روبرت فروست
poetry foundation
ترجمة: زينب محمد
ساعدت قصائد فروست في توجيه الفكر الأمريكي وحكمتِه وحسِّه الفكاهي، مقدمةً لنا بيانًا أمينًا عن أنفسنا والناس جميعًا.
موطن الأسلاف
وُلد روبرت فروست في سان فرانسيسكو لكن عائلته انتقلت بعد وفاة والده إلى لورانس، ماساتْشوسِتس في عام 1884. في الواقع، كان الانتقال بمثابة العودة إلى موطن أسلاف فروست، إذ يرجع أصلهم إلى سكان إنجلترا الجديدة (نيو إنجلاند) واشتهر فروست لاتصال أشعاره بهُوية إنجلترا الجديدة وما يرتبط بها من مواضيع.
تخرج فروست في ثانوية لورنس عام 1892، ولكونه شاعر الصف فقد نال شرف المشاركة في خطبة التخرج مع زوجته المستقبلية، إيلنور وايت. بعدها بسنتين قبلت صحيفة نيويورك إندبندنت قصيدته “فراشتي” التي لحقها الإقرار به شاعرًا محترفًا بصكٍّ بمبلغ خمسة عشر دولارًا. نُشر أول كتاب لفروست حين كان في قرابة الأربعين من عمره، واستمر حتى فاز بأربع جوائز بوليتزر، وأصبح أشهر شاعر في زمانه قبل وفاته بعمر الثامنة والثمانين.
بواكير النشر
للاحتفاء بأول منشوراته، طبع فروست مجموعته الشعرية الأولى من ست من قصائده لدائرته المقرَّبة؛ خُصصت نسختان من هذه المجموعة “شفق” له ولخطيبته. ولم ينشر خلال الثماني سنوات المقبلة سوى ثلاث عشرة قصيدة أخرى. في زمانه، التحق فروست في أوقات متفرقة بجامعتي هارفارد ودارتموث، وكسب دخله من التدريس، وعمل لاحقًا في مزرعة ديري، نيو هامبشير. لكن في عام 1912، وجرَّاء تثبيط همته من قبل المجلات الأميركية أخذ عائلته إلى إنجلترا حيث حصل على المزيد من النجاح المهني. أكمل فروست الكتابة عن إنجلترا الجديدة ونشر كتابين: “رغبة صبي (1913) A boy’s will” و”شمال بوسطن North of Boston (1914)” مؤسسا سمعته حتى أقفل راجعًا إلى الولايات المتحدة في عام 1915 شخصيةً أدبيةً مشهورة. نشر الشاعر طبعة أمريكية من “شمال بوسطن”، وكتب لمجلات دورية قد رفضت ذات يوم أعماله وأصبحت تسعى خلفها الآن.
التوقير الأمريكيّ
ثُبِّت مقام فروست في الصحافة الأمريكية مع نشر كتابه “شمال بوسطن”، وكُرِّم في السنوات التي سبقت وفاته وعُدَّ الشاعر غير الرسمي للولايات المتحدة. في ميلاده الخامس والسبعين، مرر مجلس الشيوخ الولايات المتحدة قرارًا على شرفه، ينص فيه: “ساعدت قصائد فروست في توجيه الفكر الأمريكي وحكمته وحسه الفكاهي، مقدمةً لنا بيانًا أمينًا عن أنفسنا والناس جميعًا”. وفي عام 1955، أطلقت ولاية فيرمونت اسم فروست على جبل في ريبتون، موطنه الرسمي؛ وخلال التنصيب الرِئاسي لجون كينيدي في 1961، مُنح فروست شرف لم يسبق له مثيل عندما طُلب منه قراءة قصائده. كتب فروست قصيدة “إخلاص dedication” لهذه المناسبة، لكن لم يستطع قراءتها بسبب ضوء الشمس الساطع في ذلك اليوم. بدلًا عن ذلك تلا قصيدته “الهبةُ صراحةً The Gift Outright” التي طلب منه كينيدي قراءتها له منذ البداية، مع سطر أخير منقح ومبتكر.
الحياة الأدبية
لم يتحالف فروست مع أي مدرسة أو حركة أدبية، لكن ساعده الشعراء التصويريون في البداية للترويج لسمعته، ونشرت مجلة الشعر “poetry” أعماله قبل أن يُحدث الآخرون ضجة عليها. نشرت أيضًا مراجعة الشاعر عزرا باوند للنسخة البريطانية عن مجموعة “رغبة صبي”، وقال إنها “تمتلك تلك الرائحة القوية التي تعبق بها غابات نيو هامبشير وذلك الإخلاص التام. هذه ليست ما بعد الميلتونيّة أو ما بعد السوينبرنيّة أو ما بعد الكيبلنغيّة. يملك هذا الرجل الحس الجيد ليتحدث بعفوية ويصبغ الشيء كما يراه”.
وكتبت الشاعرة التصويرية الأخرى آمي لوويل مراجعةً عن شمال بوسطن في مجلة الجمهورية الجديدة، وأثنت عليها بقولها “يكتب على الأوزان الكلاسيكية بأسلوب يضع شعراء المدرسة القديمة على الحافة، يكتب بالوزن الكلاسيكي ويستخدم الانعكاس والتعابير المأثورة متى ما أراد، هذه الأدوات الممقوتة من الأجيال الجديدة. يذهب هو بأسلوبه بغض النظر عن قواعد أيّ شخص، والنتيجة كانت كتابًا بقوى غير معتادة وصدق تام”.
لا يقدم فروست في أول مجلدين عاطفته تجاه مواضيع إنجلترا الجديدة ومزيجه الفريد من الأوزان التقليدية والعامية فحسب، بل واستخدامه للمونولوجات والحوارات المسرحية. تصف القصيدة الرئيسة “إصلاح السور” في مجموعة “شمال بوسطن” الجدل اللطيف بين المتحدث وجاره أثناء سيرهم بمحاذاة جدارهم المشترك، مستبدلين الحجارة المتساقطة؛ يعطي اختلاف موقفهم تجاه “الحدود” أهمية رمزية مثالية للأشعار في بداية هذه المجموعة.
توجهات شعرية جديدة
علَّمت مجموعته الشعرية “استراحة جبل Mountain Interval” على نزوع فروست نحو نوع آخر من القصيدة، تأمل قصير أطلق شرارته شيء، شخص أو مناسبة. ومثل المونولوجات والحوارات، فقد امتلكت هذه المقطوعات القصيرة سمة مسرحية.
من القصائد الأخرى في هذه المجموعة قصيدة “أشجار البتولا Birches”، وهي مثال عن هذا النزوع الجديد، كما في قصيدة “طريق لم يُطرق”، يتفرع طريق الغابة عن المسار المحدد. يكمن فرق هذه المجموعة، كما ذكرت صحيفة بوسطن ترانسكربت: “إنَّ السيد فروست يأخذ التعبير الجمالي من عمله “رغبة صبي” ويعزف موسيقى أعمق ويُمنح توليفةً معقدة من التجارب المختلفة”.
برزت العديد من الخصائص الجديدة في عمل فروست مع ظهور مجموعته الشعرية “نيو هامبشاير New Hampshire 1923″، خاصةً الوعي الجديد بالذات والرغبة في التحدث عن نفسه وفنه. يصف لويس انترميير المجلد الذي فاز به فروست بجائزته، بوليتزر، الأولى “تتظاهر بأنها لا شيء سوى قصيدة طويلة بنغمات بهيّة”. تمثل قصيدة العنوان، التي يبلغ طولها حوالي أربع عشرة صفحة “شهادة مسترسلة” لولاية فروست المفضلة “مُيِّزت بنجمة ونقاط بالأرقام العلمية على غرار إطروحة بليغة جدا”. هكذا، تقوم الحاشية في نهاية النص الشعري بإحالة القارئ لقصيدة أخرى كما يبدو فقط بهدف تعزيز نص نيو هامبشير. وكتبت بعض هذه القصائد، ولأول مرة في أعمال فروست، بشكل حِكم. “النار والثلج” على سبيل المثال، هي واحدة من أفضل الحِكم المعروفة، تتكهن بالطريقة التي سينتهي بها العالم.
أما أشهر قصيدة لفروست وأكثرها مثالية في رأي جي مكبرايد دابس هي “وقفة عند غابة في أمسيّة ثلجيّة”، والمنشورة ضمن مجموعة نيو هامبشير؛ تعبر عن “الهمس المستمر للموت في قلب الحياة”. تصور القصيدة متحدثًا يوقف عربته في منتصف غابة مكسوة بالثلج فقط ليُنادى من هذا الدُّجى المغري بذاكرة واجباته العملية. يتحدث فروست بذاته عن قصيدته بأنها من النوع الذي يود طباعته في صفحة واحدة يتبعها أربعون صفحة من الحواشي.
إصدارات متتابعة
قُسِّمت مجموعة فروست الشعرية الخامسة، (1928) West-Running Brook، إلى ستة أقسام، شغلت القصيدة، التي حملت المجموعة عنوانها، أحد الأقسام بالكامل. وهي تشير إلى النهر الذي ينحرف مجراه جهة الغرب بدلًا من الشرق إلى المحيط الأطلسي مثل كل الجداوِل الأخرى.
تُجرى هنا مقابلة بين النهر والمتحدث في القصيدة الذي يثق باتجاهه المعاكس، وتمنح المزيد من العناصر المتمردة المتمثلة في النهر وصفًا للتفرد غير المعتاد، الذي يمثل موضوع فروست الرواقي للمقاومة وتحقيق الذات. وفي مراجعة المجموعة في منصة نيويورك هيرالد، كتب بابيت دويتش: “الشجاعة التي يولدها الإحساس المظلم بالقدر، والحنان الذي يحتضن البشرية بكل عماها وعبثيتها، والرؤية التي تأتي لتستقر تمامًا في دخان المطبخ والثلج المتساقط كما هو الحال في الجبال والنجوم- هذه كلها ملك له، وكما يبدو في شعره، يجعلها مُلكًا لنا”.
نالت مجموعته اللاحقة (A Further Range 1936 مدًى أوسع) جائزة بوليتزر أخرى، ووقع الاختيار عليها في “نادي الكتاب الشهري” ليضمَّ مجموعتين من قصائد هذا الكتاب بعنوانيها الفرعيين، “Taken Doubly” و “Taken Singly.”
كانت القصائد في المجموعة الأولى، والأهم من بين هذه المجموعات، تعليمية إلى حد ما على الرغم من وجود قطع هزلية وذات روح دعابة أيضًا. وتتضمن هذه المجموعة قصيدة “Two Tramps in Mud Time”، التي تبدأ بقصة حطابَين متجولين يقدمان عرضًا لِقَطع خشب المتحدث مقابل أجر، ثم تتطور القصيدة إلى موعظة حول العلاقة بين العمل واللعب، والنداء والعطاء، وتدعو بضرورة توحيدهما. كتب ويليام روز بينيت عن المجموعة بأكملها: “تستحق القراءة أكثر من معظم الكتب التي ستمر عليك هذه السنة. وفي الوقت الذي تُهاجم فيه الأمم من كل أنواع الجنون، فمن الجيد الاستماع إلى هذا العمل الفكاهي الهادئ، حتى لو كان عن دجاجة أو دبابير، أو مربع ماثيو… وإذا سألني أي شخص لمَ ما زلت أومن بوطني، فكل ما عليَّ فعله أن أضع هذا الكتاب في يده وأُجيب، هاهنا رجل من وطني”.
التلقي النقدي
يُقر معظم النقّاد بأن شعر فروست خلال الأربعينيات والخمسينيات أصبح أكثر تجريدية وغموضًا وحتى أكثر حساسية، لذا فقد كان يُحكم عليه بناءً على أعماله السابقة. وحتى اليوم أصبحت سياسته وإيمانه، المستوحى من الشك والطابع المحلي، أكثر فأكثر هي المبادئ التوجيهية لأعماله. لقد كان، كما يشير راندال جاريل، “غريبًا جدًا وراديكاليًا جدًا حين كان شابًا” ولكنه أصبح “أحيانًا محافظًا على نحو قاسٍ وغير متخيَّل” في شيخوخته. وتحول إلى شخصية عامة، وفي السنوات التي سبقت وفاته، كتب الكثير من شعره من موقفه هذا.
في مراجعته لقصيدة (شجرة الشاهد A Witness Tree 1942)، في “الكتب”، لاحظ ولبيرت سنو أنَّ بعض القصائد “لها الحق أن تكون بمصاف أفضل ما كتبه لا سيما: Come in ادخُل، و The Silken Tent الخيمة الحريرية، وCarpe Diem. مع ذلك فقد استمر سنو قائلا: “إن بعض القصائد هنا ليست أكثر من خيال مُقفى، وتفقتر الأخرى إلى وحدة البناء المماثلة للرصاص التي توجد في مجموعة شمال بوسطن”.
من جانب آخر، يشعر ستيفن فينسينت بينيت أن فروست “لم يكتب قط أي قصائد أفضل من تلك الموجودة في هذا الكتاب”.
أُحبط النقاد كذلك بمجموعة In the Clearing 1962، وكتب أحدهم “مع أن هذا المراجع يعدُّ روبرت فروست أبرز شاعر أمريكي معاصر، فإنه مع الأسف يقر أن معظم القصائد في هذا المجلد الجديد مخيبة للآمال… [هي] في الغالب أقرب للأناشيد الإعلانية من الشعر البارز المرتبط باسمه”. وذكر آخر أن معظم الكتاب مكون من قصائد لحوارات فلسفية سواءً أثارت إعجابك أم لا، وتعتمد غالبًا على ما إذا كنت تشاركه ذات الفلسفة.
في الحقيقة، الكثير من القراء يشاركون فروست فلسفته. على الرغم من ذلك يجد البقية المتعة والمعنى في المحتوى الضخم لشعره. في تشرين الأول/ أكتوبر 1963 ألقى الرئيس جون كينيدي خطابًا على شرف مكتبة روبرت فروست في أمهيرست، ماساتشوستس. قال الرئيس: “من خلال تكريم روبرت فروست، فنحن نكرم أعمق مصدر لقوتنا الوطنية. تتخذ هذه القوة عدة أشكال، والأشكال الأوضح ليست دائمًا هي الأهم. فقوتنا الوطنية مهمة. ولكن الروح التي تنشر وتتحكم بقِوانا مهمة بذات القدر. كانت هذه هي الأهمية الخاصة لروبرت فروست”. سيُسر الشاعر في الأغلب بهذه السمعة، لأنه قال ذات مرة، في مقابلة مع هارڤي بريت: “شي واحد أكترث له وأتمنى من اليافعين أن يكترثوا له أيضًا، وهو أخذ الشعر على أنه أول شكل من أشكال الفهم. إذا كان الشعر لا يَفهمُ الجميعَ، كُلَّ العالم، فهو لا يساوي شيئًا”.
ما زال شِعر فروست موقرا حتى هذا اليوم. وواحدة من الأشعار غير المعروفة سابقًا لفروست بعنوان “War Thoughts at Home أفكار الحرب في المنزل” التي اكتُشفت وأُرّخت لعام 1918، نُشرت لاحقًا في خريف 2006 بمجلة فيرجينيا كوارترلي ريفيو. ونُشرت أول نسخة لمذكرات فروست في عام 2009، وصُححت آلاف الأخطاء في النسخة الورقية بعدها بسنوات. نُشرت الطبعة النقدية من كتاب الأعمال النثرية الكاملة في 2010 ولقى إشادة واسعة من النقاد. وتُنتج الآن سلسلة تتكون من مجلدات متعددة لرسائله، حيث ظهر المجلد الأول في عام 2014، والثاني في عام 2016.
بقي روبرت فروست متمسكًا بمكانة فريدة وتقريبًا وحيدة في الرسائل الأمريكية. كتب جيمس إم كوكس “مع أن مهنته تمتد على نحو كامل إلى الحقبة المعاصرة ومن المستحيل التحدث على أنه أي شيء عدا كونه شاعرًا معاصرًا فإنه من الصعب وضعه في الثقافة الرئيسة للشعر الحديث”. بمعنى ما، يقف فروست عند مفترق طرق بين الشعر الأمريكي للقرن التاسع عشر والحداثة، قد يوجد في شعره نزعة إلى ميول وتقاليد للقرن التاسع عشر وأيضًا يوجد بعض التشابه مع أعمال معاصريه في القرن العشرين.
الإبداع الشعري
طوَّر فروست، الذي أخذ رموز من المجال العام، كما لاحظ العديد من النقّاد، تعابيرَ حديثة ومبتكرة مع حس بالصراحة والاقتصاد يعكسان الحركة التصويرية لعزرا باوند وآمي لوويل. ومن ناحية أخرى كما أشار ليونارد أونجر ووليم فان أوكونور في قصائد للدراسة، فـ”إنَّ شعر فروست، على عكس شعر معاصريه اللاحقين مثل إليوت وستيفنز وييتس، لا يُظهر أي خروج ملحوظ عن الممارسات الشعرية للقرن التاسع عشر”. ومع أن فروست يتجنب أشكال الشعر التقليدية ويستخدم القافية بعشوائية وتقطّع، فإنه ليس مبتكرًا وتقنيته ليست تجريبية أبدًا.
وربطته نظريته عن التركيب الشعري بكِلا القرنين، فهو مثل شعراء القرن التاسع عشر الرومانسيين، قد حافظ على فكرة أن القصيدة ليست خدعة أبدًا… إذ تبدأ كتلةً في الحلق، إحساسا بالخطأ، حنينا إلى الوطن، ووحدة. هي لا تبدأ بفكرة أبدًا. وتكون في أفضل حالاتها حين تكون عبارة عن غموض محير.
كما لاحظ الكاتب إتش واجنر أن فروست وضع نسخته الخاصة “غير الشخصية” للفن. وأيّد فروست أيضًا فكرة ت.س. إليوت أنَّ الرجل الذي يعاني والفنان الذي يبدع منفصلان تمامًا. في عام 1932، أرسل فروست رسالة إلى سيدني كوكس، أوضح فيها مفهومه للشعر: “إنَّ الفكرة الموضوعية هي كل ما كنت أهتم به. معظم أفكاري تتولد شعرًا. …أن تكون شخصيًا جدًا مع ما تمكن الفنان من جعله موضوعيًا هو أن تأتيه بجرأة وتُصيِّرَ إلى بشعٍ ذاك الذي قاسى في حياته من أجله وآمن بأنه جعله بهيًّا”.
أخذ فروست أدوات القرن التاسع عشر وجدَّدها للوصول إلى هذه الموضوعية والجمال. أوضح لورانس طومسون أنه وفقًا لفروست، فإن “القيود التي تُفرض ذاتيًا على المقاييس في الشكل والتماسك في المحتوى تعمل لصالح الشاعر؛ إنها تحرره من عبء التجربة- والبحث المستمر عن حالات جديدة وهياكل بديلة”. هكذا، كتب فروست شعره بانتظام، وقال بنفسه في “الرمز الثابت” أنه لم يتخلَّ قط عن الأوزان التقليدية للشعر الحر، مثلما كان يفعل الكثير من معاصريه. في الوقت نفسه، لم يكن تمسّكه بالوزن وطول السطر والقافية اختيارًا عبثيًا، واستمر بقوله إنَّ “عذوبة القصيدة تكمن دائما في عدم التفكير فيها، ثم تبدأ بالقصيدة وهي بدورها قد تبزغ بموسيقى”. في الأحرى كان يعتقد أن المزاج الخاص للقصيدة يُملي أو يُحدد “التزام الشاعر بوزن ومقياس معين”.
يشير النقاد دائمًا إلى أن فروست فاقمَ مشكلته وأثرى أسلوبه بوضع أوزان تقليدية ضد النغمات الطبيعية للكلام. وقد استمدّ لغته في الأساس من العامية وتجنب استخدام الأسلوب الشعري المصطنع من خلال استخدام لهجة نيو إنجلاند. في كتابه “وظيفة النقد”، انتقد إيفور وينترز فروست على “سعيه لجعل أسلوبه أقرب ما يكون إلى أسلوب المحادثة”. لكن ما حققه فروست في شعره كان أكثر تعقيدًا من مجرد محاكاة لتعابير الفلاحين في نيو إنجلاند. أراد أن يُعيد للأدب “صوت الجملة الذي يكمن خلف الكلمات” و”الإيماءة الصوتية” التي تعزز المعنى. أي أنه شعر أن أذن الشاعر يجب أن تكون حساسة للأصوات من أجل أن تلتقط بالكلمة المكتوبة أهمية الصوت في الكلمة المنطوقة.
على سبيل المثال، تتكون قصيدة “موت المستأجر The Death of The Hired Man” تقريبًا بالكامل من حوار بين ماري ووارن، زوجها المزارع، لكن النقاد لاحظوا أن فروست في هذه القصيدة يأخذ الأنماط المبتذلة لحوارهم ويجعلها شعرية. ويرى عزرا باوند أن قصيدة “موت المستأجر” قد مثَّلت فروست في أفضل حالاته- حين “تجرأ على الكتابة بالكلام المعتاد لنيو إنجلاند، والذي يختلف تمامًا عن الخطاب المعتاد المستخدم من قبل الصحف ومعظم الأساتذة”. إنَّ استخدام فروست للهجة نيو إنجلاند يُظهر جانبا واحدا من نزعته الإقليمية. كان تركيزه داخل نيو إنجلاند منصبًّا على نيو هامبشير التي يشير إليها “بواحدة من أفضل ولايتين في الاتحاد الأمريكي”، والأخرى هي ولاية فيرمونت.
وفي مقاله بعنوان روبرت فروست ونيو إنجلاند: إعادة تقييم، لاحظ أودونيل “كيف أن فروست منذ البداية في قصيدة رغبة صبي، قرر إعطاء كتاباته طابعا محليا واسمَ نيو إنجلاند، ليرسخ فنه في التربة التي صنعها بيديه”. كتبت آمي لوويل في مراجعة عن شمال بوسطن في الجمهورية الجديدة، “إنجلترا الجديدة ليست فقط موضوع عمله، ولكن أسلوبه أيضًا… أعاد السيد فروست إنتاج كل من الأشخاص والمشاهد بحيوية غير عادية”. ومدح الكثير من النقاد الآخرين قدرة فروست على استحضار مناظر نيو إنجلاند بواقعية، وأشاروا أنه بإمكان أي شخص أن يتصور بستان فواكه في قصيدة “بعد قطف التفاح After Apple-Picking” أو أن يتخيل الربيع في “Two Tramps in Mud Time متشردان في بواكير الربيع”.
وعن قدرته على تصوير الحقيقة المحلية في الطبيعة، يدّعي أودونيل، أن فروست ليس له نظير. هذه القدرة هي نفسها التي دفعت باوند إلى هذا التصريح “أصبحتُ أكثر معرفة بحياة المزرعة مما كنت أعرفه قبل أن أقرأ قصائده. مما يعني أنني أعرف المزيد عن الحياة”.
يشير النقاد إلى أن النزعة الإقليمية لفروست لا تكمن في السياسة وإنما في واقعيته فهو لا يخلق صورة للوحدة الوطنية أو الانتماء للمجتمع. في كتاب استمرارية الشعر الأمريكي، يصف روي هارڤي بيرس أبطال فروست بأنهم أفراد مجبورون باستمرار على مواجهة فرديتهم ورفض العالم الحديث من أجل الحفاظ على هويتهم. كما أن استخدام فروست للطبيعة ليس مشابهًا فقط لكنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنزعته الإقليمية، إنه يبتعد عن الدين والتصوف كما يبتعد عن السياسة. وما يجده في الطبيعة هي اللذة الحسية؛ فهو حساس أيضًا تجاه خصوبة الأرض وعلاقة الإنسان بالتربة. وينقد م. روزنتال الطابع الريفي لفروست، بقوله إن “استرجاعه الواقعي والعاطفي لموضوع الأرياف والطبيعة “هي أساس سمعته.
ومع ذلك فإنَّ فروست واعٍ بالمسافات بين شخص والآخر، لهذا هو أيضًا على وعي بالفروق، والانفصال النهائي بين الطبيعة والبشر. ويشرح ماريون مونتغمري أن موقفه تجاه الطبيعة هو هدنة مسلحة ووديّة واحترام متبادل يتخلله تقاطع للحدود بين الفرد وقوى الطبيعة.
ثمة معانٍ خفية وفظيعة أسفل السطح في أشعار فروست، أو ما يطلق عليه روزنثال بالإحساس الصادم لوحشية الأشياء. هذه القسوة الطبيعية موجودة في قصيدتيْ “تصميم Design” و “ذات مرة عبر المحيط الهادئ Once Upon the Pasfic”. إنَّ النبرة المشؤومة للقصيدتين دفعت روزنثال للتعليق بأن فروست في أقوى حالاته مذهول بالرعب بقدر إليوت ويقترب بطريقة مماثلة له من الحافة الهستيرية للمشاعر. لا يزال عقله هو العقل الحديث الذي يبحث عن معناه الخاص.
إن النظرة الصارمة والمأساوية للحياة التي تظهر في العديد من قصائد فروست تُحوَّلُ من خلال استخدامه الميتافيزيقي للتفاصيل. وكما يصوره فروست، قد يكون الإنسان وحيدًا في عالم غير مبالٍ في النهاية، لكنه مع ذلك قد ينظر إلى العالم الطبيعي بحثًا عن استعارات لحالته الخاصة. وهكذا، في بحثه عن المعنى في العالم الحديث، يركز فروست على تلك اللحظات التي يتقاطع فيها المرئي وغير المرئي، المادي والروحي.
يُسمي جون تي نابير هذه القدرة التي يمتلكها فروست “بإيجاد المألوف في قالب لما هو غير مألوف.” في هذا الصدد، غالبًا ما يُقابل فروست بإميلي ديكنسون ورالف والدو إيمرسون، وفي شعرهم تتحول حقيقة واضحة، أو شيء، أو شخص، أو حدث، وتتبدل لتحمل المزيد من الغموض أو الأهمية. وقصيدة “أشجار البتولا” مثال على ذلك فهي تحتوي على صورة لأشجار نحيلة منحنية على الأرض مؤقتًا بصبي يتأرجح عليها أو على الدوام بسبب عاصفة ثلجية. ولكن عندما تتكشَّفُ القصيدة، يصبح من الواضح أن المتحدث لا يهتم فقط بلعب الطفل والظواهر الطبيعية، ولكن أيضًا بالنقطة التي يندمج فيها الواقع المادي والروحي.
هذا الاستيراد الرمزي للحقائق الدنيوية يُبلِّغُ العديدَ من قصائد فروست، وفي حديث “التعليم بالشعر Education by Poetry” أوضح الشاعر: “يبدأ الشعر باستعارات تافهة واستعارات جميلة، واستعارات “بهية”، ويستمر إلى أعمق تفكير لدينا. يوفر الشعر الطريقة الوحيدة المسموح فيها بقَوْلِ شيء وقَصْدِ آخر. ولن تكون في منزلك عبر الاستعارة ما لم تتلقَ تعليمًا شعريًا ملائما للاستعارة، وبهذا فأنت لست آمنًا في أي مكان”.
من شعره (ترجمة: مؤمن الوزان):
طريق لم يُطرق
طريقان تفرّعا في غابة صفراء
ويا أسفي ما استطعت سفرًا فيهما معا؛
فأنا مسافرٌ واحدٌ، وقفتُ طويلا
أتشوَّفُ إلى الأول أبعد ما كان
حتى انثنى في الشجيرات؛
ثم تشوَّفت إلى الآخر بعدلٍ قَدْرَ الإمكان
وفيه ربما أفضلُ استحسان
معشوشبٌ وما سُلِكَ كثيرًا
مع أنَّ المُضيَّ من هنا
قد طرقهما حقًا بالتساوي
وفي ذلك الصباح معًا انبسطا
وسطَ أوراقٍ لم تُسوِّدها أيُّ خُطى
أواه، فقد أبقيتُ الأول لحين آخر
مع إدراكِ كيفَ يجرُّ دربٌ إلى دربٍ
وخامرني شكٌ إن كنت يوما سأعود
سأروي هذا بحسرهْ
ذات يومٍ والعمرُ في نهاية المسرى:
طريقان تفرَّعا في غابة، وأنا
سلكتُ أقلهما سلوكا أنا
وذلك الذي تأتّى عن كل الاختلاف
****
وقفة عند غابة في أمسيّة ثلجيّة
مالكُ هذه الغابة أظنني أعرفُه
رغمَ أنَّ في القرية منزله
لن يراني واقفًا هنا
أراقب غابته يغمرها الثلج
لا بد أنَّ حصاني يظن من الغريب
أن أتوقف ولا بيت مزرعة قريب
بين الغابات والبحيرة المتجمِّدهْ
حلَّت أحلكُ أمسيّة في السنهْ
يهزُّ طقم أجراسه
ليسأل إنّ ثمة خَطب ما
الصوت الآخر الوحيد
صوت الكنس لريحٍ رخيّة وندف زغبيّة
الغابة محبوبة، ومظلمة، وعميقة،
لكن لي وعودٌ لا بد أن أفي بها
وأميال أقطعها قبل أن أنام
وأميال أقطعها قبل أن أنام
****
“الهبةُ صراحةً”
الأرضُ كانت لنا قبل أن نكون هنا.
هي قبل مئات السنين أرضنا
قبل أن نصبحَ شعبها. كانت لنا
في ماساتشوستس، وفيرجينيا،
لكن كنا لإنجلترا، المُستعمِرة،
مالكون لما لم نكُ نملكه،
مهووسون بما لا نملكه الآن.
حُبسنا لشيءٍ جعلنا ضعافًا
حتى اكتشفنا أنه كان نفوسنا
ممنوعون من أرض عيشنا،
وفي الاستسلام حالًا وجدنا خلاصنا.
كما كنا وَهْبنا صراحةً أنفسنا
(كانت مأثرةُ الهبة الكثيرَ من فعائل الحرب)
إلى الأرض المُدركةِ بغموض جهة الغرب،
لكن لا تزال بلا تاريخ، وغريرةً، وغيرَ مُعزَّزة،
وكما كانت، كما كانت ستعود.