعة. ومن طقوس العرس أن يمضي شباب المحلة إلى بحيرة قريبة قبل يوم من موعد الزفاف للسباحة قبل مغيب الشمس إذ حسب معتقداتهم كانت البحيرة تجلب الحظ. لم يقع الزفاف إذ عثروا على جثة عبد الرب تحيطه الدماء بالقرب من خالي، ارتبك وأخبرهم أن رأسه ربما ارتطم بحجرٍ ما في أثناء إلقاء نفسه في البحيرة. كانت كل الأصابع تشير إلى خالي، ووجب على جدي أن ينقذه عوضاً عن أن يقضي بقية حياته في ظلمات السجون. باعت جدتي كردانها الذهبي الذي لم يفارق صدرها ليسافر إلى اسطنبول، ثم يجد طريقةٍ ما ليغادر الى أوروبا من هناك، فمشقات الغربة أرحم من مخالب الأقدار التي ستلتهمهُ إن بقيَ في المحلة فدماء عبد الرب ستلاحقه دوماً. كانت جدتي أكثر صلابة من ألف امرأة، تستيقظ قبل صياح الديك وتنام بعد أن ينام أهل المحلة كلهم، لكنها أصبحت بعد غياب خالي أقل قوة من طيهوجٍ أسود مريض. حاولت مع كل يوم أن تتماسك لكن في النهاية خارت قواها وذابت. حطمها فراقهُ وأدركت ببصيرة روحية أنها المرة الأخيرة التي تلمسهُ وتحتضنهُ، لكنها عاشت عدة سنوات بعده على خلاف جدي الذي تدهورت صحته حتى وجدوه قد فارق الحياة في فراشه. كان الذكر الوحيد بعد أربع بنات، في كل مرة أنجبت جدتي ابنة كان جدي يطرد القابلة، ويحاول بوحشية خنقهن، فتقنعه بالدموع والتوسلات أن يتراجع. لم يكن يحب خالاتي، كان يحاول إحراقهن حتى إنهن يحملن في أجسادهن ندبا عميقة بسبب ذلك، وحين عرف أنهن يخفن القطط كان يحبسهن في سرداب البيت مع أعداد كبيرة من القطط، لم يكن ليلتفت لصراخهن. كانت قسوة غير مبررة منه لان خلفة البنات عندهُ أشبه باللعنة، عقوبة اجتماعية يقاسيها. عشن حياتهن كلها في محاولة إثبات جدارتهن أمامه. صمدن دون حماية والد. دون خليل ودون أخ. دون أن يحملن في أحشائهن حياةً أخرى. لم تتزوج منهن سوى والدتي التي اشترطت على والدي أن تعيش في أبعد مكانٍ ممكن، وكان هذا المكان مدينة البصرة. هناك وضعت ضمن أولويتها أن تنسى وتنغمس تماماً في حياتها الجديدة، حتى إنها أبعدتني عن كل ما يحمل رائحة الماضي. لم يذهب خالي في عودته تلك ليزور قبر جدتي ويصلي، بل ارتشف الشاي الأسود وتناول الكثير من جبنة الماعز. أخبرهن بأنه بحاجة إلى بيع قطعة ارض العائلة ليسدد ديونه فقد تورط مع تجار مخدرات في بلغاريا.
قالت إحدى خالاتي بصوتٍ مبحوح ’ولكن قطعة الأرض صغيرة وثمنها لا شيء بالحسابات الاقتصادية. اتركها للزمن فهو غدار. ووصية والدينا ألا نبيع الأرض أبدا‘.
أجابها هامساً ’سيقتلونني. ومصيبتي ليست هؤلاء التجار القتلة حسب، بل تلك المرأة الخبيثة.‘ ثم صمت دقائق كما لو كان ممثلاً مسرحياً. حكى لهن كيف عاش دون زواج رسمي مع امرأة قوقازية سنة كاملة، وحين أراد تركها غضبت فحاول أن يفلت منها بأقل الخسائر، لكنه اكتشف أنها كانت تضع له حبوباً منومة في طعامه تجعله نصف مستيقظ طوال الوقت، وكان يصاب بحالات فقدان الذاكرة منعته من التركيز على أي وظيفة. لم تتركه إلا بعد أن استولت على شقته الصغيرة وتركته بلا مأوى.
أعطين له قطعة الأرض فباعها وقبض ثمنها مختفياً كغيمة صيفية. تركهن في حيرة وانتظار مع اتصال منه مرة كل بضعة شهور وبكلماتٍ مختصرة. كان يكرع زجاجات الخمر بنهم، ويغني بصوت رخيم حتى طلوع الفجر متجاهلاً حالة الحداد على جدتي طوال مكوثه حتى استكمال إجراءات بيع الأرض. لم يكتفِ بثمن الأرض فسرق ذهب خالاتي والأحجار الكريمة التي احتفظن بها من أجل الأيام السوداء، ثمرة جهدهن في الاشتغال بصيد الأسماك، وتجارة الأقمشة، سنواتٍ عديدة كن يواصلن الليل بالنهار فيها بمثابرة لا توصف.
قالت إحدى خالاتي وهي تمشي ببطء محدودبة الظهر لتقطع عليهن حبل افكارها وتتوقف مستندة إلى جدار أحد البيوت ’ستلاحقنا الذكريات إلى الأبد.. ها؟‘.
قالت أمي بعد أن تمكن البرد منا جميعاً ’ها قد وصلنا‘.
على بُعد مرمى حجر لاحَ لهن شبح خالي. فركن عيونهن وهن يرددن الصلوات، حتى أنا شاهدته، كان شبحاً شديد الشبه به، يلوح بيديه ويبتسم ناثراً عطراً لا يمكن تخطيه من قارورة عطر سحرية تخترق الروح. كان ضخم الجسد، عريض الذراعين، عيناه تشبهان خضرة المزارع المحيطة بنهر دجلة، بشرة حنطية وشعر أسود كثيف وأنف حاد. شبح رجلٍ دمر نفسه بنفسه. وقفنا كلنا نحاول منع انثيال دموعنا كان يرمقنا بنظراتٍ دافئة ثم اختفى. التفت بعضنا إلى بعض دون أي ضجيج، ودون أي أحاديث جانبية، كنت صغيرة أمسك يد أمي بقوة، وأكاد أسمع صوت نبضات قلبي الخائفة.
غمغمت أكبر خالاتي ’لم يعد موجوداً. جورج مات وشبع موتاً‘. وهرعت تُخرج مفتاح البيت من جيب ثوبها متجاهلة كل شيء. في البيت بدا الأمر كلهُ مشهداً من رواية. أعدت إحدى خالاتي عصير التمرهندي، وقدمت التين المجفف فتناولنا بصمت. لم تخرج أي كلمة من أفواهنا. في المساء تناولنا الرز والديك المشوي بالريحان وتحدثنا بكل مشاغل الدنيا إلا شبح خالي الذي أبصرناه في وقتٍ ما من ذلك اليوم. كنت وسطهن أراقب ملامحهن الساذجة وهن مشغولات في إعداد الطعام ونار المدفأة تنعكس على ملامحهن. فكرت في كل تلك الأقاويل التي أحاطتهن بالسوء، لم يكنّ ساحرات ولا شريرات ولا مخيفات، كن نساء مخذولات لم يجدن الحب عند أبويهن، لذا لم يعثرن عليه في أي موضع آخر.
لسببٍ ما غير معلوم وبعد كل تلك السنوات وفي اليوم الأول في وظيفتي زارني خالي في الحلم.
داليا روئيل: قاصة من العراق.