خمسون تنكرًا: مختارات من كتاب في مواجهة الموت

بيتر فيلكنز


حجم الخط-+=

ترجمة: محمد بدر

كتاب في مواجهة الموت (Das Buch gegen den Tod) مشروع عُمر لم يستطع إلياس كانيتي الانتهاء منه قط. ابتدأ في سنة 1937 بتدوين ملاحظات عن المعنى، والطبيعة، وتبعات الموت، واستمرَّ في التدوين حتى سنة 1994 حين توفي. كان دافع كانيتي في كتابه هذا رغبته العارمة في قهر الموت، وليس بمقدوره الظفر بالمعركة إلا إذا استمر في الحياة والكتابة. ما استطاع قطّ تدوين جملة افتتاحية أكيدة لمجموعته، ولا الخلوص إلى سلكٍ ينظم فيه كتابه. وبدلا من ذلك كان محثوثا على الكتابة يوميا والعيش، مالئا دفترا تلو آخر بملاحظات وحكم وعبرٍ عملَ عليها كلَّ صباح. ملاحظات كانيتي ليست بالمتجهّمة ولا الكئيبة، لكنها ساخرة، ومتغيّرة، وواجمة، وملغَّزة، ومتّقدة، وضخّ فيها لهيبَ رجلٍ يكتبُ من أجل الحياة في مواجهة الموت في زمانٍ ومكانٍ مُلئا بهذا الشاغل. ظهرت مختارات من حكمه وأقواله فيما مضى بالألمانية، لكن لم تظهر تأملاته عن الموت كاملة حتى نشرها كارل هانسر فيرلاغ أول مرة في سنة 2014، وظهرت مختارات منها بالإنجليزية في سنة 2024 بتحرير جوشا كوهين. 

يكمن في كلِّ قول أمارةُ الكُلّيّة، وفي الكُلّيّة يُبصرُ نسيجُ العقل يتراصُّ وينفلُّ في فكرٍ ثابت. تتدفّق الأقوال من الصغر إلى الكبر الباهر كالألعاب النارية، مضيئة في جنح الظلام بانفجارها ومانحةً نبضةً واصلة. 

1942

– ما عاد من مقياس يُقاسُ به أيّ شيء حين لم يعد مقياس الحياة البشرية هو المقياس. 

– قررت اليوم أن أسجل أفكارا في مواجهة الموت كما تحدث لي، دون أي نوع من الهيكلة ولا إخضاعها لأي خطة قهريّة. لا يمكنني أن أدع هذه الحرب تمر دون أن أخرج سلاحا في قلبي ينتصر على الموت. سيكون متعرجًا وغدرًا، مناسبًا تمامًا للمهمة. في أوقات أفضل كنت أمارسها على أنها مزحة أو تهديد وقح. أفكر في فعل قتل الموت على أنه حفلة تنكرية. توظيف خمسين تنكرا والعديد من المؤامرات هو كيف أفعل ذلك.

1943

– تكره الحريةُ الموتَ أكثر من أي شيء آخر، ويأتي الحب في المرتبة الثانية. 

1944

– ليس مخزيًا، وليس منغمسًا في الذات، بل هو صحيح وجيد ومعقول أننا الآن ممتلئون بشيء أكثر من فكرة الخلود. ألا يرى أحد الأشخاص الذين يُشحنون في حمولة القطار حتى وفاتهم؟ ألا يضحكون ويمزحون ويتبجحون من أجل دعم شجاعتهم الزائفة؟ ثم عشرون، ثلاثون، مائة، العديد من الطائرات تطير فوقك، محملة بالقنابل، كل ربع ساعة، كل دقيقتين، ثم تراها بفرح تعود، تتلألأ في الشمس مثل الزهور، مثل الأسماك، بعد أن سوت مدنا بأكملها بالأرض. 

1946

– لاختراع تاريخ جديد، تاريخ جديد تمامًا، تاريخ لم يسبق له مثيل من قبل. كل من يستطيع أن يفعل ذلك سيكون قد عاش، ويجب ألا يلوم نفسه بعد الآن على موته.

– الموت في نظر البعض مثل البحر، وفي نظر آخرين صلبٌ كالصخرة.

– يقال إن الموت لكثير من الناس هو إطلاق سراح، ونادرًا ما يوجد شخص لم يرغب في ذلك في وقت ما. إنه الرمز النهائي للفشل، من يفشل على نطاق واسع يعزي نفسه بالتفكير في أنه من الممكن أن يفشل أكثر، ويصل إلى تلك العباءة السوداء الوحشية التي تغطينا جميعا بالتساوي. 

– يجعلنا قصر الحياة نسيء التصرف. يبقى الآن أن نرى ما إذا كان طول الحياة لا يجعلنا نسيء التصرف أيضًا. 

1947

– أحب أن أدرس الوجوه في النعيم، وإلا فلن أعرف أي سبب للرغبة في أن أكون هناك. الوجوه في الجحيم أعرفها جيدا بالفعل لأنني أرتديها جميعا في أوقات مختلفة.

– إن الساعات التي يكون فيها المرء بمفرده هي التي تعلّم الفرق بين الموت والحياة.

– إن حروف الأبجدية لا تزال تعني شيئا، وإنه لا يزال لها شكلها ووزنها والقدرة على إظهار شيء ما في هذا المشهد المدمر للإيمان المملوء بالأجساد، لا تزال علامات لا تتفكك مثل الحياة نفسها؛ لم تختفِ بسبب العار، وكل جملة جيدة تُجبر على تأليفها لا تزال تنطوي على احتمالات، لا يعلق امرؤ بريء في اللحظة التي يشطب فيها من هذه الصفحة – أو أترى هذه الحروف ملعونة أكثرَ منا وما من دليل بين يدينا على ذلك؟

1949

– الفكرة التي تعذبه هي أنه قد يموت الجميع بعد فوات الأوان، وأن موتنا يعني الموت حقا عندما يتأخر لا غير، وأن كل واحد ستتاح له الفرصة للعيش إذا مات في اللحظة المناسبة، على الرغم من أن لا أحد يعرف متى قد يكون ذلك. 

1953   

– فراغ مطعم كان ممتلئا للتو. الأطفال الذين اختفوا، والأصوات التي أسكتت. قوة الساعة المفاجئة. النادلتان اللتان تؤكدان سلطتهما الآن؛ لا أحد يطلب شيئا آخر لذا استولوا على المكان. كل إفراغ من هذا النوع هو مؤثر وحزين في ذات الوقت، كما لو كان المرء في مكان لم يصل إليه الموت، وكما لو كان قد أُخذ الجميع بالفعل.

1955

– نشعر أحيانا بالحزن الشديد حتى نشعر كأننا متنا، ونعلم أنه لا يمكن أن يكون هناك سبب على الإطلاق لحدوث ذلك.

1956

– إن نعيم الانسحاب ببساطة إلى الآخرة، وهو أمر تتغذى عليه الأديان التقليدية، ما عاد يمكن أن يكون نعيمنا.

– الما وراء هو فينا. إدراكٌ خطِرٌ، لكنه محاصر في داخلنا. هذا هو الشق العظيم الذي لا يمكن إصلاحه للإنسان الحديث، لأن في داخلنا أيضا مقبرة جماعية لجميع المخلوقات.

1962 

– مع كل ساعة تقضيها بمفردك، مع كل جملة تصوغها، تستعيد جزءا من حياتك. 

1965 

– لا تزال السيارة بحاجة إلى اختراع يكون فيه المرء محميا من كل خطر. لا تموت إلا عندما تخرج منه. سيارات آمنة ومأمونة تماما يدخلها الناس ليشعروا بالخلود وهلة من  الوقت.

– أقلامي هي مركبات أكثر أمانا. ما دمت أكتب أشعر (بالتأكيد) بالأمان. ربما هذا هو السبب الوحيد الذي يجعلني أكتب. لا يهم ما أكتبه. أنا ببساطة لا يجب أن أتوقف. 

– ربما يكون ما كتبه الناقد صحيحا، أي إنني وجدت ضالتي في تأليف “ملاحظات” موجزة. إذا كان هذا صحيحا، فأنا لست كاتبا ويمكنني شنق نفسي. 

1966

– الألم الناجم من محاولة الوصول الجديّة إلى النجوم أنها ليست النجوم نفسها التي سعينا إليها. 

– مغطاة بجذام الموت الآن، تعطي ضوءا مختلفًا.

– يجب أن تكون هناك محكمة يمكن أن تعفينا من الموت، إذا أجبنا عن جميع أسئلتها بصدق.

1968

– أنا ممتلئ جدا بموتي، ولا يمكن لأي شخص آخر أن يموت، لأنه لم يعد هناك مكان.

1973

– ماذا سيحدث لصور الموتى التي تحملها في عينيك؟ كيف ستترك هؤلاء وراءك؟ 

– يمكن للشخص من خلال جمله المتناثرة والمتناقضة أن يحافظ على نفسه، ويصبح شيئا تماما دون أن يفقد أهم شيء، ويكرر نفسه، ويتنفس، ويختبر إيماءاته، ويشكل لهجته، ويتدرب على ارتداء أقنعة مختلفة، ويخشى حقائقه، وينفخ أكاذيبه في الحقائق، ويتجنب الموت، ويجدد شبابه، ويختفي. 

1977

– أن تجرّب موت الحيوان لكن في جسد حيوان. 

1978

– ماذا سيحدث لكل ما تراكم بداخلك، الكثير، الكثير، مخزون هائل من الذكريات والعادات، والأسئلة المؤجلة، والإجابات المجمدة، والأفكار، والعواطف، والمشاعر الرقيقة، والمصاعب، كل شيء هناك، كل شيء هناك، ماذا سيحدث لكل هذا حين تنطفئ الحياة بداخلك؟ الحجم غير المتناسب لهذه الكومة- وكل ذلك من أجل لا شيء؟

– لحمل القلب من الخريف إلى الخريف حتى يغرق مع أوراقه المتساقطة.

1979

– أن تكتب بلا بوصلة. كانت الإبرة بداخلي تشير دائما إلى الشمال المغناطيسي: النهاية. 

1982

– تولّد أرواح الموتى الرياح عندما يغادرون أجسادهم. هذه الرياح قوية فريدة بين حالات الانتحار. لا بد أن شخصا ما شنق نفسه في الغابة، كما نقول عندما ترتفع رياح مفاجئة.

– وجدتُ نفسي اليوم مرة أخرى على متن تيتانيك وأدركت ما عزفته الفرقة في أثناء غرقها.

1987

– لقد نسي الموتى، وكانوا أحياء مرةً أخرى.

1989

– لم تتغير قناعاتك على الإطلاق. لكن كيف ستبررها؟ إن رفضك للموت ليس أكثر سخافة من الإيمان بالقيامة الذي طرحته المسيحية منذ ألفي عام. الفرق هو أن رفضك لم يجد أي شكل. كيف يمكنك التعايش معها حين يموت الناس في الواقع باستمرار؟ ماذا يقول كاره الموت عندما يستسلم الضحايا من حوله؟ لا يستطيع تجاهلهم، لأنهم يرمون الموت في وجهه. إنه مفتون بالموت أكثر من الآخرين. إنه يغذي كراهيته بتجربة الموت المستمرة. تصبح المواجهة معها موضوعه الوحيد، ثابت وجوده. ماذا يمكن أن يقول، كيف يمكنه الحفاظ على حزم قناعاته عندما ينظر إلى ما لا نهاية ويرى كيف تُهزم؟

– يرى أنه مجبر على مشاهدة جريمة ترتكب باستمرار، ويراقبها بغضب مرارًا وتكرارًا، غير قادر على إيقافها. هذا يؤدي إلى خطر أن يصبح معتادا على هذه الجريمة. يجد نفسه في حرب بلا نهاية. أي نتيجة سلمية مشبوهة في نظره، ولا تسوقه إلا إلى الاعتراف بالهزيمة. ولكن بما أنه يقاتل بمفرده تماما، فهو وحده يتحمل المسؤولية. اُعترف بالوفاة- واعترف بجميع الوفيات.

– في عالم مملوء بأدوات الموت وإدارته، سيقف شخص واحد وحده في وجهه، لذا يؤخذ على محمل الجد. ابتسامات مرتبكة في كل مكان. سيرى الأحمقُ قريبا. عندما يحين دوره، ستكون هذه نهاية عناده.

1990

– يصغرُ المرء حين يرخي جماحه، الصيد ما يجعله يكبر.   

1991

– عندما يقول إنه لا يؤمن بأي شيء سوى التحول، فهذا يعني أنه لا يعمل أي شيء آخر سوى تحيّن فرصة الهروب، وهو يعلم جيدا أنه لم ينجُ بعد من الموت، لكن شخصا آخر سيفعل ذلك، يوما ما شخص آخر.

– بعد المطر خرج بحثا عن القواقع. تحدث إليها، لم تتسلل بعيدا عنه. أمسكها في يده، وراقبها، ووضعها على الجانب حيث لا يمكن لأي طائر رؤيتهم.

– عندما توفي تجمعت جميع القواقع من الحي معا لتشكيل موكب جنازته.

– يفقد ببطء، واحدًا تلو الآخر، حروفَ الأبجدية. أيُّما يبقى؟ الذي يُجَمْجَمُ؟ ما آخر حرف يُجمجمه؟

– ينتزعُ الناسَ من تأملاته، حيث يحملهم باستمرار. في جميع الأوقات لديه هؤلاء الناس بداخله. يمكنه أن يملأ مدينة معهم. اختار الاحتفاظ بها في زنزانات ذاكرته. في بعض الأحيان يود أن يرى أحدهم، لذلك ينتزعه ويطبخه مثل السمكة.

1994

– لقد حان الوقت لترتيب الأمور مرة أخرى في نفسي. بدون كتابة أنا لا شيء. أشعر كيف تذوب حياتي في تكهنات ميتة ومملة عندما لا أكتب عما يدور في ذهني. سأحاول تغيير ذلك.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى