دفاعًا عن آن برونتي
مؤمن الوزان
ينال بعض الأدباء كتّابَ نثر وشعراءَ حظهم من القبول لدى القرّاء والتاريخ الأدبي الذي يصفُّ النقّادُ المؤلفات فوق رفوفه، لكن في الجهة الأخرى فثمة آخرون يطويهم النسيان دون أن يحظوا بما يستحقون قليلًا أو كثيرًا وتزداد سماؤهم تلبَّدًا بغيوم التجاهل والمجافاة إذا كان في عصرهم من هم أسطع نجمًا منهم فكيف إذا كانت تلك المنافسة مع من نجومهم أقربَ نسبًا وألمعَ بريقًا وأشدَّ توجها، هذا حال آن برونتي. لكن مهلًا هل فعلًا نجم آن أدنى تفجُرًّا وأخبى احتراقًا من أختيها الكبريين إيميلي وشارولت؟ الجواب بوضوح وسرعة ودون أدنى تردد- لا، إلا إنه الحظ العاثر والطالع السيئ الذي رافق الوليدة التي رأت عيناها النور في السابع عشر من شهر كانون الثاني، عام 1820، المتجسد بوفاة والدتها التي أصيبت بعد أسبوعين من ولادة ابنتها الأخيرة بمرض مُهلك، قاست إثره في السنة التالية ولثمانية شهور طويلة عذاباتَ الموت قبل أن توافيها المنية جرَّاء مرضها الخبيث (السرطان في الغالب) في شهر أيلول. واكتمل الطالع السيئ لآن بضعفها الولادي وإصابتها بالربو الذي عانت منه في حياتها وتصف شارلوت حالها فتقول: “بدا عليها أنها تتحضر لموت مُبكِّر”. هكذا ابتدأت فصول حياتها التي لم تتحسن كثيرًا لاحقًا فعانت من نمط حياة خالتها -التي انتقلت إلى منزل زوج أختها المتوفاة- القاسي، المنتمية إلى الطائفة الميثودية البروتستانتية. يبرز أثر هذه الأيام لاحقًا في أشعارها الذاتية والوجدانية التي نظمتها متذكرة ومسترجعة كل آلامها ومعاناتها النفسية حين كانت طفلة. هذه الطفلة الكتوم الوديعة التي لا يبدو عليها سمات القوة والصلابة سواء الجسدية أو السلوكية، ووجدت في الطبيعة المحيطة بها في هاورث، حيث عاشت الأسرة مع الأب الخوري باتريك برونتي في منزل الكاهن أو ما يعرف بالبارسونيج، سلواها وعزاءها فلطَّفت سهول هاورث وبريتها وأشجارها من غلواء حياتها وبيئتها العائلية ومخففةً إياها. تصف وينفريد جيرن في سيرة آن برونتي هذه العلاقة بينها والطبيعة- أنها كانت دربًا لها نحو الله. تُظهر أشعار آن المنظومة في الطبيعة وعنها ذلك الآثر الوجداني العميق الذي خلَّفته الطبيعة فيها فعمَّقت مخيلتها وزادت من تخومها وأخذتها بعيدًا جدًا، وكما تقول آن: نحو أرضنا المحرمة القاصية/ أرضٌ محببةٌ لأقدامنا المتمردة/ حيث الخطر والحرية، كلاهما هناك!
آن التي نشأت نشأة دينية قويمة بل وصارمة كذلك لم تتخلَ عن إيمانها بل بقي إيمانها رفيقًا لها لكنه بعيدٌ عن معتقد والدها الخوري أو خالتها الميثودية، بل هو علاقةٌ خاصةٌ بينها وبين إلاهها، وصفتها ببيان في قصيدتها الأخيرة التي نظمتها قبل أشهر من وفاتها، مخاطبةً إلاهها بوجدانية محترقة وذائبة في نار حبه الأبدي وخائفة من مصيرها المحتوم الذي كان يتجلَّى قُبالتها، وتهاب الظلام الذي يرافقه ويفزعها في حيرة عقلية ونفسية وربما حتى شكٍ مما ينتظرتها فتفتح قصيدتها قائلة: ظلام مفزع يقترب/ من عقلي الحائر/ دعني أعاني ولا آثم/ وأعذَّب بعد الاستسلام.
فأي ظلام كان ذاك الذي يسدل عليها ستائره في بلدة سكاربورو حيث البحر الذي أحبته آن وأحبته شخصيتيها الأنثويتين الخياليتين أغنيس غري وهيلين هنتنغتن، وبقيَ رفيقًا لهذا الثلاثي أو آن مع نظيرتيها، حيث جعلت مشهَد البحر يحتفل مع أغنيس غري التي توافق على الزواج من الخوري ويتسون، ويتسون الذي قد يكون هو ويتمان الرجل الوحيد الذي أحبته آن، وكانت وفاته جرحًا غائرًا في روحها وأثرًا خفيًا في وجدانها، فكتبت عنه قائلة يومَ كان حبها متقدًا في قصيدة لها: لكن يا لروحي التي تشتعل داخلي/ وفؤادي النابض بقوة وسرعة/ لم يقترب -ورحل بعيدًا- وبرحيله بهجتي مضت.
البهجة التي لم تحرم آن أغنيسَ منها، البهجة التي أسدلت أغنيس في سيرتها الروائية الحديث عن ذاتها، تاركة ما لم يتحقق لآن في الحقيقة يتحقق في عالم الخيال.
لم تنشر آن أعمالها الشعرية والروائية باسمها الحقيقي كحال أختيها، ونشرتها باسم أكتون بيل ابتداءً من ديوان الشعر المشترك مع شارلوت “كورير بيل” وإيميلي “إيليس”، وهو ديوان لم يحظَ بالنجاح حتى بعد أن ذاع صيت الأخوات فبقي دون أن يُحتفى به أو بارز تأثير سوى بعض ما نالته إيميلي من اعتراف بعد قرابة قرن على نشر الديوان. ابتسم الحظ لآن بنشر روايتها الأولى مع أختها إيميلي، إذ نشر لها Newby في أواخر عام 1847روايتيهما في ثلاثة مجلدات (اثنان لرواية إيميلي الوحيدة مرتفعات وذرينغ، وواحد لرواية آن الأولى أغنيس غري). أغنيس غري Agnes Grey الرواية التي أحبتها شارلوت ووصفتها بأنها مرآة عقل الكاتبة، وهي سيرة روائية استندت فيها آن على حياتها وعملها مربية وكانت بيانَ دفاعٍ عن المربيات كونهن بشرًا وسلَّطت الضوء على ما يعانينه وقتها من معاملة سيئة وامتهان مُذل وتكتب السيدة أمبيرلي (واحدة من أوائل النسويات الإنجليزيات المطالبات بحق الاقتراع والمدافعة عن حق التحكم بحبل المرأة) في يومياتها: “أقرأ أغنيس غري، وعلى كل عائلة تملك مربية أن تقرأها، وسأقرأها مجددا إذا حظيت بمربية لتذكرني أن أكونَ إنسانًا”*. لم تحمل الرواية كثيرًا على المستوى الفني عكس موضوعها المثير وقتئذ، وأثبت المستوى الفني في التجربة الأولى لآن أنها لم تكن سوى تمهيدٍ لعملها الثاني “نزيلة ويلدفيل هال The Tenant of Wildfell Hall” الذي كان من الجودة والإتقان بمكان أن يحفظ لآن مقامًا لائقًا لم تحظَ به للأسف رغم مرور كل السنوات، وكلُّ ما نالته من اعتراف أقل مما تستحقه كثيرًا. فبعد سنتين من إتمام رواية “أغنيس غري” أكملت آن رواية “نزيلة ويلدفيل هال” ونشرتها في شهر حزيران من عام 1848 قبل أقل من عام من وفاتها وشهدت نجاحًا لها إذ نُشرت في إنجلترا وأمريكا. تعد رواية النزيلة واحدة من بواكير الأعمال الروائية النسوية، فمواضيعها المتنوعة التي تركزت حول شخصية البطلة هيلين منحت زخمًا كبيرًا للعديد من القضايا النسوية في المجتمع الإنجليزي في وقتها، وسلَّطت الضوء على الكثير من المفاهيم مثل عمل المرأة، واستقلالها المادي، والجندر، والعنف الأسري، وترك المرأة لزوجها، والزواج الإجباري، وانعدام ذات وخصوصية الزوجة، وتكريس حياتها لخدمة زوجها وسعادته، إلخ. نُوقِشت هذه المواضيع جليًا في العمل ضمن متن الأحداث الواردة. ولا نحصر مواضيع العمل في الجانب النسوي فقط بل وكذلك ضمت مواضيع أخرى مثل تربية الأولاد والبنات والتفريق بين تربية الاثنين التي كان لهيلين رؤيتها المخالفة لمحيطها في نظامه التربوي المُفرِّق بينهما، وحال المجتمع الفاسق المتهتك وعلاقات أفراده المتضعضعة، والخيانة الزوجية، والعلاقة الزوجية السيئة، والحب، والأمومة. كما يمكن ضم الرواية في أنواع مختلفة من بينها الرواية الاجتماعية، ورواية الأفكار عبر طرحها ونقاشها للأخلاق والدين والفضائل بله عن كونها رواية رسائلية ويوميات.
لم تقل قيمة هيلين الأدبية والفنية ولا الشخصيات الأخرى في الرواية عن شخصيات أختيها في أولى روايتيهما المنشورتين “مرتفعات وذرينغ، وجين إير” بل فاقت هيلين جين شارلوت في تطورها النفسي ونضجها الفكري والسلوكي، ومثَّلت شخصية زوجها هنتنغتن الشر الإنساني الفاسق والمتهتك وبرزت منافسًا لهيثكليف إيميلي في شروره.
ما زالت آن حتى اليوم تنتظر المكانة التي تستحقها، وهي مكانة ليست محاباةً باسم أختيها بل اعترافٌ تستحقه سُلب منها باسم أختيها، وكذلك قد يبرز أثر دور شارلوت المعارض لرواية نزيلة ويلدفيل هال التي قالت عنها إنها غلطة بالكامل- في سطوع نجم هيلين التي قد تكون خشيت أن يخطف الأضواء من جين، وهي الأخرى شخصية روائية لا يمكن التغافل عنها أو المرور مرور الكرام لكن ليس على حساب هيلين آن التي كانت صوتًا صادحًا للمرأة وروحًا أصيلة بأخلاقها وسلوكياتها ووقوفها الراسخ ضد أساليب التربية والتحيّز النوعي تجاه الأنثى. ومكتبتنا العربية هي الأخرى تفتقر إلى حضور روايتي آن برونتي، وننتظر من يتكفّل بنقلهما إلى العربية نقلًا موازيًا لقيمة هذين العملين أدبيًا وإنسانيًا، ولتزدانَ سماء آل برونتي بالكامل فهي من دون آن ستبقى ناقصة لا تكتمل.
* Introduction of Agnes Grey – Wordsworth Editions.