رِسالة عن السَّفر – ديمتري ليخاتشوف

ترجمها عن الروسية: عمران أبو عين


حجم الخط-+=

واحدة من القِيم الحياتيّة العظيمة هو السَّفر، السَّفرُ داخل بَلدك أو البُلدان الأُخرى. احرص على ألا تُقسِّم الأماكن الّتي زُرتها إلى أماكن مُثيرة وأُخرى غير مُثيرة، أو مُهمّة وغير مُهمّة. ولا تعطي الأماكن درجات في الأهمية، وبَدلاً من ذلك قسّم الأماكن على درجة استعدادك لها، أو تلك الأماكن الّتي لم تُعدّ لها أو أعدّدتَ لها على نحوٍ سيئ. فأيُّ مدينةٍ وأيُّ دولةٍ وأيُّ مكانٍ لم تُحضِّر له جيداً سيكون مُملاً وغير مُثير، وعلى العكس، لو كان لديك عِلم بتاريخ المكان، سيكون عندها مُثيراً بعشراتِ الأضعاف. 

ماذا يعني الإعداد لزيارةِ مدينةٍ غير مَعروفة، مدينة لم تكن فيها من قبل؟ يعني ذلك دراسة تاريخها ومَعرفة مُخططات المكان، في الأقل من خلال الإرشادات السياحيّة، وتحديد تلك الأماكن على الخريطة، الأماكنُ الّتي يجبُ زيارتها، تفادياً لإهدار الوقت. 

احرص على عدم تفويت الإثارة  حتّى في تلك الأماكن الّتي تعتقدُ أنّها غير مُثيرة، لا يوجد على الأرض أماكن غير مثيرة، بل أشخاصٌ غير مُبالين، أشخاصٌ لا يعرفون كيف يَعثرون على الإثارة والأماكن المُهمّة، أشخاصٌ مُملون داخلياً. 

أشعرُ دائماً بالنفور من أولئك الأشخاص الذين يزورون أماكن جديدة، ثم يتحدثون بضجرٍ عن ذلك “أها.. كنتُ في باريس، هُناك كذا..”. يجبُ أن تكون لديك القُدرة دائما على الغرقِ في تلك الأماكن الّتي أرسلك القَدرُ إليها، وتكون قادراً على إيجاد سِماتك الخاصة في كُلّ مكان. فهذا ذكاءٌ، ولا يُمنح فقط من خلال الرغبة، لكن من خلال اكتساب المعرفة قبل بدء الرحلة. دائماً ما تكونُ انطباعات الفنانين مُثيرة، اقرؤوا كتابات الفنانين ومُذكراتهم حول رحلاتهم، لا أدري لماذا، لكنّهم جميعاً يكتبون بروعة، كوروفين، بينوا، دوبوجينسكي، جرابار… كيف كانوا قادرين على المُشاهدة والمُلاحظة، وتحويل ذلك ليس فقط في الرسم، وإنّما أيضاً في كتاباتهم. كتب م. ف. دوبوجينسكي في مُذكراته عن الانطباع العظيم الّذي تركته له زياراته الأولى لـميونخ والبندقية وباريس في أيام شبابه. كان عليه العودة على نحوٍ مُفاجئ إلى روسيا (فقد توفي للعائلة الابن الصغير على نحو غير متوقّع وقرر دفنه في موطنه فيلنيوس) ليجدَ نفسه بعد زيارته لـميونخ وفينيسيا وباريس- بين القبور في ليتوانيا. وها هو ذا يكتب “غالباً ما كنتُ وزوجتي نسيرُ في الطريق السريع أو في الغابات أو الحقول، وأرى مُجدداً المناظر الطبيعية الليتوانية الحزينة واللطيفة، حقولٌ رملية، واحات خضراء، وبوسطها مقابر رومانسيّة بصُلبانٍ طويلة، وأشجارُ الصنوبر، وغُرابٌ وحيد يطيرُ ببطء”. هذه المقابر والصُلبان الليتوانية المنحوتة، وغابات في الأفق، ومكان أوليتا الفقير، حيث كانت كنيسة خشبيّة حمراء، كنتُ أعرفُ ذلك كله وأحببته، بعد كل ما رأيته في الخارج بدتْ لي هذه الزاوية غير مألوفة لأبعدِ حد. كُنا في زيارةٍ لـفلينا، ومُجدّداً سحرتني هذه المدينة المفضلة. وبعدها فإن فيلينا بطرازها الباروكي المُبهج، كانت تصمدُ أمام اختبار المُقارنة مع كل رحلةٍ لي إلى الخارج. ها هي ذي النتيجة الحقيقة لشخصٍ ذكي حقاً في رحلاته وسفراته، سيبدو العالَم في نظر شخص غني من الداخل غنيًا كلّه غناءً لا ينضب. وثانياً فإنّ السَّفر يَزرع في الإنسان الاستقرارَ وحُبَّ الأهل.

سأعطيكم انطباعاتي (تودون قبولها؛ الأمرُ عائدٌ لكم). أنا من سانت بطرسبرغ- لينينغراد، ولدتُ في سانت بطرسبرغ حيث ولد أجدادي، وعاشَ أسلافي في سانت بطرسبرغ منذُ القرن الثامن عشر.  قيل لي منذُ الطفولة ما أجملَ نهر نيفا، ما أبدعَ مركز نيفا، ما أروعَ مسار لادوجا على نهر نيفا، يا لروعة قلعة بطرس، ما أحلى النّهار التقليدي لا سيما الساعة الثانية عشرة عندما تنطلق المدافع من حصون بطرس! لا شكَّ أنَّ مركز نهر نيفا جميل وواسع، لكنّه يجعلني لسببٍ ما حزيناً، فهو واحدٌ من أكثرِ الأماكن حُزناً وكآبة في مدينتي، لا سيما عندما تنظر إلى القلعة في الشّتاء. قلبي يعصرني كآبةً، رُبّما لأنّني سمعتُ في طفولتي عن قصة سُجناء القلعة والأسطورة الرهيبة عن الأميرة تاراكانوفا الّتي تركت انطباعاً خاصاً عليَّ في طفولتي. وما أروع الأماكن الحميمية في لينينغراد وخاصةً القنوات، ماذا يُمكن أن يعادل جمال الزوايا المُذهلة الّتي تنفتحُ للمُشاة على طول مويكا (على سبيل المثال عند آخر شقة لبوشكين) على قناة غريبوبدوف (لا سيما مع جسر غريفينز) على طول قناة كريوكوف، وتذكروا الجرس الّذي بناهُ تشيفاكينسكي في “نيكولا مورسكي” على طول نهر فونتانكا. واحد من أكثرِ الأماكن روعة في لينينغراد هي “نيو هولاند” وخاصة البوابة في ديلاموت (أودُّ تسميتها بالبوابة) الّتي تدخلُ إلى القناة من خلالها حيث تُنقل البضائع إلى المستودعات. أحبُّ على وجه الخُصوص قناة جريبايدوفا حيث الشّوارع المُصممة والمُخططة بدقة الّتي تُذكرنا بالحَرف اللاتيني S، عند النَّظر إلى الأمام ستجد الجسر الرائع عبر القناة، تنظر للخلف تشاهد نفس القناة مرة أخرى. تجلبُ القناة الفوضى لشكل الشوارع، وليس من الصُدفة أنَّ دستويفسكي جعلَ هذه الشوارع مَسرحاً لعملهِ ” الجريمة والعقاب”. 

المدينةُ مُثيرةٌ للاهتمام،  وما يُثير التفكير هناك نهرُ أوريل، جرت فيه أحداث فيلم “عش النبلاء” لـتورغينيف. أو نهر أورليك الّذي عاشَ عليه البطل ن.س ليسكوفا- جولوفان غير القاتل. وأروع الشوارع على طُولِ نهر الفولغا: أوليانوفسك، ياروسلافل، كوستروما، غوركي.. ألا تُجبرنا على التفكير مع أوستروفسكي، غوركي، جونتشاروف؟ 

إنَّ السَّفرَ يفتحُ لنا آفاقاً كبيرةً، يُجبرنا على التفكير.. على أن نحلم.   

 ___

ديمتري سيرجيفتش ليخاتشوف ( 1906-1999) ولد في مدينة سانت بطرسبرغ، عالِمٌ لغوي وبَاحِثٌ في الأدب الرّوسيّ القَديم. لليخاتشوف كتاب بعنوان “رسائل في الخير والجمال” مكوّن من عشرات الرسائل تحدث فيها الكاتب بشتى الموضوعات. ترجمنا هذه الرسالة “السفر” وهي الرسالة التاسعة والعشرون في الكتاب. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى