حَيّ بن يقظان لابن طفيل
مؤمن الوزان
إن شخصية حيّ بن يقظان من الشخصيات الخيالية العربية الأولى التي كان لها صيتها وأثرها في النثر القصصي والتخيلي العربي والعالمي. فأول ظهور لهذه الشخصية مدوَّنٌ في رسالة ابن سينا المتوفَّى في عام 1037 م، هذا الظهور الذي كان فلسفيا ضاربا في الفلسفة والتصوف لم يتبيّن كنهه حتى شرحه ابن سينا لطلابه. يبتدئ رسالته بلقاء الشيخ حي بن يقظان للسارد فيحدث الشيخُ السائلَ عن ترحاله وسفره بين البلاد. يمثل الشيخُ حي بن يقظان في الرسالة وما مر به في جولانه في الأرض العقلَ وصراعه مع الشهوات ورغبات النفس، وغاية ابن سينا من رسالته تتمحور في مبدأين اثنين يذكرهما الشرّاح: الأول هو إيمانه بالمعرفة الإشراقية وقدرة العقل وحده الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، والآخر هو النظرية الصوفية التي قال بها وهي إن العقل إذا سيطر على الشهوات تمكّن من الإحاطة بالعلوم وعرف ما وراء الطبيعة، الأمر الذي قاده إلى كثير من المنكرات كإنكار الوحي، وإمكانية وجود أنبياء بعد النبي، كون النبوة يمكن أن يصلها الإنسان عن طريق المجاهدة الروحية.
عرض ابن سينا رسالته بأسلوب نثري في قالب قصصي مبسط ولغوي متقعر اضطر أن يفسره بنفسه كما أشرنا.
أما الظهور الثاني لشخصية حي بن يقظان فكان للفيلسوف ابن طفيل الأندلسي المتوفى في عام 1185، وشخصية حي بن يقظان لابن طفيل هي الأشهر، وله السبق في إثرائها أدبيا.
يسرد ابن الطفيل قصة حيّ بن يقظان كيف ترعرع وحيدا في جزيرة معزولة وأرضعته الظبية حتى اشتد عوده، ويُختلف في أصل خلقه على قصتين: الأولى مفادها أنه ابن اخت ملك تزوجت سرا وبعد الولادة وضعته في صندوق وأرسلته في اليم (محاكاة قصة موسى وأمه عليهما السلام) حتى وصل إلى الجزيرة وأخذته ظبية فقدت وليدها، والثاني ولادته في طين خاثر، توفرت فيه أسباب الخلق من مواد وظروف مناسبة حتى تكون وبعث الله فيه الروح (إشارة وإن كانت غير واضحة ولا مقصودة حول بدايات الخلق الذي يؤمن بها التطوريون).
يبدأ بعدها حي بن يقظان بالتعرف على المكان الذي يعيش فيه، ويتجول في هذه الجزيرة، ليكتسب المعرفة تدريجيا تارة بالمراقبة عبر الحواس وتارة بالتفكير، ليصل في النهاية إلى ينابيع المعرفة، وإلى المقام الأعلى الإلهي الشريف، بعد أن يهتدي إلى أن الكون لا بد له من موجد دائم الوجود.
هنا يطرح ابن طفيل فلسفته التي تقول بقدرة الإنسان على كسب المعرفة لو ترك وحده وهذا ما يشبه كثيرا ما جاء به ديكارت بعد قرون وفلسفته العقلية التي تنص على أن المعرفة موجودة في جميع العقول، وكامنة في ذات العقل، وأن العقل ينالها من داخله لا خارجه، ورد عليه من رد مخالف إياه في هذا. ويطرح ابن طفيل فيها كذلك مذهبه الصوفي، وقدرة الناسك المنقطع لعبادة الله على تحقيق السياحة الروحانية في الملكوت الأعلى، وتمثل هذه المرحلة ختام التعبد والمعرفة الذاتية التي يمكن للمرء أن يصلها وحده. يلتقي بعدها حي بن يقظان بمسافر يأتي إلى الجزيرة هو أبسال الذي يتعرف على حي بن يقظان ثم يحاوره فيجده لا يتكلم أي لغة، ليعلمه لسانه، فيخبره حي بن يقظان بقصته، ويعودان بعدها إلى جزيرة أبسال وملكها سلامان.
ينكر حي بن يقظان حال القوم في هذه الجزيرة، فيدعوهم إلى ما وصل له من عبادات وسلوكيات روحانية، ويرفض جمعهم المال وسعيهم خلف الحياة، وأكلهم الطعام فوق حاجتهم وما يسد رمقهم ويعينهم على عبادة الله، ويتعجب كيف لنبي هذه الأمة لم يأمرهم بهذا، فيجد منهم صدا وإعراضا، فلما يئس منهم، يرجع إلى جزيرته مع أبسال، ويعبدان الله حتى يأتيهما اليقين.
هذه الخلاصة قصة حي بن يقظان عند ابن طفيل، وهي قصة معرفية تطرح قضايا فلسفية وصوفية كالتعلم الذاتي، والهدي الإلهي الموصل إلى حقيقة وجود رب الكون، وفي أساس ذاتها صحيح كما أشار النبي (عليه الصلاة والسلام) أن كل مولود يولد على الفطرة، ويزيد عليها ابن طفيل صوفياته حول التواصل مع الله مباشرة، والوصول إلى الملكوت الأعلى، وهذا ما ينافي الدين الحنيف ومنهاج الأنبياء في العبادة. ونرى أن حيّ بن يقظان حين قابل أهل جزيرة أبسلان أنكر عليهم انشغالهم بالحياة، وهو إنكار يحمل الصواب في ذاته لو كان إنكارا الواعظ لخيرهم دون أن يسلبهم ما منحه الله له وأمرهم به من كسب العيش والعمل والسعي في عمارة الأرض، لكنه يريد منهم أن يعتزلوا للعبادة ولا يقومون بأي نشاط إنساني كالأكل والشرب والعمل إلا فيما يعينهم على العبادة بمقدار محدود جدا، وكذلك يرفض جمعهم المال، وينكر قيمة الزكاة لأن الناس لو عرفوا التعبد الحقيقي لما جمعوا المال ولا أدوا الزكاة، وهذا ما نخالفه ونرده على هؤلاء لأنه ليس منهاج أنبياء الله (عليهم أفضل الصلاة والسلام) الذين عبدوا الله خير عبادة ودعوا إليه خير دعوة.
يقص ابن طفيل القصة بخطاب مباشر إلى القارئ أو المستمع بأسلوب الراوي العليم وسرد ضمير الشخص الثالث، إلا أن في كثير من مراحل التطور المعرفي لحي بن يقظان فإن شخصيته تغيب ولا يتبقى منها سوى ضمير الغائب الذي يستخدمه الراوي العليم في سرده ليتحول حي بن يقظان من شخصية مركزية إلى فضاء أثيري يتحدث فيه الراوي عن نفسه بضمير الغائب، وهذا ما يوضح سبب كتابة القصة التي هي مجرد قالب لأفكار ومذهب ابن طفيل التي أخرجته في كثير من أجزاء القصة عن القالب القصصي إلى سرد فلسفي وهذيان صوفي، يختلط في السرد القصصي والنثر الفلسفي المعبر عن أفكار الكاتب لا تجربة حيّ بن يقظان، وهذا ما أعيبه على القصة.
تبرز التتابعية والتسلسل في بناء القصة على المراحل المختلفة التي مرَّ بها حيّ وكان لها أثرها في تكوينه ابتداءً من قصة خلقه، إلى اكتشاف العالم ومحاولته ستر عوراته كما يستر الشعر أو الذيل أو الريش الحيوانات الأخرى، إلى موت الظبية ومحاولته معرفة سبب موتها، تقليده الغراب في دفن المخلوقات التي تموت، إلى رؤيته النار، إلى اكتشافه الشواء صدفة ثم تعلمه الصيد، إلى بحثه عن مادة الحياة بعد تشريح بعض الوحوش وظنه معرفة سبب الحياة الكامن في القلب، ثم معرفته البناء، وتدجين الحيوانات واستخدام بعضها في الصيد، ثم التفكر في البيئة المحيطة به والنظر إلى السماء، إلى البحث عن الخالق، ثم تعبده وصوله إلى مرحلة التي بإمكانه السياحة في الملكوت الأعلى، ثم لقائه أبسال والذهاب معه إلى جزيرته، ختاما بالعودة إلى جزيرته مع أبسال، وعبادتهم الله حتى الموت.
البناء القصصي واضح، والحبكة في البنية جلية، وما يعاب عليها إضافة إلى غياب الشخصية والسرد الذي كان سرد الكاتب أكثر من كونه سرد الشخصية، هو إن ابن طفيل حين يكتب عن المعرفة العقلية لحي بن يقظان واستكشافاته للعالم المحيط به والمملوء بالمخلوقات المختلفة والخلق الرباني العظيم، فهو يسميها باللغة المعروفة والأسماء المتداولة كأسماء الحيوانات وبقية الخلق الرباني، والسؤالان اللذان يُطرحان:
بأي لغة كان يفكر حي بن يقظان؟ وكيف عرف حي بن يقظان أسماء هذه المخلوقات، من الذي علمه أنَّ الغراب غراب، وما الذي أخبره أن السماء اسمها سماء، إلى آخره من تساؤلات؟
هذه التساؤلات من الأهمية بمكان نظرا لاختلاف الأسماء بين اللغات، فهذا يجعل للغراب مثلا لفظا تعريفيا مختلفا في كل لغة، فكيف اهتدى إلى هذه اللفظة دون تلك، وبأي لغة كان يفكر، وهذا السؤال هو الأهم، وهل نحن بحاجة إلى لغة معينة حتى نفكر ونستكشف العالم؟ أو أن العقل يفكر ويجري العمليات الذهنية دون الحاجة إلى لغة. لذا فلغة حي بن يقظان نقطة جوهرية في القصة لم يتطرق إليها ابن طفيل في عمله. وهي موضوع مثير للتفكير والبحث عن إجابة مقنعة.
الظهور الثالث لحي بن يقظان كان في رسالة شهاب الدين السهروردي المقتول (مقتله 1191 بأمر صلاح الدين بعد أن حثّه علماء حلب على هذا لضلالة السهروردي ومنهجه الكفري المُضل الذي شاع بعد شباب حلب)، ويقدم السهروردي لقصته بذكره تأثره بقصة حي بن يقظان لابن طفيل وما فيها من إشارات خفية، ويسمي قصته بالقصة الغريبة الغربية التي يقصها مباشرة بضمير المتكلم، وهي قصة رمزية جدا لا يكاد يفهم منها المراد الحقيقي، وهي تعبّر عن فكر السهروردي الصوفي المتطرف، وفيها من الكفريات والشركيات الشيء الكثير أجلها وصف الله عز وجل بالأب، ومفادها رحلته إلى قرية ظالم أهلها كما يصفها مع رفيق، ليحبسهم أهل هذه القرية ويرموهم معلقين في بئر لا يخرجون منها إلا ليلا، وخلال خروجهم ليلا يبدأ السهروردي برحلته حتى يصل إلى الملكوت الأعلى حيث الله. وتعالى الله عما يصفون.
إن التأثير التراثي الأخير لقصة حي بن يقظان في الأدب السردي والفكري الفلسفي والصوفي، كان في قصة الكامل لابن النفيس المتوفى في عام 1288 ولنا لها عودة خاصة في وقت لاحق إن شاء الله تعالى.