ديمتري ليخاتشوف: رسالة في حُبِّ القراءة
ترجمها عن الروسية: عمران أبو عين

يجب على كُلِّ شخص (أوكد – يجبُ) أن يعملَ على تطوير فِكره. فهذه مسؤوليته أمام نفسه والمُجتمع الّذي يعيشُ فيه. الطريقة الرئيسة (لكنّها ليست الطريقة الوحيدة بالطبع) لتطوير الفكر؛ هي القراءة.
لا يجبُ أن تكون القراءة عشوائية. فهي أكبرُ إضاعةٍ للوقت، وللوقت قيمته العظيمة فلا يجب أن يضيع الوقت على التفاهات. لا بُدَّ من اتباع برنامجٍ مُعين، وفي الوقت نفسه لا يجب التقيد بهِ بصرامة، فلا بُدَّ للانحراف عنه قليلاً عند ظهور اهتمامات إضافيّة للقارئ. وعند الابتعاد عن البرنامج الأول، يجب وضع برنامجٍ آخر مع مُراعاة الاهتمامات الّتي قد تظهر.
لجعلِ القراءة مُثمرة، لا بُدَّ من أن تكون مُثيرة للقارئ. ويجب تنمية حُبّ القراءة في النّفس، سواء بالمطالعة عُموماً أو بإحدى فروع الثقافة. رُبَّما إثارةُ القراءة تنعكسُ كثيرا على التعليم الذاتي. وليس من السّهل وَضع برنامجٍ للقراءة بنفسك، لذا عليك مُشاورة أصحاب المعرفة.
تَكمُنُ خطورة القراءة في التّطور (بنحوٍ واعٍ أو غير واعٍ) نحوَ المَيل إلى القراءة القطرية [قراءةُ الأسطر دون تعمُّق] أو غيرها من أساليب القراءة السريعة.
تولّد القراءة السريعة مظهرَ المعرفة، لذا يجبُ الحرص على ألا تتعود عليها، باستثناء حالاتٍ مُعينة.
هل لاحظتَ كيف تتركُ قراءة الأعمال الأدبية تأثيراً عند قراءتها بتأنٍّ ومُتعة، على سبيل المثال في حالات الراحة أو المرض الخفيف غير المُشتت للانتباه. تُعطينا قراءة الأعمال الأدبيّة خبرةً واسعةً وعميقةً في الحياة، لا تجعل الشّخص ذكياً فقط، بل تزرع فيه إحساساً بالفن والجمال، وتجعلُ المرءَ أكثرَ فهمٍ للحياة بكُلِّ تعقيداتها فهي الدّليل على العهود والعصور الأخرى والشعوب المختلفة. تفتحُ أمامك قلوب النّاس، وبكلمةٍ واحدة تجعلُ منك حكيماً. يتحقّق كُلُّ ذلك من خلال القراءة العميقة للأشياء الصغيرة، فغالباً ما تكونُ الأشياء الأهم في التفاصيل الصغيرة. تَحدثُ مثل هذه القراءة عندما تكون مُستمتعاً لا غير، وليس عند الحاجة للقراءة (قراءة المَنهج الدّراسي، أو القراءة بسبب المُوضة أو التباهي) ولكن لأنّك تُحبّ ذلك، شُعورك بأنّ الكاتب أو المُؤلف لديه ما يقولُه لك، ولديه القُدرة على مشاركته معك. فإذا لم تقرأ العمل بتركيزٍ في المَرّة الأولى، أعد قراءته ثانيةً وثالثةً. لا بُدَّ أن يكون للمرءِ أعمالٌ مُفضلة يلجأ إليها، ويعرفُ تفاصيلها، ويذكر الآخرين بها في مواقف مُناسبة، لتحسين حالةٍ مَزاجيّة عند حُدوث موقف (عندما تتراكمُ الخِلافات بين البعض) أو بجعلهم يَضحكون أو ببساطة للتعبير عن موقفك تجاه حدثٍ أو شخصٍ ما.
علَّمني مُدرِّسُ الآدابِ في المدرسة القراءةَ “غيرُ الخاضِعةِ للمَصلحة، المُخلصة الصّادقة”. لقد درستُ في تلك الأعوام الّتي كانَ المُعلِّمون يتغيبون فيها عن إعطاء الدّروس، إمّا لأنّهم كانوا يَحفرون الخنادق حول لينينغراد، وإما كان عليهم العمل والمُساعدة في بعض المصانع وإما كانوا يَمرضون. كان ليونيد فلاديميروفيتش (هذا اسم مُدرِّس الآداب)، غالباً ما يأتي إلى الصّف لغياب المُدرِّس الآخر، يجلسُ عند الطاولة ويُخرج كِتاباً من حقيبته ويبدأ بقراءة شيءٍ ما. كُنا نَعرفُ طريقة قراءته، وكيف يَشرح لنا ما قرأه، كُنا نضحك جميعنا، كان يُعجب بشيءٍ ما أو يَندهشُ من ذوقِ الكاتب ويفرح بما سيأتي. لذا، استمعنا إلى مَقاطع من “الحَرب والسلام” و”ابنة الضابط”، وقصصِ موباسان وملحمة العندليب بوديميروفيتش، وملحمة أُخرى عن دوبرينيا نيكتيتيش وقصة عن الحُزن والمُصيبة، وحكايات كريلوف وغيرها الكثير. إلى اليوم، ما زلتُ أُحبُّ ما كنتُ أستمع إليه في الطُفولة، وفي المنزل كان أبي وأمي يُحبّان القراءة في المساء، كُنا نقرأ لأنفسنا، وتُقرأ لنا بعض المقاطع. قرأنا: ليسكوف، مامين، سيبيرياك، الرّوايات التاريخيّة. كل ما أحبوه كُنا نعجبُ به ونحبه تدريجياً.
تعلّموا القراءة ليس لأجل تقديم الإجابات في المدرسة، وليس لأن الجميع يَقرأ أو لأنّه شيء عصري، تعلّموا القراءة باهتمامٍ وببطء.
لماذا بدأ التلفاز يحلُّ محل الكُتب؟ لأنّ التلفاز يجعلُك تُشاهد البرامج ببطءٍ، والجلوس بهيئة مُريحة فلا يُزعجك شيء، فهو يُلهيك عن هَمِّك ويُملي عليك ما تُشاهده وكيف تشاهده. لكن حاول أن تختارَ كِتاباً على ذوقك، خُذ راحةً من كُلِّ شيء حينا من الوقت، واجلس مع كتابك، عندها ستفهم أنّ لديك العديد من الكتب الّتي لا يُمكنك التخلّي عنها أو العيش من دونها، تلك الكُتب المُثيرة وأكثر أهيمة من تلك البرامج. لا أقول توقفوا عن مُشاهدة التلفاز، لكنّني أقول شاهدوا باختيار، اصرفوا أوقاتكم إلى ما يستحق المُشاهدة حقا، اقرَؤُوا المَزيد، واقرؤوا بخياراتٍ أكبر. حَدِّد اختياراتك بنفسك.
الكلاسيكيات هي الّتي صَمدت أمام الزمن، ومعها لن تضيعوا أوقاتكم. ولكن الكلاسيكيات عاجزة اليوم عن الإجابة عن جميع الأسئلة المُعاصرة، فلا بُدَّ من قراءةِ الآداب الحديثة، لكن لا تقع على كُلِّ كتابٍ عصري “مُوضة”. لا تكن مَغروراً، فالغرورُ يجعل الشّخص مُتهوراً، يجعله يُنفق ويَفقد أكبرَ وأَهمَّ ما فيه.
__
ديمتري سيرجيفتش ليخاتشوف (1906-1999) ولد في مدينة سانت بطرسبرغ، عالِمٌ لغوي وبَاحِثٌ في الأدب الرّوسيّ القَديم. لليخاتشوف كتاب بعنوان “رسائل في الخير والجمال” مجموعة من عشرات الرسائل تحدث فيها الكاتب بشتى الموضوعات. وهذه الرسالة “في حب القراءة” هي الرسالة الثانية والعشرون في الكتاب. ألّف ليخاتشوف كتاب “رسائل في الخير والجمال” ردا على الاستفسارات والأسئلة التي كان يتلقاها. لذا، لربما يبدو أسلوب بعض الرسائل تعليميا وعظيا.