دور الحدس في الترجمة 

كارلوس أندرو


حجم الخط-+=

ترجمة: آيم عمر

بعد ترجمته ما يزيد عن المائتين عنواناً إلى الإسبانية والكتالانية، يختار كارلوس أندرو ترجمته لأعمال جينيفر إيغان للتدليل إلى دور الحدس، ذلك ’الرافد النفيس الذي يمكن أن ينقلب إلى سيف ذي حدّين‘.

أحسب نفسي محظوظاً لأني تصديت في السنوات الأخيرة لترجمة أربعة من كتب جينيفر إيغان إلى اللغة الإسبانية: زيارة من زمرة الأوغاد (A Visit from the Goon Squad)، مدينة الزمرد (Emerald City)، وأخيرا شاطئ مانهاتن (Manhattan Beach). لا متعة يمكن أن تضاهي ترجمة نصوص إيغان. في العادة يكون المترجم في سباق مع الزمن لترجمة أكبر قدر من الصفحات بقدر ما يستطيعه من أمانة، لكنك مع كتب إيغان لن تتحرى بلوغ النهاية لأنك تعرف أن الحنين سينتابك إزاء عملها. بعد أن عكفت على ترجمة مئتي عمل عن الإنجليزية والألمانية إلى الإسبانية والكتالانية، يؤسفني القول بأن تجربة كهذه نادرة الحدوث. إيغان عملة نادرة في الأدب، تحذوها على الدوام رغبة قوية لاستكشاف صيغ جديدة ودمج أصوات وأساليب جديدة. تقول عن تجربتها في كتابة زيارة من زمرة الأوغاد “وددت البُعد عن الفردية. وددت إضفاء البوليفونية (تنوع الأصوات). وددت أن أصوّر المشاعر الشمولية، لا الأخذ بظاهر الأشياء”. إنها كاتب غزير الإنتاج حقا، ففي ظرف عشر سنوات نشرت روايتها القوطية الحديثة، ثم مجلد تجريبي يضم قصصاً قصيرة تُدمغ فيها الشخصيات بالحبكات إلى حد ذوبان الحدود الفاصلة بين الفصل الروائي والقصة القصيرة، ناجماً عنه نوع من الرواية المركبة. ومن جملة أعمالها قصة كتبتها بصيغة الباوربوينت -وهو العمل الذي أسهم في فوزها بجائزة بوليتزر للأعمال الخيالية- ثم أصدرت رواية على تويتر (X)، ثم خرجت عن المألوف برواية تاريخية خالصة تدور في رحى نيويورك زمن الحرب مُطعّمة بالضمير النسوي. يصعّب مثل هذا التقافز الأسلوبي العمل على المترجمين، ذلك أن استشراف نبرة الكاتب وأسلوبه من أولى العقبات التي تواجههم. وتزداد مهمة المترجم صعوبة حين تخرج كاتبةً على الدوام بتوليفة متنوعة من الأعمال من دون قاعدة تستند إليها أعمالها. اتضح لي أيضا أن الكتب ذات الأسلوب العالي “أيسرَ” ترجمة، وجزء من متعة الترجمة كامن في أن النص الأصلي حيويّ بقوّة المنطق السرديّ (تعريف إيغان) على كلا المستويين الجُمَلي والكُلّي. حين يكون العمل الأصلي نابضاً باللغة الحيّة، تخرج الترجمة بانسيابية أخاذة ويتاح للمترجم تكريس جهده على التفاصيل الأخرى ذات الصلة. يعتمد تحديد مستوى الكثافة المطلوبة في ترجمة عمل ما بدرجة كبرى على الحدس، ذلك الرافد النفيس الذي يمكن أن ينقلب إلى سيف ذي حدّين، فالحدس يغلف تجربتك في الأخذ بقرارات واعية بدرجة أقل أو أكبر. إنَّ أدوات المترجم، بالإضافة إلى تآلفه مع النص والموضوع والمؤلف والأسلوب أو الوسيط، ممّهد لإنهاض الحدس مؤديا إلى تسريع الترجمة، وهي نتيجة مرغوبة في معظم الحالات بل لازمة في الأسواق التي تبخس المترجم حقه، كسوق الترجمة الأدبية في إسبانيا (حيث إن كانت الترجمة مصدر عيشك الأوحد فإنك ستحتاج إلى إنتاج ما لا يقل عن عشر صفحات في كل يوم من أيام الأسبوع وكل شهر، على مدى سنوات حتى تتدبر أمرك). لقد استعملت مفردة “إنتاج” هنا، وهي استهانة بحق الجهد المبذول. أبدى بول أوستر جراءة في التصريح حين تحدث عن مدة عمل فيها بالترجمة وهو ما يزال كاتبا طموحاً في باريس “لقد ترجمت نصف دزينة من الكتب مع زوجتي ليديا ديفيس. شكّلت هذه الترجمات مصدر عيشنا الرئيس… ورغم أن مقدار ما نكسبه أخذ يزيد من كتاب لآخر فما زاد أجرنا إلا قرشاً أو قرشين على الحد الأدنى من الأجور. مفتاح الحل إذًا في العمل سراعاً، وأن نجر الترجمات جراً بقدر ما أمكننا من عجالة من دون توقف لنلتقط أنفاسنا”. إنها محنة يعرفها كل من يعمل في ترجمة الآداب في إسبانيا.

للأعمال العظيمة ميزة إنهاض الحدس، إلا أنها يمكن أن تطرح معضلة الثقة المفرطة، حين ينغمس المترجم في عمله بالِتذاذ فإنه يرجح أن يسلم الدفة إلى نزواته، يعميه -في أثناءها- انبهاره بتضاريس كلماته التي تملأ الفقرات والصفحات. فمشكلة الترجمة ذاتية القيادة أنها معطّلة للشك، والمترجم الأدبي كائن تملأه الشكوك بالضرورة، مما يدفعه إلى تكثيف البحث والنظر في الخيارات البديلة غير الحاسمة دائما لجدل عقله. في الحقيقة أن الشك خصلة يشترك فيها المترجمون والكُتّاب المهرة على حد سواء. عندما سُئلت إيغان عن شأن كتابتها لقصتها المُدرجة في الباوربوينت Great Rock and Roll Pauses التي تعد جزءاً من كتاب زيارة من زمرة الأوغاد، أجابت “بدأتُ -كما هي عادتي عندما أكب في موضوع جديد- بالقراءة الموسعة فيه. ولما كنت كتبت في الباوربوينت، فإنني بالطبع لم أدخر جهداً في التنقيب في وثائق الشركات”. على الجانب الآخر، فإن المترجم كاتب السطور لا يكاد يملك رفاهية البحث “المتمهل” حتى يتأكد من موائمة القصة المُترجمة لكل الشروط، وجزء من السبب أنني كنت ملزماً بتقديم نسخة عملية تتألف من ست وسبعين شريحة slides في ظرف ثلاثة أيام. في حالتي هذه، تمحورت شكوكي حول الشكليات، فالترجمات الإسبانية تميل لأن تكون أكثر طولا من نظيراتها الإنجليزية الأصل. هل ستخرج ترجمتي متفقة مع المساحة المفروضة للشرائح؟ هل نحن بحاجة إلى استعمال بنط أصغر؟ هل سيؤثر ذلك في مقروئية النص؟ لا وجود لحل مُرضٍ هنا -فالنص الإسباني ممتد بطبيعته- لكن يمكن للمرء أن يتخذ مقاييس تلطيفية عندما يضع ذلك في الحسبان. ربما أسهم غرابة هذه المعضلة الشكلية في أن يمسك حدسي الزمام جاعلا إياي اتخذ قرارات حصيفة. إليك مثالا تلافيت فيه الشك المبدئي بحل بديهي تمخض عنه لاحقاً شكوكاً عويصة بعدما صدرت الترجمة وطُرح حلّي للمساءلة. ففي عمل إيغان The Keep الصادر في عام 2006، تستحدث الشخصية الرئيسة وأصدقاؤها مفردة worm الدودة العملاقة “دخل في الدودة، مصطلح آخر ابتكره داني وأصدقاؤه منذ سنوات مضت، حين كانوا يدخنون الغليون ويتنشقون سطور الكوكايين ويتساءلون فيما بينهم عن وصف تلك الحالة التي تصيب الناس حين تنفرط ثقتهم فيرتبكون ويتصرفون بسخافة وغرابة”. المكافئ الإسباني المباشر للدودة هو gusano، لكنني حين كنت مكباً على ترجمة النص، أوعز لي حدسي أن الدودة worm تنبئ عن كيان خطير في حين gusano على النقيض من ذلك. يشير التعريف الرابع لـ“worm” في قاموس كولينز “قوى مخاتلة أليمة أو ملتهمة” وهو معنى أراه متناسب تماماً مع الدودة المذكورة في الرواية. إذًا بدلاً من gusano وضعت في ترجمتي anaconda، وهي كلمة كثيرا ما سمعت بعض المعلقين الرياضيين في برشلونة يرددونها لوصف مشاعر الجماهير المتوترة والمترقبة لمباراة حاسمة. وثقت بحدسي أن gusano لن تلائم ترجمتي وبذا أقدمت على المجازفة، وهو أمر ستُجبر على فعله مرات لا تحصى مع أي كتاب. بعد أشهر لاحقة، طرح مُراجع كتب تساؤلا حول هذا القرار بالتحديد، والذي عدّه ’لا سابق له‘. بعد جلسة محاسبة النفس حول حيثيات قراري، تكشّف لي بأنني اتخذته من غير تفكيرٍ مُمَحّص. حتى وإن تفهمت دواعي قراري إزاء ذلك المسخ، فلم أنفك أفكّر في احتمال أن يكون حدسي قد خانني هذه المرة، بإيعازه لي أن الدودة “worm” تغطي حقلا معجمياً أوسع من gusano. هل اشتططت كثيراً في قراري هذا؟ أظهرت لي بحوثي (المتأخرة) أن gusano مشتقة من اللاتينية كوسوس ( وهي بدورها مشتقة من السنسكريتية كوسو، “مخلوق أرضي”)، والدودة “worm” مشتقة من الإنجليزية القديمة wyrm و wurm، وتعني تنيناً أو أفعى. واكتشفت أن برام ستوكر قد ألّف رواية عرين الدودة البيضاء، مستوحاة عن الأسطورة الإنجليزية القديمة “دودة لامبتون” وهي أفعى أو تنين عملاق أرعب سكان لامبتون. علماً بأنه حين تُرجمت رواية ستوكر إلى الإسبانية وُضعت مفردة gusano الموحية بالدودة الصغيرة ضمن العنوان، في حين اختارت العناوين الألمانية والإيطالية للفيلم المستوحى من الرواية مفردة أفعى: Das Schloss der Schlange (قلعة الأفاعي) و La tana del serpente bianco (عرين الأفعى البيضاء). ناهيك عن أن الكتاب الإسباني أدرج على غلافه رسوما تُظهر تنيناً عملاقاً.

إذًا تحويل دودة إلى أفعى ليس بشيءٍ “لا سابق له”. فبعض الحيوانات لها خصيصة تحويل أجناسها في عملية الانتقال اللغوي. خذ مثلا المصطلح الإنجليزي “دودة الكتب” ومرادفه الإسباني rata de biblioteca “فأر المكتبة”. هل أصبح حدسي معولا عليه بعد هذه المكتشفات؟ نعم، إلى حد ما. هل اقتنعت بالكلية إزاء قراري؟ لا، فعادة المترجم أن تصاحبه الشكوك. علاوة على ذلك، في مشهد ختام رواية إيغان ينبثق مجموعة من الناس من تحت الأرض بتمعج شبيه بالديدان. في نهاية المطاف، يجد المترجم نفسه أحيانا محاصراً بالاختيار بين عدة خيارات لن تشفي غليله بالتمام.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى