شاطئ مصاب بالزهايمر

قصة قصيرة 


حجم الخط-+=

انتهت الحرب، توقفت، الحق أنها قررت أخذ قسطاً من الراحة، وعلى مدى عشر سنوات، تأجلت عودتي للمدينة التي أعشقها ككل مواطن يدفع الزكاة، وضريبة الحرب معاً. أخيراً يمكنني زيارتها، قلت هذا لنفسي، وأنا اتحسس ذكرياتها بي، وحكاياتنا على شواطئها. لا أعرف كم من الوقت يحتاج طريق الوصول إليها، الطريق الذي حملني إليها أول مرة، تحوّل لجغرافيا خالية إلاّ من حقول الألغام، وآهات الأسر المملوءة بالدم والدموع، وهي تُحدق إلى صور أبنائها المفقودين في معاركها، ولا يزال مزاج مساحتها الموزع بين السهول والجبال، يتململ من لحظة لأخرى بكامل اليقظة ونصف الخوف، وعلى كل طرف فيها يتمترس جنود تنهض صباحاتهم بين خطوات للذكرى وأخرى للحسرة المحتملة. لكنني أتذكرها تماماً، أكتم ارتجاف القلب السائد، وفي طريقها الهارب من مستحيل الزمن، والجغرافيا، تتشابك مخيلتي بملامح كل شيء فيها، ألمح حنانها الحارس للحكايات البعيدة، أول دهشة، أكبر ضحكة، وآخر أغنية سبقت صور الموت المنتشرة، ومبتدئ الحلم مجدداً لدماء من لم يموتوا بعد. وهكذا من طريق سيئ السمعة والمسار، نمضي صوب آخر، نحمل نعش مخاوف أشواقنا، في حين تطل فوضوية الوقوف الإجباري بمزاجها المضطرب من حين لآخر.

وسط صمت المسافة، تبادلت وصديقي نظرات الحيرة والسؤال، فشلنا على مدى عشر ساعات في اختراع مفتاح للكلام، غير أن ضحكتها المنتظرة للوصول، تتكفل بمواساة الخيال بجهد مضاعف. الآن ساتهيأ لعناقها، لست وحدي المغرم بها كفنتازيا بلا سفر أو حدود، لكنه إحساس المدينة المتفردة، وهي تخلق بداخلك كل شيء، حين تقصُّ عليك معنى الجغرافيا المفتوحة ببلد يعشق كل ما هو مغلق. دقائق فقط، ترسل تنبيهات من نوافذ العناق المرتقب، تفحصت نظرات صديقي، فهمت ابتسامة قلبه، سمعته دون أن ينطق، يحكي أشواقنا لمدينة لا يعرفنا فيها أحد، ونعرف فيها كل الناس، فجأة يداهمنا ضيق لا مبرر له، يهطل على قلوبنا كنيزك مشظى، وأعيننا تتكهن في سر ظهيرة بلا حياة، شوارع يملؤها الخوف والعتمة، أزقة تهرب بضيق حنينها كما لو أنها أفعى تتلوى بالشمس، لا زحام ولا مرايا لوجوهنا بعيون كثيرا ما أضحكتها بلاهة شرودنا المندهش بها. في الشارع الذي بدا كأنه لم تعبره المارة منذ زمن، تستفيق أحلامنا النائمة، تتسلل أمنياتنا الخائبة بشوارع الأمنيات، نتنقل وسط حرارة طقس هرب من الجحيم، ها نحن أولاء نقرر النوم، نؤجل أحكامنا على مدينة لا بد وأنها لا تزال وفيّة لليل، فتلد الحياة كأنها أرنب بري لا تملّ ولاداتها المتكررة. أنتظر حنيننا هذه اللحظة بالتحديد، نغادر أسرتنا على أنغام مغادرة النهار والشمس معاً، تتسابق خطواتنا أمام معزوفة موج، يوشوش للذاكرة كعاشق صار شاعراً، غير أن لا شيء يشي بما جئنا طمعاً فيه، نفتش في كل الزوايا، نوزع آمالنا في بحر جئنا بذكرياتنا إليه، نستحيل فقداننا لشاطئ أو موج يدلنا عليه، لكن الوقت يمضي بنا، يقتاد خيباتنا من فراغ معبأ بالقاذورات نحو آخر لا ملامح فيه لمدينة أو بحر، ولا حتى لشاطئ مُصاب بالزهايمر. 

بلال طاهر: قاص من اليمن.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى