سلافوي جيجك عن الحب
كاثلين أودير
ترجمة: سارة محسن
فيلسوف ما بعد الحداثة والمحلل النفسي، سلافوي جيجك، المعروف بأسلوبه العبقري واللامع والمشتمل على التناقض بين ثنائيات عدة، والذي غالبًا ما كان شخصية جدلية وازدواجية، مخادعة ومنكرة، والتي هي، في الواقع، من مميزات وسمات الثقافة المعاصرة. يقول توني مايرز عن أعمال جيجك: “رغم أن جيجك فيلسوف فإنه ليس فيلسوفًا عاديًا، فهو بالإضافة إلى تفكيره وطريقته المسلية في الكتابة إلا أنه يخاطر على نحو دائم بجعل الفلسفة سَهْلَةً” [1]. ما يجعل جيجك فيلسوفًا مختلفًا عن “الفلاسفة العاديين” على حد قول مايرز، هو ذلك الشعور المتواصل بالتعجب والدهشة، وهو ما يعبر عنه بالأسئلة التي لا حدود لها عن كل شيء: “مع كل دهاء وخبث من طفل يسأل والديه لماذا السماء زرقاء؟ فإن أسئلة جيجك تشكك في ما نعده حكمة، عن من نحن؟ وماذا نفعل؟ ولماذا نفعل ذلك؟” [2]. كونه معلقا ذكيا على الكوارث الإنسانية والصعوبات التاريخية المعاصرة، يبحث جيجك في القضايا السياسية والإجتماعية والفردية بأسلوب يجمع بين الفكر الفلسفي والتحليل الثقافي. وإحدى هذه القضايا هي البحث في مفهوم حب الجار. يبحث جيجك في قول المسيح: “أحب جارك كما تحب نفسك”، ويتسائل عن إمكانية تطبيقه ومُلاَءَمَته للواقع المعاش. حيث ترتكز حجته على أن الحب العالمي الذي يروج له، يتبرأ مما هو غير محبوب في الطبيعة البشرية، وأن الحب يجب أن يكون قرارًا مستقلًا (ببساطة، لا يمكن فَرَض الحب).
الحب لغير الجار
يسأل جيجك عند تحليلهُ لقول المسيح “من الجار؟” وينتقل إلى جواب جاك لاكان “بأن الجار هو الحقيقة”. وهذا يعني أن حقيقة الجار تتضمن ما يعانيه من ضعفه، وهشاشته، وفحشه أو سفالته، وأخطائه. بهذا يلخص جيجك أن الأمر القاضي في القول “بحب الجار” والوعظ الودي بشأن المساواة والتسامح والحب العالمي “هما في النهاية، استراتيجيات لتجنب مواجهة الجار” [3]. عند جيجك، هذه الدعوات المثالية للحب تحول في واقع الأمر دون إمكانية حب الجار، كونها حقيقة صادمة لا يمكن بلوغها. وفي تصوره للجار على “أنه تجسد للحقيقة”، يجادل جيجك في القول إن الوصول إلى الحقيقة ليس مستحيلًا- بل إن الأمر قد يكون من خلال الجار- ولكنه مؤلم وخطير. ومواجهة الحقيقة عن طريق الجار، يعني مواجهة لطبيعتنا الفجة والضعيفة، والتي غالبًا ما تُتجنبُ لصالح تعميمات تكون مقبولة ومثالية عند الناس. ويتفق مع جاك دريدا الذي يقول “إن قياس العمل من خلال قدرة الحب في العمل، والعيش معه.. ولكن في كل مرة، لا يعيش سوى شخص واحد مع شخص آخر”. ويخلص إلى القول “لا يمكن أن يكون كل ذي كيان متناهي أن يكون حاضرا في العمل على نحو كبير جدًا. لا يوجد مجتمع له انتماء وله أصدقاء أيضا، ولهم وجود في الواقع من دون أيّ انتخاب أو حتى اختيار” [4]. بمعنى أن “المجتمعات الصديقة” تختار أفرادها بعناية لإبعاد الأشخاص غير المناسبين والمنبوذين لديها. وعند جيجك، فإن تجنب الخضوع لهذه التجربة الفريدة والمتنوعة مع الجار، هو بمعنى النفور من ضعفه وافتقاره إلى الإمكانيات اللازمة، وهو ما ينعكس على الآخر. هذا الابتعاد يفسر شعبية القضايا الإنسانية، التي تكمن في مفارقتها، حيث يمكن للمرء أن “يحب” من بعيد، من دون أن يكون له حضور شخصي، بمعنى أن نحبّ عبر مسافات تقطعنا مع المحبوب دون أن يكون قريبا وحاضرا معنا في المكان. فيقول جيجك:
“من السهل أن نحب صورة الجار الفقير الذي لا حول ولا قوة له، مثل ذلك الجار الأفريقي أو الهندي الجائع. من السهل أن يحب المرء جاره ما دام بعيدًا بما فيه الكفاية، طالما أن هناك مسافة تفصل بينه وبين الجار. وتنشأ المشكلة في اللحظة التي يقترب فيها منا أكثر من اللازم، عندما نبدأ في الشعور بقربه الخانق- في هذه اللحظة التي يعرض فيها الجار نفسه لنا أكثر من اللازم، فجأة يمكن أن يتحول الحب إلى كراهية”. [5]
إن تقارب الحب والكراهية، مع الهبوط التدريجي من شعور إلى آخر، هو ما يميز وجودنا البشري، من جهة أنه موضوع متكرر، يتردد دائمًا في الأدب. وكما يقول لاكان “لا أعرف الكراهية، في الأقل لا أعرف الكراهية بأي شكل من الأشكال. لا يوجد حب بدون كراهية .” [6] وبذلك، نتهرب باليقين الأخلاقي عبر بوابة الضمير الأخلاقي، والتي جاءتنا، بطبيعة الحال، من العبارات الفارغة والشعبية التي تبشر بقناعات أخلاقية مثل “الأخوة الإنسانية”، “السلام العالمي” والعدالة للجميع”. ومع ذلك، فإن واقعنا يقوض مثل هذه التعابير التي نستخدمها حتى في خضم إعلانها. في نقده لأيديولوجيا حقوق الإنسان، يشير جيجك إلى الازدواجية التي تخفيها الحملات خلف ستار من الحب الزائف للآخرين: “المحبة والصَدَقَة جزء من اللعبة، قناع إنساني يخفي وراءه تجارة اقتصادية.” [7].
يقدم جيجك، عند تحليلهُ للعلاقات الإجتماعية، نقدًا دقيقًا لأخلاقيات الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس (1995-1906)، ولا سيما إصرار ليفيناس على الاستجابة للتواصل مع الآخر، “يؤكد ليفيناس، على أن علاقتي مع الجار، هي مسؤولية غير مشروطة، وهي ميدان حقيقي لممارسة النشاط الأخلاقي” [8]. ويصرُّ جيجك على أن أخلاقيات لفينياس محدودة بحدود تصوره لما يعنيه بالإنسان:
“إن تعريف ليفيناس هذا، ليس مجرد تقييد للإنسان الأوروبي الوسطي، والذي يعتمد فيه على تعريف ضيق لما هو إنساني، حيث يستبعد سرًا كل ما هو غير أوروبي، بكونه “إنسان غير كامل”. ما فشل في تضمينه ليفيناس في نطاق “الإنسان” هو للإنسانية ذاتها، وبذلك، يتملص من طبيعة العلاقة بين البشر.” [9] بمعنى أنه يستبعد البشر إلا الأوربيين من ذلك ويراهم غير كاملين – بحسب رؤية ليفيناس. ويتساءل فيما إذا كان ليفيناس، بدعوته هذه، غير مذنب “بتحسين” صورة الجار عن طريق استعباد كل ما يعد “لا إنساني”، وكل ما لا يتناسب مع العالم الإجتماعي.
إن نظرة جيجك التي تتركز على أن الإنسان بطبيعته لا إنساني ووحشي، يتعارض مع ريتشارد كيرني، الذي يعتقد أن ذلك يثير المخاوف في نفس الإنسان “إن مخاطر أفكار جيجك تنم عن خطر أن تتحول ثقافتنا بأكملها ما عدا قليلًا منها، من مجرد أعراض إلى أعراض لأمراض مستعصية على الشفاء، لأمراض ما بعد الحداثة “بمعنى، أن الثقافة سوف تعيد تعريف معانيها حتى تمرض” [10]. ورغم هذا فإننا بمجرد أن نستبعد الوحشية واللا إنسانية من الطبيعة البشرية، فإنها تتركنا أمام العديد من الأسئلة. من قبيل “ما معايير من يتسم بالإنسانية؟ وهل تغيرت هذه السمة في الفترات التاريخية المختلفة، وماذا عن التجارب الثقافية في هذا الأم؟”. وأعتقد أن هذه الأسئلة تحتوي على إجابتها، من حيث أنها قد تثير ردودًا وتعليقات متنوعة وغامضة، وبالتالي، سيكون هناك إنكار عالمي “للإنسان” الذي وجد من أجل أن يدافع عن ما هو إنساني ولا إنساني.
في نقد نيتشه للأخلاق – هذا النفاق في التكتم عن جوانب من طبيعتنا البشرية، وعكسه من الازدواجية الزائفة- يستشهد به جيجك، في الحديث عن مفهوم الإنسان وما هو عليه، والتي تعنى باستبعاد اللا إنسانية. حيث يردد قول نيتشه ويؤكد عليه بأننا “إنسان، وجميعنا إنسان”.
“إن استخدام مثل هذا النعت (إنه لا إنساني/ not human)، يعني بيسير القول، أنه خارج النظام الطبيعي للبشرية، والحيوانية أو الإلهية، في حين التردد بـ (الهَمَجِيّ/ inhuman)، يعني شيئًا مختلفًا تمامًا لأنها تعني، على وجه التحديد، أنه ليس مجرد إنسان، وأيضًا، ليس لا إنساني فحسب وإنما يتسم بالتوحش وصفات مخيفة، رغم أنه ينفي ما نسميه (بالإنسانية)، وهو متأصل في كونه انسانًا.” [11]
وَحْشِيّة الإنسانية
يستشهد جيجك، في كتابه، بتجربة المحرقة بعدِّها تأكيدًا لا مفر منه على الشر البشري والإيهام. إن الوحشية والقسوة- الأفعال ‘اللا إنسانية’ التي ارتكبها النازيون ومؤيدوهم- تجعلنا غير قادرين على إنكار حقيقة الشر في العالم، وتجعلنا أمام الأسئلة حول ما يستطيع الإنسان القيام به، وقدرتنا عليه. كما قال الشاعر ويستن هيو أودن في The cave of making (1960): “نحن لا نخضع، ليس منذ زمن ستالين وهتلر/ نثق بأنفسنا باستمرار/ نحن نعرف، وشخصيا، أن كل شيء ممكن”. ورغم ذلك، فإن الإطار الأيديولوجي الذي شمل فظائع الهولوكوست كان قائمًا على “حب” الأمة والوطن، والدفاع ضد العدوّ، والولاء للمثل العليا والتطلعات التي يؤمن بها النازيون. كتب جيجك تحليلًا نفسيًا عن هذا الموضوع، حيث يذكر أن الأيديولوجيا تأسست على الوهم ‘الشخص الذي يدّعي المعرفة’ والخبير المطلق، والذي غالبًا ما يُشار إليه في دلالة ‘الله’- المحلل، أو في معنى آخر، الزعيم والجلاد. ونجاح الوهم يتركز على من يهددهم- حيث كان اليهودي، هو من يشكل التهديد لهم، لتحقيق هذا الوهم. وكما يقول جيجك: “لا توجد أيديولوجيا لا تظهر إلى الوجود دون أن تخفي نفسها تحت غطاء “حقيقة” ضد أخرى”. ويشرح نيتشه ذلك بقوله: “الناس الذين لا يمكننا تحملهم، نحاول أن نشكك فيهم.” [12]. وهكذا، عندما تُوجّه إلى النازيين تهمة الجرائم التي ارتكبوها، فإنهم كثيرًا ما كانوا يقدمون ذريعة اتباعهم للأوامر وتأدية للواجب المفروض من السلطة النازية، والنتيجة بعد ذلك تظهر أنهم غير مسؤولين على تلك الجرائم. بل أنهم قد يقولون: إن ما قاموا به كان بدافع “الحب”- حب الوطن، القضية، والقائد- وهو ما يجعلهم غير متهمين ولا مبالين.
إن هذا الإدراك المتأخر من المنظور التاريخي، يجعلنا نرفض مثل هذا الإنكار، ونطالب مطالبة حثيثة وجدّية بالعدالة والقصاص مما يعتبر فعلًا “لا إنساني”. هذا الأمر جعل جيجك يهتم به لأنه يذكرنا بأن مرتكبي هذه الأعمال اللا إنسانية والمتوحشة لم يكونوا شواذّا أو فئة أقل مرتبة من الإنسان “أي دون الإنسان/ sub- human”، وإنما كانوا بشرا عاديين، عاشوا حياتهم في سياقها التاريخي “من السهل جدًا رفض النازيين، وعدَّهم مجردين من الإنسانية وأنهم مجموعة من الكائنات المتوحشة. لكن ماذا لو بقوا “بشرًا” [13]. لم يكونوا وحشيين ومختلفين عنا- كانوا مثلنا، يشبهوننا من حيث إنهم بشر-. ومن هنا، فإن محاولة تصوير النازيين على أنهم كائنات غير بشرية، وهمجية ومتوحشة؛ يحمل ذات الفكرة التي أسقطها النازيون على اليهود، وأحرقوهم بعد ذلك في مجازر شنيعة لم يعرف التاريخ مثلها شناعة ولا فظاعة.
كثيرًا ما يُعدُّ الهولوكوست قمة الشر التاريخي، ولكن، في الحقيقة، هناك ما يعادلها ويزيد عنها عبر التاريخ، وفي جميع أنحاء العالم، كما يقول مارتن بوبر: “لا أرى أيَّ تغيّر حدث في الجنس البشري عندما جاء النازيون إلى السلطة.. إنها مسألة متفاوتة، وليست أساسية، وقد وقعت أعمال وحشية مماثلة عبر التاريخ.” [14]. ننظر إلى التاريخ لغرض تحليل الأحداث الجارية، فنرى جيدًا الانقسامات والتناقضات الموجودة في داخل التاريخ. مثلًا، أن الغرب يُعدُّ مثلًا أعلى “للعالم الحر”، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي غالبًا ما يعبر عنها بأنها تتسم بالإنسانية. وعلى العكس، يكون الشرق الأوسط هو الإرهاب، والمسلم في نظرهم هو الإرهابي، وهؤلاء هم في الحقيقة كبش فداء. ومن المفارقات الغريبة، إنه عندما يوجّه تنديدا إلى “العالم الحر” بأدلة قطعية على مدى وحشيته وإرهابه، والذي يرتكب جرائمه تحت مسمى “مكافحة الإرهاب” ومعتقل غوانتانامو الفظيع، نلاحظ احتجاجا من جهة أنّ من يُقتل هم رجال ونساء عاديون وضحايا أبرياء، ومواطنون من العالم الغربي. وكما يقول جيجك: “ما يصدمنا فعله بالآخرين، نحن نرتكبه في حقهم بطريقة أخرى.” [15]
الحب للجار المسلم
إن مواجهتنا للشر، تنطلق من رفضنا للوحشية التي ترتكب عبر الشرّ. ولكن كثيرًا ما يشير جيجك إلى ضرورة التشجيع بالرد. في كتابته عن أحداث 11 سبتمبر، يصر جيجك على أنه يجب علينا فهم الحقائق الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية التي سبقت الحدث، ويحذر من المخاطر الضمنية ومن الصّدمات الأحادية لبعد مفاهيم الصواب/ الخطأ، والخير/ الشر، والجريمة/ العقاب. و لتدعيم رأيه، يضع جيجك اقتباسا لجاك دريدا عن حادثة تفجير برجيْ التجارة العالمي. إذ يقول دريدا: “لا يمنعني تعاطفي مع ضحايا 11 سبتمبر من القول وبصوت عالٍ، بما يتعلق بهذه الكارثة، فأني لا أعتقد أنَّ أيَّ سياسي بريء من الجريمة” [16]. ويضيف جيجك” إن هذه الصورة النهائية هي العدالة اللا نهائية للحقيقة الوحيدة”. هذا يعني “من جهة أخرى أن أقول، “أحب الجار!”، هو بالذات نفسه أن أقول “أحب المسلمين!”، وغير ذلك لا يعني شيئًا على الإطلاق”. وطبقًا لهذا، إذا ما كان علينا مواجهة الأبعاد الحقيقية لأحداث 11 سبتمبر المؤلمة، يجب علينا، أولاً، إعادة البحث في مفهوم “المتوحش” أو اللا إنساني “كما استطعنا أن نواجه الشر في الخارج ونبحث عنه، يجب علينا، الآن، أن نشجع ونؤيد الدرس الهيغلي الذي يقول: في الخارج النقي يجب علينا أن نعترف أن هناك نسخة منّا صافية في جوهرنا الداخلي” [17]. على أية حال يرفض جيجك الأفكار المستعملة حول مفهومي الخير والشر، ويدعونا إلى فهم أكثر شمولًا للطبيعة البشرية، التي تعترف بكل الناس حتى و لو كانوا (لا إنسانيين).
© Dr Kathleen O’Dwyer 2010
[1] (Slavoj Žižek, p.1, 2004).
[2] (p.3).
[3] Conversations with Žižek, p.72, 2004)
[4] (The Politics of Friendship, p.21, 2005)
[5] (Enjoy Your Symptom!: Jacques Lacan in Hollywood and Out, Slavoj Žižek, p.8, 2001).
[6] (On Feminine Sexuality, the Limits of Love and Knowledge, p.89, 1999).
[7] (on-line quote, 2006).
[8] Žižek says in The Neighbour, p.146, 2005.
[9] (On Belief , p.111, 2006).
[10] , p.99, 2003
[11] (The Neighbour, p.160).
[12] (The Žižek Reader, p.54, 1999).
[13] (Human, All Too Human, p.243, 1878).
[14] he asks in On Belief, p.42, 2002.
[15] (Encounter with Martin Buber, Aubrey Hobes, p.146, 1972
[16] (on-line text, 2001).
[17] (The Universal Exception, p.287, 2007).