فروغ فرُّخ زاد
رائدة الشعر النسوي في إيران
غسان حمدان
ولدت فروغ في الخامس من كانون الثاني عام 1935 في طهران. كان والدها عقيداً في الجيش يعامل أولاده بخشونة… انتسبت إلى كلية الفنون الجميلة (النسوية)، بعد إتمام دراستها الثانوية. تزوجت مبكراً – في السادسة عشرة من عمرها عن حب، رغم معارضة أهلها – أحد أقارب والدتها والذي كان يكبرها بخمسة عشر عاماً ولكنها تطلقت مبكراً أيضاً وحُرمت من رؤية ابنها الوحيد إلى آخر أيام حياتها.
بدأت الشعر في الثالثة عشرة من عمرها، ونشرت أولى مجموعاتها الشعرية «الأسير» في عام 1952، عندما كانت في السابعة عشرة، وقد أعيد طبعها بعد ثلاث سنوات. وفي عام 1956، نشرت المجموعة الثانية «العصيان»، التي انتُقدت بسبب تخطّي «الخطوط الحمر» وتجاوزها التقاليد. وبرغم هذا أصدرت المجموعة الثالثة «الجدار» بعد عام، فأعلنت بهذا، إصرارها على الدرب الذي انتهجته.
في عام 1958 اتجهت إلى الفن السابع، واشتركت مع إبراهيم گلستان، الكاتب والفنان المعروف، في الإخراج السينمائي. سافرت إلى إنكلترا، عام 1959، لتكمل دراستها في السينما، وعند عودتها عملت في التصوير السينمائي… وفي عام 1962 أخرجت فيلماً وثائقياً بعنوان «البيتُ أسود» وهو عن حياة المجذومين، في مدينة تبريز. نال هذا الفيلم جائزتين من مهرجاني لايبزيغ الوثائقية وأوبرهاوزن والذي سمّى جائزته الكبيرة باسم الشاعرة الفنانة، عام 1963. وفي السنة نفسها اتجهت إلى المسرح، ومثلت في مسرحية «ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف» لپيراندللو. كتبت سيناريو وأخرجت فيلماً آخر بمشاركة ابراهيم گلستان، عام 1964، وكان عنوانه «اللِبن والمرآة».
أصدرت رابع مجموعاتها الشعرية «ولادة أخرى» شتاء 1964، وكانت هذه المجموعة اتجاهاً جديداً ليس في شعرها فحسب بل في الأدب الإيراني المعاصر، فاعتبرت – لفيضان عواطفها النسوية – أكثر شاعرات ايران أنثويةً. في عام 1965 أنتجت منظمة اليونسكو فيلماً عنها طوله نصف ساعة لأن شهرتها كشاعرة وفنانة كانت قد تخطّت حدود بلدها. وفي السنة ذاتها أخرج المخرج الايطالي «برناردو برتولوتشي» هو الآخر، فيلماً عن حياتها مدته خمس عشرة دقيقة… سافرت إلى عدة دول أوربية وأتقنت اللغتين الإيطالية والألمانية.
من أشهر قصائدها «لنؤمن ببداية فصل البرد»، التي نُشرت في إحدى الصحف قبيل وفاتها، التي وقعت في 13 شباط 1967، إثر حادث اصطدام، عند عودتها من موقع التصوير.
تحدثت في هذه القصيدة عن الموت في الشتاء، وذكرت فيها الساعة الرابعة مراراً، واللافت أنها توفيت بعد الرابعة بنصف ساعة!.
نُشرت آخر مجموعاتها الشعرية – «لنؤمن ببداية فصل البرد»، التي تضم سبع قصائد، والتي سبق أن نُشرت في الصحف – بعد وفاتها…
* * *
مع أن فروغ ولدت في عائلة مهتمة بالثقافة، والأدب خصوصاً، لكن هذا لم يكن السبب الأصلي لاتصالها بالمجتمع الثقافي والأدبي، بل روحها المتمرد الذي يغرد خارج السرب، وتجاربها الشخصية، وأهمها طلاقها، وضعتها في مسار اعتبر شذوذاً عن المجتمع:
«إن الذي خفيٌ فيّ، بحرٌ
إلى متى يمكنني أن أخفيه؟
معك، أنت، في هذا الطوفان المخيف
يا ليتني كنتُ أملك الشجاعة لأتكلم»
من مجموعة «الأسير»
وتقول بعدما انتُقدت بسبب مجموعتها الثانية:
«دع الزهّاد المنافقين
يفضحوني في كل زقاقٍ وجمعٍ
ويلوثون سمعتي
هؤلاء الذين هم أبناء الشيطان»
«الجدار»
تعتبر فروغ نفسها «امرأة وحيدة»، وعندما تطلقت أمست أكثر وحدةً، ولهذا نلمس اليأس، عدم التصديق، الحيرة، الخيبة، الخوف والحزن… في دواوينها الثلاثة الأولى:
«إني في هذا الفكر وأعرف بأني
لا أستطيع الخروج من هذا القفص
حتى إذا أرادَ سجّاني أن يطْلقني
فإنه ليس لي نَفَس لأطير»
«أسير»
لكن عندما ذهبت إلى دار عزل المجذومين لتصور فيلمها «البيتُ أسود»، والذي كانت تقصد به المجتمع الإيراني في ذلك الوقت، تأثرت كثيراً بحياة المرضى فيها – «كان الأمر مخيفاً، يعيش جمعٌ يملك كل الخصوصيات والعواطف البشرية ولكنه محروم من الشكل الإنساني… رأيت امرأة، في وجهها حفرة واحدة، ومن هذه الحفرة كانت تتكلم. كانوا يعملون من الصباح حتى المساء بالرفش، ولكنهم لم يكونوا يملكون بذرة واحدة ليزرعوها في حديقتهم» – فتبدلت نظرتها إلى الحياة وابتعدت عن معتقداتها السلبية السابقة واعترفت بأنها قالت وكتبت قصائد سيئة جداً: «إذ لم يكن الشعر قد حلّ فيّ، بعد». فأمسى شعرها ممتزجاً مع الحياة، حيث حاربت الموت في مجموعتيها الأخيرتين، بحب الحياة.
وأخيراً، قالت في مقابلة صحفية، قبل وفاتها بوقت قصير:
«إن كون المرء شاعراً يعني أن يكون إنساناً. أعرف بعضاً ليس لسلوكهم اليومي أية علاقة بقصائدهم، أعني أنهم لا يمسون شعراء إلاّ عندما يقولون شعراً، وبعدها ينتهي كل شيء. إنني لا أصدق كلامهم، لأنني أهتمُ بالحياة أكثر… إنني أعتقد أن أية قطعة شعرية ينبغي أن تكون كقدح النبيذ تكوي الإنسانَ، وكل سعيي هو أن تكون قصائدي في بساطتها تحمل هذه الصفة».
المصادر
1 – «چون سبوى تشنه» (كما كوز ظامئ)، تأليف دكتور جعفر ياحقّي.
2 – مجلة چيستا ع 186/187، س19 عام 2002.
3 – مجموعة «لنؤمن ببداية فصل البرد» – مقدمة رحمان خاتمي.
من شعرها:
عابرٌ
إلى متى يجبُ أن نرحل
من ديارٍ إلى ديارٍ أخرى
لم أعُدْ أستطيعُ، لم أعُدْ أستطيعُ البحثَ،
في أيِّ لحظةٍ، عن حبٍّ ومعشوقٍ آخرين.
يا ليتنا كنّا تَيْنك السنونوتين
نسافرُ كلَّ عمرنا
من ربيعٍ إلى ربيعٍ
آه، لقد مضى زمنٌ
حلَّ في جسمي
ربما لوحُ حطامٍ من غيمةٍ ثقيلةٍ ما.
عندما أمتزجُ بقبلتِكَ،
على شفتيَّ، يخيل إليّ
أن عِطْراً عابراً يفدي روحَهُ
إلى هذا الحدِّ ملوثٌ هو
حبي الحزينُ بخوفِ الزوالِ
بحيث أن كل حياتي ترتعشُ
وعندما أنظر اليك
كأنني أرى شجيرتي الوحيدةَ،
ملأى بالأوراقِ
في الحِمى الأصفرِ الخريفيِّ
وكأنني أرى تصويراً ما
على جريانات الماءِ المغشوشةِ.
ليلَ نهارَ
ليلَ نهارَ
ليلَ نهارَ
دعني
أنسى
من أنت، غير لحظةٍ، لحظةٍ تَفتحُ فيها
عيناي
بابَ مهاد المعرفةِ؟
دعني
أنسى.
وتشرق الشمس
انظر إلى الحزنِ الذي في عينيّ
كيف يذوبُ قطرةً قطرةً
وانظر إلى ظلِّي الأسودِ العنيدِ
كيف يصيرُ أسيراً بيدِ الشمسِ
انظر
فكل كياني يتهدمُ
تبتلعني شرارةٌ ما
ترفعني إلى القمةِ
وتجرني إلى المصيدةِ
انظر فكلُّ سمائي
تمتلئ بالنيازكِ
أنتَ جئتَ من الأماكنِ القصيّةِ القصيّةِ
من بلادِ الأريجِ والأنوارِ
وأجلستني، الآن، على زورقٍ
من العاجِ، من الغيومِ، البلورِ
إذاً خذني يا أملي حبيبَ روحي
خذني إلى مدينةِ الأشعارِ والأشواقِ
تأخذني إلى الدرب الملأى بالنجومِ
وتجلسني على مكان أعلى من النجومِ
انظر
فإنني احترقتُ من النجومِ
وامتلأتُ بحُمّى النجومِ
وصرتُ كالأسماكِ الحمراءِ الساذَجَةِ
قاطفةَ نجومِ مستنقعات الليلِ
كم كانت بعيدةً – قبلاً – أرضنا
عن زرقةِ غُرفِ السماءِ هذه
والآن يأتي إلى مسمعي مرّةً أخرى
صوتُكَ
صوتُ خفقِ الأجنحةِ البيضاءِ كالثلج
للملائكة
انظر إليّ إلى أين وصلتُ
إلى المجراتِ، إلى ما لا نهاية، إلى الخلودِ
والآن
إذ وصلنا إلى القمم
عمّدني بنبيذِ الأمواجِ
ولفّني في حريرِ قبلاتِكَ
ونادني في الليالي الممتدةِ
ولا تتركني أبداً
لا تفصلني عن هذه النجوم
انظر إلى شمعِ ليلِ طريقنا
كيف يذوبُ قطرةً قطرةً
وإلى طاس عينيّ الأسودِ
كيف يمتلئ، بتهويدتِكَ الدافئةِ،
بخمرِ النوم.
انظر إلى مهودِ شِعري
أنت تزفرُ، وتُشرِقُ الشمسُ
*
شِعر السفر
كل ليلة يساررني أحدهم:
«لكم قلقة لرؤيته!
صباحاً مع النجومِ البيضاءِ
سيذهبُ، يذهبُ، تشبثي به».
أنا في أثر عطرك، أيها الراحل عن الدنيا
غافلةٌ عن حيلة أيامِ الغدِ.
تقطر على أهدابي الرقيقةِ
عيناكَ كترابِ الذهبِ.
جسدي يلتهبُ في إحساسِ يديكَ
وجدائلي حرةٌ في تنفسِّكَ
كنتُ أتفتحٍ كالوردةِ من الحبِ وأقولُ:
«كلُّ امرئٍ إذا وقعَ في حبِّ حبيبته
لا يترصد لإيذائها
ليذهبْ، فعيناي في أثرِهِ
ليذهبْ، فحبّي سيحميه».
آه، الآن، إذ رحلتَ والغروبُ
يبسطُ ظلَّه على صدرِ الطريقِ
وإلهُ الحزنِ القاتمِ، على مهلهِ
يضعُ قدميْهِ على معبدِ نظري
ويكتبُ على كلِّ جدارٍ
آياتٍ كلُّها سوداءُ سوداءُ.
*
ستحملنا الرياح
في ليلتي الصغيرةِ، يا للحسرة
للرياحِ ميعادٌ مع أوراقِ الأشجارِ
في ليلتي الصغيرةِ ثمَّةَ خوف التهدمِ
أصِخْ
أتسمعُ هبوبَ العتمة؟
إني أنظرُ كالغريبة إلى هذه السعادةِ
فإنني مدمنةٌ على يأسي
أصِخْ
أتسمعُ هبوبَ العتمةِ؟
في الليلِ إذ يجري أمرٌ ما.
القمرُ أحمرُ ومشوَّشٌ
وعلى هذا السطحِ، الذي يخشى عليه كلَّ لحظةٍ
من خطرِ الانهيارِ
كأن الغيومَ تنتظرُ،
كجمعٍ نائحٍ، لحظةَ الإمطارِ
لحظةً
وبعدها، لا شيء.
وراءَ هذه النافذةِ، الليلُ يرتعشُ
والأرضُ
ستكفُ عن الدورانِ
وراءَ هذه النافذةِ، مجهولٌ ما
قلقٌ عليكَ وعليَّ
أيها الأخضرُ حتى أخمص قدميْكَ
ضع يديك كذكرى لاهبةٍ
في يديّ العاشقتين
وأطْلقْ عنانَ شفتيكَ،
كإحساسٍ لاهبٍ من الوجودِ
لتربيتِ شفتيَّ العاشقتين
ستحملُنا الرياحُ معها
ستحملُنا الرياحُ معها.
*
قصيدة غزل
«كل ليلة تستمع إلى قصة قلبي
وغداً ستنساني مثل قصةٍ»
هـ. ا. سايه
تسمعُ كالصخرِ صوتي
أنتِ حجرٌ ودونَ أن تسمعَ ستنسى.
ستشوِّشُ الزخَّةَ الربيعيةَ ونومَ النافذةِ الصغيرةِ
بضرباتِ الوسوسةِ،
يدي التي هي ساقُ التدلُّلِ الأخضرِ
ستنيمها مع الوريقاتِ الميْتَةِ
أنت أضلُّ من روحِ الخمرِ
وستضع العيونَ في النارِ وستدهشُها.
أيتها السمكةُ الذهبيةُ لمستنقعِ دمِي
هنيئا لك سكرك، إذ تشربينني.
أنتَ – يا الوادي البنفسجيّ للغروبِ الذي
تضغط النهار على صدرك وتطفئُهُ
في الظلال – لقد صمتَ لمعانُكَ وبهتَ
إذاً فلماذا تُلبسه السواد
في الظل؟
*
هدية
إني أتكلمُ عن نهاية الليلِ
عن نهايةِ العتمةِ
وعن نهايةِ الليلِ أتكلمُ.
إذا جئتَ إلى بيتي، اجلب لي،
أيها الحنونُ،
سِراجاً ونافذةً صغيرةً،
كي أنظر منها
إلى زحامِ الزقاقِ السعيدِ.
كان الطائر مجرد طائر
قال الطائر «يا للرائحةِ، يا للشمسِ، آه
لقد حلَّ الربيعُ
وسأذهبُ بحثاً عن قريني».
طارَ الطائرُ عن حافَّةِ الإيوانِ
طارَ كنبأ ما ورحلَ
كان الطائرُ صغيراً
لم يكن الطائرُ يفكرُ
ولم يكن الطائرُ يقرأ الجرائد
ولم يكن على الطائرِ ديْنٌ ما
ولم يكن الطائرُ يعرفُ البشرَ
كان الطائرُ يطيرُ
في الهواءِ،
وفوقَ مصابيحِ الخطرِ،
وفي ارتفاع الغفلةِ
ويجرّبُ، بجنونٍ،
اللحظاتِ الزرقاءِ
كان الطائرُ، أواه،
مجرّدَ طائرٍ.
*
الجمعة
الجمعةُ الصامتةُ
الجمعةُ المتروكةُ
الجمعةُ التي، كالأزقةِ القديمةِ، محزنةٌ،
جمعةُ الأفكارِ الكسلى المريضةِ
جمعةُ التثاؤباتِ المؤذيةِ الطويلةِ
جمعةٌ بلا انتظارٍ
جمعةُ الاستسلامِ
البيتُ الفارغُ
البيتُ المضجرُ
البيتُ المسدودةُ أبوابُهُ أمامَ هجمةِ الشبابِ
بيتُ العتمةِ وتصوّرِ الشمسِ
بيتُ الوحدةِ والتفاؤلِ والتردُّدِ
بيتُ الستائرِ، الكتبِ، الرفوفِ، والتصاويرِ.
آه، كم كانت تمرُّ هادئةً متبخترةً
حياتي
كجدول «غريب»
في قلبِ هذه الجمعاتِ الصامتةِ المتروكةِ
في قلبِ هذه البيوتِ الفارغةِ المضجرةِ
آه، كم كانت تمرُّ هادئة متبخترة…
*
وحدة القمر
طوال العتمة
كانت الجداجدُ تصرخُ
«أيها القمر، أيها القمر الكبير…»
طوالَ العتمةِ
كانت الأغصانُ بتلك الأيدي
الطويلةِ
اللواتي تصعدُ منها تنهيدةٌ شهوانيةٌ
إلى فوق
ونسيمُ الاستسلام
لأوامر آلهات مجهولةٍ وغامضةٍ
وآلافُ الأنفاسِ المتخفيةِ في حياةِ الترابِ
الخفيةِ
وفي تلك الدائرةِ المضيئةِ السيّارةِ، الحباحبُ،
نقرٌ على السقفِ الخشبيِّ
ليلى ملتفةٌ في الستائرِ
الضفادعُ في المستنقعِ
كلُّهم معاً، كلُّهم بصوتٍ متصلٍ
صرخوا بلا انقطاع حتى الفجرِ:
«أيها القمرُ، أيها القمرُ الكبيرُ…»
طوالَ العتمةِ
تأجَّجَ القمرُ في هالتِهِ
كان القمرُ
قلبَ لياليه الوحيدِ
يكادُ ينفجرُ في غصَّتِهِ الذهبية.
*
بين الظلام
بين الظلام
ناديتكَ
كان ثمة صمتٌ، ونسيمٌ
يرفعُ الستارةَ.
في السماءِ المملةِ
كانت ثمّةَ نجمةٌ تحترق
ونجمةٌ تذهبُ
ونجمةٌ تموتُ
ناديتك
ناديتك
كان كلُّ كياني
كقدحِ حليبٍ
بين يديّ و
نظراتُ القمرِ الزرقاءُ
ترتطمُ بالزجاجِ
*
أغنيةٌ حزينةٌ
كانت ترتفعُ كالدخانِ
من مدينةِ الجداجدِ
وتلتفُّ كالدخانِ
على النوافذِ
هناك، طوال الليلةِ
بين صدري
كان ثمَّة شخصٌ
يلهثُ من اليأس
وكان شخصٌ يقف
وشخص يطلبك
ويردُّ يديه الباردتين
مَرّةً أخرى.
هناك، طوال الليلة
من أغصان سوداءَ
كان يتقطر حزناً
وكان ثَمَّةَ شخصٌ يبقى في نفسِهِ
وشخصٌ يناديك
والهواءُ كالحطامِ
ينهارُ عليه.
وشجرتي الصغيرةُ
كانت عاشقةَ الريحِ
عاشقةَ الريحِ المشوَّشَةِ
إذاً، أين بيتُ الريحِ؟
أين بيتُ الريح؟
*
سامحوه
سامحوه
إذ بعض الأحيان
ينسى ارتباط كيانِهِ المؤلمِ
بالمياهِ الراكدةِ
والحفرِ الخاويةِ.
ويتصوَّرُ ببلاهة
بأنه يحقُّ له العيش.
سامحوه
سامحوا الغضبَ عديمَ الاهتمامِ لتصويرٍ،
الذي يُذَوِّبُ الأملَ البعيدَ التحركِ
في عينيه الورقيتين.
سامحوه..
هو الذي في كلِّ تابوتِهِ
لجريانِ القمرِ الأحمرِ معبرٌ.
وعطورِ الليلِ المتغيرةِ
تلخبط
رقادَ الألفَ عامٍ لجسدِهِ.
سامحوه
هو المنهار من الداخلِ
ولكن الذي حتى الآن، يحترق جلدُ عينيه،
من تصوُّرِ ذَرَّاتِ النورِ
وجدائِلُهُ العابثةُ
ترتعش بيأسٍ من نفوذِ أنفاسِ الحبِّ
أيها الساكنون في بلادِ السعادةِ البسيطةِ
يا ندماءَ النوافذِ المفتوحةِ في المطرِ
سامحوه
سامحوه
لأنه مسحور
لأنَّ جذورَ كيانِكم المثمرةِ
تنقبُ في أتربةِ غربتِهِ
وتُورِمُ في زاويةِ صدرِهِ
قلبَهُ السريعَ التصديق
بضرباتِ الحسرةِ المؤذيةِ.
*
سأسلم على الشمس مرة أخرى
سأسلمُ على الشمسِ مرةً أخرى
على الجدولِ الذي كانَ يجري فيّ
على الغيوم التي كانت أفكاري الطويلة
على النموِّ المؤلمِ لأشجارِ حَوْرِ البستانِ التي
كانت تجتازُ الفصولَ الجافةَ معي
على أسرابِ الغربانِ
التي تهديني عطرَ مزارعِ الليلِ
على أمي التي كانت تعيشُ في المرآةِ
وكانت شكلَ كهولتي.
على الأرضِ، التي كانت شهوةَ تكرُّري،
تملأ جوفَها الملتهبَ
بالبذورِ الخضراءِ – سأسلم مرة أخرى.
سأجيء، أجيء، أجيء.
بجدائلي: إدامة روائح ما تحت التراب
بعينيّ: تجاربَ الظلامِ الغليظةَ
بالجنَبَات التي قطفتُها من أجماتِ طرفِ الجدارِ الآخرَ
سأجيءُ، أجيءُ، أجيءُ.
وتمتلئ العتبةُ حباً،
وأنا في العتبةِ، للذين يحبُّون
وللبنتِ التي لا تزال
واقفةً في العتبةِ المليئةِ بالحبِ،
سأسلِّمُ مرةً أخرى.
*
وصال
ذانك البؤبؤانِ المعتمانِ، آه
أولئك المتصوفون البسطاءُ في معتكفي
ذهلوا في جَذَبِةِ سَمَاعِ عينيه.
رأيتُ أنه في كلِّ وجودي يتماوج
كلهيبِ النارِ الأحمرِ
كإنعاسِ الماءِ
كغيمةٍ من تشنج الأمطارِ
كالسماءِ من تنفسِ الفصولِ الدافئةِ
إلى ما لا نهاية
إلى ذلك الجانبِ من الحياة
كان ينبسط – هو.
رأيت أنَّ في هبوبِ يديه
تذوبُ
جسميةُ وجودي
رأيتُ قلبه
بذلك الطنينِ الساحرِ الحائرِ
ملتفاً في كل قلبي.
قفزتِ الساعةُ
ورحلتِ الستارةُ مع الريحِ
كنتُ ضغطتُ عليه
في هالةِ الحريقِ
أردتُ أقولُ
ولكن يا للدهشةِ
جرتْ من قعرِ الظلامِ
كثرةُ ظلالِ أهدابِهِ
كجذورِ ستارةٍ حريرٍ
في امتدادِ تلك الجزيرةِ الساعيةِ إلى الطول
وذلك التشنُّجِ، ذلك التشنجِ المميتِ
إلى انتهائي الضائعِ.
رأيتني أصيرُ حرّةً
رأيتني أصيرُ حرةً.
رأيتني يتفطَّرُ جلدي من انبساطِ الحبِّ
رأيتني يذوبُ حجمي الناريُّ
رويداً رويداً.
وصبَّ، صبَّ، صبَّ
في القمرِ، القمرِ الجالسِ في الحفرةِ،
القمرِ المعتمِ المنقلبِ
كنّا بكينا في أحدِنا الآخر
وفي أحدِنا الآخر عشنا بجنونٍ
كلُّ لحظاتِ وحْدَتِنا فاقدةُ الاعتبارِ.
*
زوج
يأتي الليل
ومن بعد الليل ظلام
ومن بعد الظلام عينان،
يدان،
وأنفاس
وأنفاس
وأنفاس
وصوت الماء
المنسكب – قطرة قطرة – من الصنبور.
بعد قطرتي دم
من سيجارتين مشتعلتين،
تكتكات ساعة،
وقلبان
وعزلتان.
الطائر ميت لا محالة
قلبي منقبض
قلبي منقبض
أذهبُ إلى الإيوان
وبأناملي أمسحُ شجرة الليل المديد
مصابيح العلاقة مطفأة
مصابيح العلاقة مطفأة
لا أحد سَيُعرِّفني على الشمس
لا أحد سيأخذني إلى ضيافة العصافير
ضع الطيران في خاطرك
فالطائر ميت لا محالة.