عالم صوفي – جوستاين غاردر
مؤمن الوزان
“الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة” غوته.
افتتح جوستاين روايته بمقولة غوته، لكن من ذاك الذي يستطيع أن يتعلم دروس آلاف السنين في سنين معدوات لا تعني شيئا من عمر الحياة على هذه الأرض، ولا أرى تعلم تلك الدروس لعجلة التطور البشري في جوانبه كافة إلا في مسك حبل العجلة والاستمرار في جرها وتحريكها والبدء من الموضع الذي توقف عنده الأقدمون، هكذا لن نتعلم دروس الثلاثة الآلاف السنة الماضية فحسب بل سنكون جزءا منها ونشترك في تدوين الألفية الرابعة التي تمضي بنا بسرعة في عصر الفوضى والانفجار السكاني والاحتباس الحراري والذكاء الاصطناعي والسياسات اللا محسوبة في ظل عوالم متناقضة أشد التناقض في العالم الواحد الذي نعيشه. فما الذي تعنيه الفلسفة من كل هذا؟ وما الذي يقع على عاتقها؟ هل الاستمرار في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي بقيت شائكة ومستعصية الإجابة عن الحياة والموت والكون، ومن أين أتينا وأتى العالم وإلى أين يمضي، وهل هناك بداية لكل شيء؟ أو حتى نهاية؟ حاول جوستاين في عمله الأدبي هذا أن يقتفي كلام غوته ويعبّر عن أهمية تعلم الدروس الفلسفية الضاربة الجذور إلى ما قبل التاريخ الميلادي مع الإغريق الذي أسسوا لها القواعد وشيّدوا بنيانها ليتابع اللاحقون ما ابتدأه الإغريق وعلى رأسهم الثلاثة الكبار (سقراط وأفلاطون وأرسطو) الذين يبدو أن العالم الفكري لن يخرج من ظلالهم أبدا مهما بدا أنه يحاول ذلك، فحلقة الفلسفة التي كبرت يوما بعد يوم حتى ملأت مياه الأرض قد قذف حجرها أولئك الثلاثة في بركة الفكر الإنسانية. وفي معرض الحديث عن الرواية، أكمل مستقرئًا العمل من جانبيه الموضوعي والبنائي.
موضوع الرواية
لا أذكر من القائل إن من يملك فكرة ولا يعرف كيف يطرحها فليكتبها في رواية، وسواء أكان القول لأحدهم أو أتوهم أنه لأحدهم، فإنه يوحي بحل منطقي لطرح التساؤلات والأفكار ويشيد بقيمة الرواية، التي دائما ما ارتبطت بالتطور الفكري والعقائدي والإنساني للجنس البشري، وكما توصف -وهذي حقيقتها- بأنها وريثة الأساطير والملاحم الشعرية للسابقين، فهي القالب الذي يعبّر الإنسان عن فكره ورؤاه وتطلعاته ويكشف مكنونات نفسه، معالجا قضايا ومسهما في زعزعة الأوهام والخرافات والأمراض وحاملا قنديلا مرشدا للجميع إنْ أتوا فمن هنا الطريق، ولا يمكن للعالم اليوم أن يتخلى عن الرواية فقد أضحت مرحلة من مراحل التطور الإبداعي البشري. فما بعد عصر الأساطير والملاحم والأشعار والقصص؛ جاءت الرواية لتمثل إحدى القمم الإنسانية الفكرية التي منحت الإنسان كل القيم التي جهلها أو بحث عنها ووجدها ولم يجد بدًا من الكشف عنها إلا في رواية. لم يكن غاردر بمنأى عن هذا الإدراك لمفهوم الرواية، فاختارها قالبا لعرض تطور الفلسفة منذ نشوئها قبل آلاف السنين، وصعودا شيئا فشيئا إلى يومنا المعاصر، مستعرضا فيها أهم الفلاسفة والمذاهب الفلسفية، عن طريق حوارات ونقاشات وأسئلة وشروحات تكفل بها فيلسوف الرواية ألبرتوكنوكس والصبية ذات الخمسة عشر عاما صوفي، فيأخذ القارئ إلى عالم صوفي، الذي تشكّل من وحي الفلسفة وتطورها وفكر رجالها. ينصح الكثيرون أن تكون الرواية عملا إرشاديا للدخول في الفلسفة، لكن هذا الطريق يبدو شائكا بعض الشيء، فالرواية وإن كانت قالبا ضم بين أكنافه الفلسفة وعرضها، فهي أيضا تبقى عملا روائيا ذا جودة لا تخفى، قد يضيع القارئ ما بين الفلسفة والرواية، ويتشتت فتضيع عليه متعة الاثنتين، لذا فلا بد أن يكون للقارئ اطلاع سالف وإن طفيفا على الفلسفة قبل الشروع في قراءتها حتى يجد المتعة الكاملة، مما لا يخفى على القارئ أن الكاتب اختار سن الخامسة عشرة ليوحي لقرّائه أنه السن المناسبة لتعليم النشء الفلسفة، وكشف الغطاء عن أعينهم ليبدأوا مهمة البحث عن الأسئلة الوجودية في هذا العالم بدءًا من سؤال الحياة ومصدرها مرورا بقيمة الحياة ومعناها انتهاءً بالاستعداد للموت وما الأثر الذي تود أن تخلّفه بعدك، وإن كان العمل لا يدرج العقائديات في الموضوع، إلا إني أجد أن من الضرورة أن تكون الفلسفة شريكة لاحقة للتنمية والتنشئة العقائدية، الموحدة لله، ثم بعدها تعرض الفلسفة ومذاهبها للنشء، فالفلسفة في الأخير لن تجيب عن كل شيء، وأن يتبع المرء الوحي الإلهي الحق خيرٌ له من اتباع أوهامٍ، فالأول ينفعك ويضرك إن آمنت به أو كفرت إذا كان حقا موجودا، في حين الثاني قد يضرك ولا ينفعك بكل الأحوال إن كانت الحياة عبثية ومنتهية إلى عدم، والبحث عن الأمان في المجهول لا يقارن بالمخاطرة في مجهول غير معروفة العواقب؛ ومهما بلغ الإنسان من العلم فسيبقَ دون فَهم الكون والحياة والتأكد من يقينات قاطعة للشك فيما يخص الدين والإله اللذين كانا موضوعين دسمين للفلاسفة على مر عصور الفلسفة المتنوعة ومذاهبها.
بنية العمل
بنى جوستاين العمل ليكون متلائما مع الفلسفة وبعض الأفكار الفلسفية التي طرحها، فشكلت المراهقة صوفي الحقل الذي طُبِّقَت فيه الفلسفة تطبيقا جعلت الرواية تنتقل من الانتظام إلى الصدمة إلى الشك إلى العبثية إلى تداخل العوالم إلى اللا معقول غير القابل للتصديق إلا في الخيال الإنساني، مع استخدام تقنيات روائية ما بعد حداثية كوعي الشخصيات بأنها شخصيات خيالية وليست إلا مجرد أوهام في وعي الكاتب أو حتى لا وعيه، ومحاولتها الثورة على هذه الحقيقة والهرب إلى عالم الحقيقة للكاتب المايجور -الذي هو أيضا خيال للكاتب “جوستاين”-. تتلقى صوفي رسائل ذات محتوى فلسفي وأسئلة فلسفية، يستمر من خلالها هذا المجهول بعرض الفلسفة وتطورها حتى مرحلة معينة يقرر فيها أن يلتقيا ويبدآ بالتدارس بعد أن يكشف ألبرتو -الفيلسوف المجهول- عن هويته ويكمل دروسه للفتية صوفي، التي كانت في ذات الوقت تستقبل رسائل معنونة إلى “هيلد موللر كناغ عبر صوفي أمندسون” لتكون هي حلقة وصل ما بين هيلد ووالدها المُرسِل “المايجور”، استغرق الأمر وقتا حتى كشفت صوفي حقيقة هذا الرسائل ودورها هي من هذه اللعبة الكبيرة -الرواية الهدية-.
فمن هم صوفي وألبرتو وهيلد والمايجور، وما طبيعة العلاقة التي ربطتهم، وما دور الفلسفة في كل هذا؟ تساؤلات يطرحها القارئ أثناء القراءة، لتتضح لـه كل هذه العلاقات تدريجيًا على محو متزامن مع تطور الفلسفة، وأكاد أميل جازما أن قيمة الرواية هو في هذه البنية الروائية المتقنة، وهذا التداخل بين الشخصيات الحقيقة “خيالية من المرتبة الأولى” والخيالية “خيالية من المرتبة الثانية”، إضافة إلى وعي الجميع بدوره الحقيقي والخيالي والغاية منه، في رواية “يعيها القارئ” داخل رواية “تعيها الشخصيات بفضل ما بات يعرف اليوم بالميتا سردية أو ما وراء النص -التي عُكست إذ علمت الشخصية بما سيفعل أو يفكر بفعله كاتبها-. منذ البداية كان يعرف ألبرتو الفيلسوف بأنه ليس سوى شخصية خيالية خلقها الكاتب المايجور -والد هيلد- وخلق جميع الشخصيات في عالمه ومن بينهم صوفي، إلا إن تلك الشخصيات كانت في منأى عن إدراك هذه الحقيقة، ومع بدء الدروس الأساسية في الفلسفة التي بدا في أول الأمر أنها موجهة إلى صوفي إلا إنها في الحقيقة كانت موجهة إلى هيلد عبر صوفي، وهنا نعرف أن صوفي ليست سوى قارئةً للرسائل أو شاشة عرض لها من أجل المستلِمة أو المتلقية هيلد، فكان لصوفي دوران أُدمجا معا أخذ مقعد هيلد في تلقي الفلسفة -صوفي هي هيلد لكن في عالم الرواية- ووسيلة لتعليم الفلسفة لهيلد أكثر امتاعا عبر قرائتها ذاتها وهي تتعلم الفلسفة. شيئا فشيئا، تدرك صوفي حقيقتها ودورها وأنها ليست سوى شخصية داخل رواية، لتدخل إلى الحلبة، شخصية هيلد الحقيقة التي كانت تقرأ رواية “عالم صوفي” وهي ذات الرواية التي يقرأها القارئ. ونحصل هنا على مستويين من القراءة: المستوى الأول المتمثل فينا نحن القرّاء، والمستوى الثاني متثمل في هيلد “القارئة الثانية”، والتي مثلت أيضا مستوى السرد الأول “مكانا وزمانا ووعيا” في حين مثلَّ ألبرتو وصوفي وعالمها مستوى السرد الثاني “مكانا وزمانا ووعيا”. شعرتُ بالاحباط أول الأمر حين اكتشفت أن صوفي هي مجرد شخصية خيالية داخل عمل خيالي، وتعي أنها ذات مسلوبة، لكن الكاتب “جاستين” استطاع أن يمنحها سلطة أعلى من سلطة الكاتب الداخلي “المايجور” وغلبت الشخصيات الخيالية خالقها الذي هو بدوره شخصية خيالية، لنصل إلى مرحلة من تداخل العوالم السردية وتصبح سلطة الشخصيات “ذات المستوى التخييلي الثاني” أعلى من سلطة الشخصيات “ذات المستوى التخييلي الأول -الحقيقي في الرواية-“، إلى حد تجد فيه الشخصية الخيالية رواية ذاتها “عالم صوفي” بعد أن تعبر إلى عالم كاتبها. هذه الثورة من الخيال على الحقيقة، كان في جزء منها رسائل لا مباشرة وجهها الكاتب إلى القارئ حول إمكانية أننا مجرد شخصيات خيالية في لا وعي مخلوق آخر أو في لا وعي وعي شامل، أو كذلك إلى مدى العبثية التي قد تكون عليها الحياة في حقيقتها. العمل في مكنوناته وأفكاره وموضوعاته وتقنياته الروائية شائقٌ ويحمل في طياته ما لا يُكشف بسهولة الأمر الذي لا يترك مجالا للشك عن مدى شهرة هذه الرواية سواء في موضوعها الفلسفي أو بنيتها الروائية، وتبقى قراءة هكذا أعمال نافعة ومفيدة للباحث عن مدخل إلى الفلسفة أو ذاك المهتم بالتقنيات الروائية والعوالم السردية.