عودة سلامة
قصة قصيرة
(1)
رجع سلامة من السفر، لكنه لم يكن “سلامة” نفسه الذي ودعته. نحل عوده وانطفأت روحه واحتلت هالات السواد جدران فؤاده قبل أن تنتشر أسفل عينيه.
رحبتُ به وسألته بشوق عن أخبار الأهل والبلاد. جلس على حافة سريره وهو يخلع عن جسده جاكت قديم ضاعت ملامحه. وضع بين قدميه حقيبة صغيرة هي كل ما رجع بها. فتحها وأخرج منها كيس لب أسمر:
– هذا نصيبك. خُذه!
بعد يناير لبّى سلامة نداءات العودة، بهرته بساطة الأماني بالعدل والحرية، فقرر أن يعود. باع محل الورد الذي يملكه فى نيويورك وسافر لبناء البلد كما كان يقول. سيطر الحماس على صوته وهو يرميني بنظرات تتهمني بالخيانة وعدم الولاء للبلد الأم:
– وجب علينا العودة والمساهمة فى البناء.
– ماذا عن ورودك التي تعشقها؟
– هل رأيت منظر الورود البديع وهم ينظفون الميدان ويعيدون طلائه؟
– لماذا لا تقوم الحكومة بذلك؟
– أنت أناني لا تفكر إلا فى نفسك.
– بل أنا أعول كوم من اللحم، إن غامرت بنفسي فلا أستطيع المقامرة بمستقبلهم.
حَزَنَ عندما باع المحل لأنه يعشق الورود ويعرف أصنافها وتواريخها. يعامل الأزهار كدواء يشفي الأمراض، كالحلم الذي لا بد من وجوده كي تصبح الحياة ممكنة. يسأل المشتري عن المناسبة لشراء الزهور، يستفسر عن الأسباب والأعراض والأغراض، وأخيرًا يرشّح الورود المناسبة تمامًا مثل الطبيب الذي يشخص الحالة قبل أن يكتب الوصفة. كانت له ضحكة رنانة عندما يبيع ورود لفتاة جميلة:
– هذه الفتاة تنوي أن تصالح حبيبها بلا شك وإلا ما إشترت هذه الورود الحمراء! لكل حالة إنسانية لون، ولكل شعور وردة. حتى الموت له وروده. في بلادنا يبكون الموت وانتهاء الحياة، أما هنا فإنهم يحتفلون بالحياة السعيدة التي عاشها الفقيد.
– وإن كانت حياة الفقيد شقاء، فبمَ يحتفلون؟
رمقني بنظرة تنعتني بالقسوة وعدم إجادة أي شيء إلا الأرقام والحقائق الموجعة.
اختلفنا في حُب البلد وسافر سلامة محملًا بأثقال من الآمال الكافية لتحرير قارة وبناء جيل كامل من المخلصين:
– سوف يتولى الشباب الحقائب الوزارية. سوف نناقش ميزانية الدولة في برلمان قوي يراقب الحكومة ويحاسبها. سوف يكون لدينا قضاء حُر. الشرطة حقًا ستكون فى خدمة الشعب، أخيرًا سيكون لدينا رئيس مدنيّ منتخب!
(2)
طار سلامة إلى البلاد متعجلًا الوصول بعدما نذر نفسه وماله للتغيير والبناء في الوطن المثالي الجديد. استبدل أجنحة أحلامه الوردية بمقعده في الطائرة. ذهبت أودعه فى المطار وابتسامة الفخر لا تفارق وجهه. علّم حقائبه بشرائط بيضاء وحمراء وسوداء وعلّق في حقيبة يده علم صغير للبلاد ليكون مدخلا لحوار مع الغرباء الذين عدّوا ما حدث في الميدان هو معجزة من المعجزات. حينها امتلأت نيويورك بنجوم الثمانية عشر يوما. يتحدثون في الندوات ويلقون المحاضرات في الجامعات ويُصرحون للإعلام الأمريكي بما حدث وما سيكون. وسلامة لا يبخل بجهد أو مال في استضافة كل هؤلاء النجوم الذين كان ينظر إليهم بعيون عاشق ولهان!
كرّر طلبه ونحن نُنزل من العربة الحقائب والمشتريات الكثيرة التي أخذها معه:
– فكّر جيدًا في أمر العودة. لقد عشنا حياتنا القصيرة نحلم بهذا اليوم. وُلدنا عندما وُلد قانون الطوارئ. لم نرَ سوى القهر والظلم. البلد الآن فى حاجة إلى أمثالنا.
لم أعرف ماذا يقصد بـأمثالنا. هل قصد أصحاب المال والدولارات؟ أو أصحاب الشهادات؟ أو أولئك الذين هجروا الأرض والأهل بلا هدف سوى الهروب؟
لم أتواصل مع سلامة ولم يتصل بي هو الآخر. أتابع الأخبار وأفكر فيه وفي أحلامه، لا غير. بمرور كل يوم، أرى العديد أمثال سلامة ممن ماتوا أو اختفوا دون أن يعلم عنهم أحد شيئًا أو انتهى بهم المطاف خلف القضبان!
السُحب التي حَبُلتْ يومًا بالأمل، أنجبتْ وحلًا مشوها مثل وحش هائج يُخيف الناظرين. رغبة المشاركة في البناء تبدلت إلى محاولات جادة للنجاة. بعد سنوات قليلة، هاتفني بصوتٍ مهزوم يطلب مني أن أشتري له تذكرة حتى يعود! لم أعترض بُخلًا مني ولكني سألته عن ماله الكثير الذي حوله قبل سفره وأخذه معه:
– سرقوا كل شيء. المال كان أرخص المسروقات!
أرسلتُ له التذكرة، واليوم أذهب إلى المطار أستقبلهُ وهو عائدٌ بلا حماسة، متخليّاً عن ابتسامته بعد أن خذلتهُ أحلامه. أحضرتُ له ورودًا عديدة الألوان ترحيبًا بعودته. رغبتُ في أن يبدأ -مرة أخرى- من ذات النقطة التي تركها، لكنه لا يوجد شيء من هذا القبيل. لا يعود مسافر مثلما كان أبدًا، دائمًا يترك شيئًا منه هناك، فما بالك بأمثاله الذين خانتهم الأماني؟
أخذ الورود، وراح ينظر إليها وهو مُستغربها بين يديه مثل الذي لم يرَ في حياته وردة من قبل. لم ينطق وكأن الحروف وقفت في حلقه مثل شوك الورود التي يحملها الآن.
ونحن في طريقنا إلى السيارة، توقف أمام أول صفيحة قمامة، ووضع الورود فيها بكل لطف كأنه لا يريد أن يجرح ورقاتها أو أنه سوف يعود إليها مرة أخرى في وقت قريب!
***
رأفت رحيم: قاص مصريّ.
نيويورك – 26 يوليو 2016
من مجموعة قصصية – قيد العمل
روووووعه دمت مبدع