خمس قصائد إميلي برونتي 

ترجمة: مؤمن الوزان 


حجم الخط-+=

إميلي برونتي روائية إنجليزية وشاعرة (1818-1848) اشتهرت بروايتها وذرينغ هايتس غير أنّ لها عشرات القصائد التي ضمنت لها مكانا في ديوان الشعراء الإنجليز في القرن التاسع عشر. وهنا ترجمة خمس قصائد مختارة لها. 

السجينة 

لا دثار لي هذا دأبُ الظالمين معي، 

سنةٌ تلوَ أخرى في الدُّجى واليأسِ العقيم؛

يتنزَّلُ عليَّ كلَّ ليلةٍ بشيرُ الأمل،

يعرضُ حياةً قصيرةً وانعتاقًا أبديًّا.

يُقبل مع الريحِ الغربيّة وهواءِ المساء الطوّاف،

مع الغسقِ النقي لسماءٍ تزخرُ بالنجومِ:

للريحِ نغمُ تأمُّلٍ، وللنجمِ نورٌ في وهن، 

تبزغُ الرؤى وتتبدَّلُ، وتقتلُ فيَّ الأمينةَ. 

ما أدركتُ كنهَ أمنيةٍ في سنيّ البلوغ،

ساعةَ يغضبُ الجذلُ بهلعٍ، ويحسِبُ دموعَ المستقبل: 

ساعةَ أجهلُ مقدمَ شَرارِ الدفء مالئا سماءَ روحي؛

أمن الشمسِ أقبلَ أو مِن عاصفةِ البروق.   

يسبقُ تنزُّله صمتُ سلامٍ، وهدوءُ سكوتٍ 

وينتهي صراعُ القلقِ، والجزعُ العنيف. 

تمسحُ صدري موسيقا خرساءُ، ومناغمة بكماء

ما وسعني تُخيُّلها قطُّ، حتى أفقدَ من الأرض مكاني. 

فجرٌ غير مرئي، ويكشفُ المجهولُ حقيقتَه 

يتلاشى إحساسي بخارجي، وأشعرُ بوجودٍ داخلي

جناحاه طليقانِ، عثرَ على منزلهِ ومينائه

جالَ في الخليجِ، ثم انحدر، واجتازَ التُخُمَ الأخير. 

ما أفظعَ الاختيار، يُفاقمُ الكَرْبَ- 

حين تبدأ الأذنُ بالسَّماع، والعينُ بالإبصار 

والقلبُ بالخفقانِ، والدماغُ بالتفكير-

واستشعرَ الروحُ الجسدَ؛ استشعرَ الجسدُ القيد. 

ما فقدتُ لَسَاعتِه، وما تمنيَّتُ عذابًا أهونَ؛

كلما اشتدَّ البلاءُ أبكرَ ببركاته؛

أكوّنته نيرانُ السعير أو نورُ إشراق فردوسيّ، 

لو أنَّه نذيرُ الموت فالرؤيا حينئذ سماويّة. 

*

الفيلسوف

أيها الفيلسوف كفى فِكرًا

سلختَ الزمانَ حالمًا

ما استنرتَ في ذي الحجرة الموحشةِ 

وشمسُ الصيفِ من حولكَ مشرقةٌ! 

روحٌ تجوبُ الفضاء، فيا له من انكفاء حزين

أوتراكَ تستنبطُ تأملاتكَ من جديد؟ 

“آه، حين يأتي زمنُ أهجعُ فيه، 

بلا هُويَّة، 

غيرَ مكترثٍ بنزولِ المطر، 

ولا بالثلجِ يكسو جسدي. 

ليست الجنَّةُ الموعودةُ موجودةً، 

ولا الأمنياتُ الجامحةُ، 

لا كلُّها ولا حتى نصفها. 

وما الجحيمُ المتوعِّدةُ بألسنةِ اللهبِ 

بقادرةٍ على كبحِ إرادتي الحرون”. 

“هذا ما قلتُه، وسأقوله أبدا؛

سأبقى أقول حتى موتي: 

ثلاثة آلهة في ذا الشكلِ الصغير، 

يُحاربون في الليل والنهار، 

ما للسماء من سعةٍ لضمِّهم، 

لكنَّهم موجودون في داخلي، 

وحتى أنسى -سيبقون فيَّ- 

كينونتِيَّ الآنيّة! 

حتى ذاكَ الأجل- في أحنائي

سينتهي صِدامُهم. 

حتى ذاك الوقت، حين سأرتاحُ

ولا أعاني أبدًا”. 

“أبصرتُ قائمًا روحَ إنسانٍ 

قبلَ ساعةٍ حيثُ أنتَ قائمٌ الآن، 

انبجستْ من تحت قدميه ثلاثةُ أنهرٍ، 

غَورهما واحدٌ، والجريانُ مُتَفِقٌ، 

نهرٌ ذهبيٌّ، وآخرُ مثلُ الدمِ، 

وثالثهما كالياقوتِ بدا ليْ، 

جرتْ وتشكَّل تيَّارٌ ثلاثيْ، 

انحدرَ إلى بحرٍ حبريْ.

حدَّقَ الروحُ تحديقةً برَّاقة-

إلى دُجى البحرِ الكئيب، 

وأنارتْ كُلُّها بوهجٍ باغت، 

تلألأ الغورُ البهيجُ باتِّساعٍ وبريق، 

أبيضَ كالشمس، وأجمل بكثير وكثير- 

من منابعِه ذات الفرقة والتقسيم”. 

“لأجَّلِ ذيَّاك الروحِ الشاهدِ، 

أبصرتُ عمري، وبحثتُ عنه مديدا

بحثتُ في الجنانِ والجحيم والفضاء، 

سعيتُ بلا انتهاء، وما نلتُ إلا الخواء.   

أتُراني بَصرتُ عينه المجيدة لا غير

أضاءتْ سحابًا أضلَّني السبيل، 

ما صحتُ قطُّ صيحةً جبانة-

لأتوقفَ عن التفكير وعن الوجود، 

ما سَّميتُ النسيانَ نعمةً، 

ولا مددتُ إلى الموت يدين راغبتين، 

مناشدًا تغييرًا لراحةٍ بلا إحساس، 

أيها الروحُ الحاسُّ، أيها النَّفسُ الحيُّ، 

اتركاني أموت، ولعلَّ من انقضاء- 

للخصام القاسي بين القوَّةِ والإرادةِ؛   

المغزوُّ بخير، والغازي عليل،

وأضيعُ في هجوعٍ وحيد”.

الحب والصداقة 

الحبُّ مثل وردةٍ بريّةٍ في البراحِ 

الصداقةُ مثل شجرة الهولي1

تَسوَّدُ الهولي حين تُزهر الوردةُ 

لكن أيهما سيكون إزهارُه أدوم؟

حلوةٌ هي الوردة البريّة في الربيع، 

ويفوحُ أريجها في هواء الصيفِ 

لكن مهلًا حتى يُقبلَ الشتاءُ 

من ذا يرى الوردة البريّة فاتنة؟ 

اهزإِ الآن بالوردة البريّة التافهة،

وزيّن نفسكَ ببريقِ الهولي، 

فإذا ما أفسدَ كانونُ الأول طلَّتَك، 

خلَّفَ أكاليكَ مُخضرَّةً.  

1- شجرة دائمة الخضرة

*

نسيم الليل 

في ليلٍ صيفيّ رقيق 

أشرقَ قمرٌ دفيءٌ 

داخلًا نافذة حجرتنا المُشرعة، 

وأشجارُ الوردِ مُخضلَّة بالندى. 

أقعدُ في تأملٍ صامتٍ، 

والنسيمُ العذبُ يداعبُ شعري،

يقول لي إنَّ السماءَ مجيدةٌ، 

والأرضَ الهاجعةَ بهيّةٌ.  

ما أنا بحاجةٍ لنفثهِ، 

ولا أن يوحي لي بفكرِه، 

لكنه يبقى هامسًا في اتئادٍ 

“ما أعتمَ ما ستكونه الغابةُ!”  

والأوراقُ الثخينةُ في همهمتي

لها حفيفٌ كأنه حُلمٌ 

وكأنَّ كلَّ أصواتِها الوفيرةِ

فطريَّةٌ في روحي.

قلتُ ’اذهبْ أيها المنشدُ الوديع،

صوُتُكَ الودودُ بهيجٌ، 

لكن إياكَ أن تحسبَ لموسيقاك

سلطانًا يمتدُّ على عقلي‘. 

’داعبِ الوردةَ العَطِرَةَ، 

وغصنَ الشجرة القويَّ الفتيَّ، 

دعْ عنكَ مشاعري البشريّة 

تتدفقُ في مجراها‘. 

ما اكترثَ الطوَّافُ بي، 

ما زال يُدفئُ قُبْلتَه لي: 

نفحَ بوداعةٍ ’باللهِ عليكِ!

سأفوزُ بكِ رغمًا عنكِ‘

’أما كنا صَحبًا منذ الصبا؟

ألم أحببِكِ إلى الأبدِ؟

سأبقى ما دام الليل الرزين، 

يوقظُ بالصمتِ نشيدي.

’حين يرقدُ قلبُكِ مُرتاحًا

تحتَ صخرِ مجازِ الكنيسة،

سأُمْنحَ زمنًا للنواحِ عليكِ، 

يا مَن ستكونين وَحْدَكِ‘.    

*

ليس لي روحٌ جبانة1

ليس لي روحٌ جبانة، 

ولا ارتعاشٌ في مدى رياحِ الدنيا الهوجاء:

إني أرى شروقَ أمجاد السماء، 

وسطوعَ الإيمانِ سواء؛ يُسلِّحاني في وجه الخوف.

يا إلهًا كامنًا في صدري

يا عظيمًا يا دائمَ الوجود، 

هجعتْ في داخلي الحياةُ 

وقوَّتي فيك حين تُحتضرُ الحياة.

آلافُ العقائد هباء،

وما تخفقُ به قلوبُ الناس له كُلُّ الخواء، 

لا خيرَ فيها كعشبٍ ذابل، 

أو زبدٍ يذهبُ جفاء في خضمِّ بحرٍ بلا ساحلٍ.

أن تُوقظَ الشكَّ في واحدةٍ،

متشبِّثًا على عجلٍ بأبديَّتِك، 

راسيًا بيقين غير زَحزاحٍ 

على صخرةِ الخلودِ الراسخة.  

بالحبِّ المُحتضنِ الرحيب

تُحيي روحُكَ سنينَ أبديّة،  

تتغلغلُ وفي العلا تتأملُ، 

وتُبدلُّ، وتؤازرُ، وتُبدَّدُ، وتخلُقُ، وتُنشئُ. 

لإن اختفى الأراضي والإنسان، 

وتلاشتِ الشموس والأكوان،

وخُلِّفتَ وحدكَ في الوجودِ، 

فكونُكَ في داخلكِ موجود.  

ليس للموت هنالكَ مكان،

وما من ذرةٍ تفسحُ له المجال،

أنتَ أنتَ من يكون ويتنفَّسُ، 

وأنتَ الذي لست بهالكٍ أبدًا. 

1-قصيدتها الأخيرة

 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى