صدى الندّاهات في سماع بروفروك غناء الحوريات
Interesting Literature
ترجمة: هدى الزعبي
سمعتُ الحوريات يغني بعضهن لبعض أحد أشهر الأبيات لقصيدة ذائعة الصيت كلّها أبيات معروفة. وصف الناقد كريستوفر ريكس قصيدة الشاعر ت. س. إليوت “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك” بأنها أفضل قصائده في مجموعته الشعرية الأولى، فقد استهل بها مجموعته في عام 1917 بروفروك وتحليلات أخرى، وكانت نُشرت أول مرة قبل سنتين في مجلة الشعر.
كتب إليوت قصيدة “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك” حين كان لا يزال طالبا في جامعة هارفارد في مطلع عشرينياته. سعى صديقه وزميله الشاعر الأمريكي جاهدا، وتنقّل بين دور الشعر ليجد مُرحِبًا بنشر هذا النوع الجديد المبهر من الشعر. عرض عليه هاورد مونرو -وهو ناشر نافذ ومالك المكتبة الشعرية في لندن- فرصة نشر القصيدة، ولكنه ردها عليه واصفا إياها “بالجنون”. جذبت هذه القصيدة، التي تعد رائدة في الحداثة، العديد من التأويلات بدءًا من التحليلات النفسية وصولا إلى قراءات السير الذاتية، بيد أنها بقيت من القصائد المحيرة.
ولكن ما هي قصيدة “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك”؟ إنها حوار درامي، وتختلف تماما عن تلك التي كتبها روبرت برتوننغ ولورد تينيسون -ألفرد- في القرن الماضي. فبراوننغ وتينيسون من ابتدعا هذا النوع الجديد من الشعر في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، وارتبطت اسماهما به. بيد أن بروفروك هو متحدث العصر الحديث الذي يتكلم بصراحة عن فشله، لا سيما فشله بإجبار نفسه على أن يكون شجاعا، أو أن يرى أجمل ما في يومه، واخفاقاته الجنسية وإحساسه العام بالفشل. وثمة شيء معطوب بشدة أيضا في أفكاره وتأملاته، التي تمتد من سؤال بسيط مثل هل يجسر على أكل تفاحة؟ وصولا إلى تساؤل وجودي هل يجسر على أن يُقلق الكون؟
لسنا على يقين دائم من أن ما يعهد به إلينا يلفظه فعلا، بل لعلنا نكون على اتصال مباشر بخواطره وتخيلاته في حين يهيم من خاطر لآخر ومن فكرة لأخرى، من يوحنا المعمدان إلى الصلع، ومن الأمير هاملت إلى رهط من رجال وحيدين قمصانهم معلقة على النوافذ. عادة ما يُساء فهم أسلوب بروفروك، وقد شُبّه بتيار الوعي الذي يعد قصة أكثر منه شعرا. يبدو جليا أن بروفروك يتنقل مضطربا من موضوع لآخر بعقله وهو يحاول جاهدا أن ينخرط في المحافل الاجتماعية كحفلات الشاي وسهرات حجرات الرسم التي يحضرها بصحبة تلك النسوة اللاتي يتحدثن عن مايكل أنجلو، في حين أنهن يغتبن نحوله، وتساقط شعره ظنا منهن أنه غائبٌ عن سمعهن، أو في الأقل هذا ما يُخيل إلى بروفروك.
جاء في آخر أبيات القصيدة مقطعٌ ثلاثيّ آخره البيت “سمعت الحوريات يغني بعضهن لبعض”، في قافية ثلاثيّة بالصوت تش Ch (خوخ Peach، شاطئ Beach، كُل Each). يتكرر الصوت ي :e الطويل في البيت الثالث، وفيه يؤكد بروفروك في هذا البيت سماعه الحوريات يغني “بعضهن لبعض each to each”، لكن مع ذلك غير واثق “من أنهن يغنين له”.
Shall I part my hair behind? Do I dare to eat a peach?
I shall wear white flannel trousers, and walk upon the beach.
I have heard the mermaids singing, each to each.
أأسرِّحُ شعري إلى الوراء؟ أأجرو على أكل الخوخ؟
سألبسُ بنطالًا أبيض، وأتمشّى على الشاطئ
سمعتُ الحوريات يغني بعضهن لبعض.
من هذه الحوريات؟ وما الذي يعنيه بروفروك بقوله سمعت الحوريات يغني بعضهن لبعض؟ عادة ما يقرن هذا البيت بأنشودة الشاعر جون دَن (حللّناها هاهنا):
اذهبْ والتقط شهابا،
أنجبْ مع طفلٍ جذرَ يَبْروح،
أخبرني أين ولت السنون الخوالي،
أو من شقَّ قدم الشيطان،
علّمني أن أسمع غناء الحوريات،
أو أن أتوارى عن الحسّاد
وأعرفَ أن الريح تجري في هوى الشريف
من غير الممكن الإمساك بشهابٍ بالتأكيد. وجذر اليبروح نبات مرتبط بالخصوبة في العهد القديم، بيد أن جعل النبات يحمل (وهو الذي يساعد النساء في الحمل) يقلب هذه الفكرة رأسا على عقب. والطلبات الأخرى التي في الأبيات صعبة أو محالة. وعادة ما يُفَسر هذا البيت (علّمني أن أسمع غناء الحوريات) بأنه مبني على أغاني الندّاهات (عرائس البحر) في الأساطير اليونانيّة، إذ كانت أغانيهن ساحرة حتى إنها تجعل السفن المارة ترسو على الصخور عند سمعاها، وحينها تلتهم الندَّاهات الرجالَ الذين على متنها. لكن وخلافا للمتعارف عليه فقد كانت الندّهات نصف بشرية ونصف طير (النصف السفلي هو جسم الطير)، عكس أسطورة الحوريات إذ إنَّ النصف السفلي يأخذ شكل السمك. اشتهرت أسطورة الندَّاهات أكثر من الحوريات بأغانيهن، ولعل هذا التكوين البحري والبشري لكليهما، قد تسبب ببعض اللبس أو الخلط بينهما. عزز شيكسبير أيضا هذا التشابه في مسرحية كوميديا الأخطاء. ففي الفصل الثالث، المشهد الثاني، حين أمرَ أنتيفوليوس سيراكيوز لوسيانا:
آه يا حورية البحر الفاتنة لا تروّضيني بنغمكِ
لتغرقيني في بحر دموع شقيقتك
غنّي يا ندّاهة لنفسك، وسأهيم أنا.
الشاهد أنه من غير الممكن أن تستمع إلى أغاني الندّاهات وتنجو بحياتك، ما لم تكن أوديسيوس الذي تمكن من النجاة بحيلته الشهيرة (وضع شمعًا في أذنيه). لذا عندما أكد بروفروك بقوله “سمعت الحوريات يغني بعضهن لبعض” عُدَّ أكثر من كونه تلميحا، بل أيضا ردا صارخا على إشارة دَن المرفوضة إلى غناء الحوريات “سمعتُ حقا يا دَن غناء الحوريات” ثم أتبع قوله فورا “لكنَّهن يغنين لبعضٍ؛ ولا يغنين لي”. عندها يصبح المعنى واضحا في البيت، في الأقل في تفسير هذا الشطر من القصيدة: أي إن بروفروك سمع تلك النسوة (الجزء الإنساني) يتحدثن عن مايكل أنجلو وسمع (أو خُيّل إليه أنه سمعهن) يغتبنه (عن نحولة ذراعيه وساقيه… إلى آخره). غير أنه يظن أن الحوريات العصريات لن يتحدثن إليه، فهو يرى نفسه مادة غير صالحة للتزاوج بين تلك النسوة اللاتي يحضرن تلك المناسبات الاجتماعية. مسألة (الزواج؟) المؤرقة هي أشد وأعظم من أن يجابهها بروفروك، فهو لا يحسب نفسه كفؤًا ليحظى بفرصة مع امرأة.
ثمة قيود على مثل تلك التحليلات لأبيات إليوت، فمثلا بروفروك يظهر في المنزل مع الحوريات في حجرات البحر، في حين أن “فتيات البحر” على مقربة منه. لكن في الواقع لو قُلبت التوقعات، فإن بروفروك وصحبته من النساء “يغرقون” عندما توقظهم أصوات البشر وتسحبهم من عالمهم البحري الخيالي وتعيدهم إلى العالم الفعلي إلى حجرات الرسم في إنجلترا. هذه الأبيات مدوّخة ومُضللِة.
ما من شأنه أن يؤكد انغماس بروفروك بفكرة الإشفاق على الذات في الشطر القائل “سمعت الحوريات يغنين”، بحسٍ هزلي باهت استوحاه من لافروغ، هو حقيقة أن قصيدة أنشودة دَن إنما موضوعها هو تلّون أخلاق النساء. فينتهي المقطع الثاني من القصيدة بـ أشارة واضحة على تعصبه ومعاداته المرأة:
لو أنك وُلدتَ لترى العَجب
وما توارى خلف الحُجب،
وعشت آلافَ الأيام والليالي،
واشتعلَ رأسُك بالشيب،
ستعود إليّ، وتطلعني
بكل ما حلّ بك، وتقسم،
محال أنَّ في الدنيا امرأة شريفة.
ألا يمكن لهذه الإدانة -أو كما هو مُشار إليها في القصيدة “غناء الحوريات” تنعكس في أبيات بروفروك كونهن لا يغنين له؟ وهنا يتضح أن المشكلة ليست في أن النساء خائنات، وإنما لأنهن لا يعرنه انتباها. ربما العلة إذًا أن بروفروك حتى في خلجات نفسه، حين يتوارى في حجرات البحر حيث الحوريات برفقته يغنين له، لم تكن الحوريات مهتماتٍ به. بل إنه ليس الشخصية الرئيسة أو البطل حتى في حياته فيقول: “لست أنا الأمير هاملت” (وإنما هو شخصية ثانوية أو حدث عرضي في قصة حياته)، حتى في خياله تشيح النساء بأنظارهن عنه في وجوده. بمعنى آخر، حتى الندَّهات بأغانيهن لا يكترثن بقياده إلى أي مكان.