جوزيف ستالين: طاغيةٌ دمويٌّ، وعُثَّةُ كُتُب
جيوفري روبرتس
ترجمة: لولو بنت عبد العزيز.
كان الدِّكتاتور السوفييتيُّ وحشيًّا، لكنَّه كان مثقَّفًا أيضًا؛ فقد كانت مكتبته للعمل، لا للفرجة، واشتملت على كتبٍ ممنوعة، وأخرى ألَّفها خصومه الذين أبادهم. في مجمع الآلهة الدكتاتورات، سمعة جوزيف ستالين الوحشيَّة لا تنافسها إلا سمعة هتلر؛ فالصور النمطيَّة لستالين لا تُظهره إلا بكونه طاغيةً دمويًّا، وسياسيًّا آليًّا، وموظَّفًا عديم الرحمة، ومتعصِّبًا أيديولوجيًّا. مع ذلك، كان ستالين مفكِّرًا يؤمن بالقوةِ التحويليَّة للأفكار، وعُثَّة كتبٍ شيَّد مكتبة خاصَّة ذات أهميَّةٍ عالية.
كان ستالين قارئًا نَهِمًا مُذ حداثة سنِّه؛ حيث التهم كلاسيكيَّات الأدب الأوروبيِّ التهامًا، إلى جانب النصوص القانونيَّة للحركة الاشتراكيَّة. تلقَّى تعليمه في كلية الشريعة، لكنَّه وجد حرفته الحقيقيَّة في المكتبات الراديكاليَّة في تبليسي، عاصمة جورجيا. كان ستالين يؤمن بقوة الكلمات لسببٍ يسير؛ وهو أنَّ قراءة الكتب غيَّرت حياته، وأرشدته إلى الحركة الثوريَّة السريَّة في روسيا التي كانت تقبع تحت حكم القيصر. الاعتقاد بأهمية النظرية الثوريَّة كان السمة المميَّزة لحزب لينين البلشفي، وبصفته ناشطًا مُجِدًّا، كرَّس ستالين نفسه للقراءةِ المتواصلة. كان طلب ستالين المتكرِّر لرفاقه في حال كونه مسجونًا، أو منفيًّا لسيبيريا هو: “ابعث لي بعضًا من الكتب”. يرى البلشفيُّون أن الكلمات هي التي تعبِّر عن الأفكار، وحين تتمثَّل هذه الأفكار في فعلٍ قويٍّ؛ فإن بوسعها أن تصبح مادة قادرة على تحويل ليس فقط المجتمعات، بل والطبيعة البشرية نفسها. تأميم صناعة النَّشر كان أول ما فعله البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة في روسيا عام 1917م، ولعلمهم بإمكانيَّة استخدام الكلمات للإطاحة بالنظام السوفييتي؛ صنعوا نظام مراقبة متقن للسيطرةِ على نتاج الجرائد، والمجلات، ودور النَّشر، والطابعات، لكنَّ ستالين كان معفى من تلك الرقابة؛ فعلى خلاف ذلك، احتوت مكتبته الخاصة على الكثير من المجلدات الممنوعة.
بعكس هتلر، لم يكن ستالين ديماغوجيًّا يستخدم الكلمات ليثير المشاعر ويتسبب في هستيريا شديدة، فكلمات ستالين لم تكن هراوة، بل كانت أشبه بالمشرط، أداة عقلٍ ومنطقٍ حادة، وإن كان يعزِّزها الإصرار الدوغمائي بشأن حقيقة الماركسيَّة. بالرغم من أن أسلوب حياة ستالين الترحالي يعني أنَّه لم يبدأ بجمع الكتب وتشييد مكتبته الخاصة إلا بعد الثورة الروسيَّة، فإنَّه في وقت وفاته عام 1952م كان قد جمع ما يقارب 25.000 مجلد. في عام 1925م، رسم ستالين تخطيطًا عظيمًا للطريقة التي سيصنِّف بها كتبه، فقد تخيَّل مكتبة تحتوي على مختلف العلوم الإنسانية، وليس فقط العلوم الإنسانية والاجتماعيَّة، بل والجماليَّة، والخيال، والعلوم الطبيعيَّة.
كانت على الكتبِ في مكتبته طوابع بريديَّة كُتب عليها “Biblioteka I.V Stalina” والتي تعني “مكتبة ج. ف. ستالين”. اشترى بعض كتبه، في حين أُهدِيَت إليه بعضها. بحكم إعجاب الناس الشديد بشخصيته في الثلاثينات والأربعينات؛ غمروه بالهدايا التي اشتملت على الكثير من الكتب. كان لستالين أيضًا عادة استعارة الكتب من المكتبات دون إعادتها. لم يكن ستالين عاشقًا للكتب، فهو لم يجمع الكتب بهدف الربح، أو الجمال، أو كنصبٍ تذكاريٍّ لسمعته كونه رجل نهضةٍ معاصر؛ فمكتبته كانت مكتبة عمل، ومجموعات كتبه كانت منتشرة في مختلف أنحاء أماكن إقامته وعمله، في شقته ومكتبه في الكرملن، في قصوره الريفيَّة وبيوت اصطيافه في البحر الأسود. على الرغم من أن المركزيَّة البيورقراطيَّة للاتحاد السوفييتي كانت تعتمد على إحضار مئات الوثائق لمكتب ستالين يوميًّا، فقد كان يجد وقتًا لكتبه، وقد زعم لمُريديه أنَّه يقرأ 500 صفحة يوميًّا. ومع أنَّ اللغة الجورجيَّة هي لغة ستالين الأصليَّة، فإنَّه كان يفضِّل التواصل مع غيره باللغة الروسيَّة. كانت كل الكتب في مكتبته تقريبًا باللغة الروسيَّة، ومعظمها ألفها بلاشفة، وغيرهم من الاشتراكيِّين. في عشرينات القرن العشرين، تمحورت معظم قراءات ستالين حول كتابات خصومه السابقين الذين خَلَفُوا لينين في قيادة الحزب، بالأخص، غريغوري زينوفييف، وليف كامينيف، ونيكولاي بوخارين. وقد قضى ثلاثتهم نحبهم في عمليات التطهير، في حين اغتيل ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940م. لكن كتبهم ظلَّت على أرفف مكتبة ستالين.
كان التاريخ اهتمامًا دائمًا لستالين، خصوصًا التاريخ الروسي، وكان منبهرًا بالمقارنات بين حكمه، وحكم إيفان الرهيب، وبيتر العظيم. لم يقيِّم ستالين إنجازاته ضد إنجازات القيصر، بل قارنها بنفسه؛ فوجد بأنها ناقصة. أثقل كتابٍ مُعَلَّمٍ في مجموعة ستالين هو كتاب تاريخ قيام وسقوط الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، الذي ألَّفه مؤرخه المفضل، روبرت فيبر، اختصاصيُّ تاريخٍ قديم ألَّف أيضًا سيرةً لإيفان الرهيب. أصبح ستالين مهتمًّا بالشؤون العسكريَّة خلال الحرب الأهليَّة الروسيَّة، وقرأ أبرز أعمال المنظِّرين الاستراتيجيِّين الألمانيِّين، والفرنسيِّين، والروسيِّين، والسوفييتيِّين. خلال الحرب العالميَّة الثانية، درس ستالين خطط أسلافه القيصريِّين بصفته القائد الأعلى للقوات العسكريَّة، خصوصًا ألكسندر زوفوروف، استراتيجيٌّ من القرن الثامن عشر لم يخسر معركة قط، ومارشال ميخائيل كوتوزوف، الذي هزم جيش نابليون العظيم عام 1812م، لوحتان لهَذين الجنرالين كانتا معلقتين في مكتب ستالين إلى جانب لوحة للينين على شاكلتهما. خصَّص ستالين وقتًا طويلًا لقراءة كتب العلوم، واللغويَّات، والفلسفة، والاقتصاد السياسي. بعد الحرب، تدخَّل في مناقشات السوفييت عن الجينات، والاقتصاد الاشتراكي، والنظريَّة اللغويَّة. أسوأ تدخلاته سمعةً كان دعمه لتروفيم ليسينكو، وهو نباتيٌّ سوفييتيٌّ جادل بأن الجينات الوراثيَّة قد تتأثر بالضوابط البيئيَّة. سخر ستالين في السِّر من فكرة ليسينكو أن لكل علمٍ “طابع طبقيٌّ” بكتابته على تقرير ليسينكو: “ها ها ها، والرياضيَّات؟ والداروينيَّة؟”.
قرأ ستالين بأساليب متنوعة؛ فكان يقرأ أحيانًا بانتقائيَّة، وأحيانًا على نحوٍ شامل، بنحوٍٍ سريعٍ أو بانتباهٍ شديد. قرأ بعض الكتب من الغلاف إلى الغلاف، في حين مرَّ على بعضها مرور الكرام. وأحيانًا حين يبدأ بقراءة كتابٍ، ثم يخبو اهتمامه به بعد بضع صفحات، أو يقفز من المقدمة إلى الخاتمة. كما هي العادة، كان يستخدم أقلام شمع ملونة بألوان فاتحة، زرقاء، خضراء، حمراء، ليعلِّق على كتبه، لكنَّه كان يخطُّ أيضًا علامات خفيفة بأقلام رصاص فاتحة اللون، وأقلام مبرية بعناية. في حين كان خط كتابته للنصوص سريعًا، كان يحتفظ بخطه اليدوي الماهر لكتبه. كان ستالين يقدِّر الكتب، ويحترم مؤلفينها، حتى مع أولئك الذين يختلف معهم بشدة. كانت عادته أن يُعَلِّم نصوصًا أثارت اهتمامه، وكانت تعليقاته على الحواشي مليئة بالشتائم، من قبيل: “هراء”، “بربرة”، “سخافة”، “قمامة”، “مغفل”، “تافه”، “ها ها ها”. لكن ستالين كان يقرأ غالبًا ليتعلم، والملاحظات التي كتبها كانت مذكرات مساعدة أكثر من كونها نعوتًا. بالتأكيد ستالين وجد أكثر ما يتفق معه في كتب تروتسكي، وغيره من أعدائه اللدودين.
تُظهر حواشي ستالين أيضًا تفكيره المنسَّق. فقد علَّم نصوص الصفحات، والفقرات، والعبارات التي أثارت اهتمامه بوضع خط تحتها، أو خطوط جانبيَّة عامودية في الهامش. ليضيف تصميمًا؛ فإنَّه يرقِّم النقاط 1، 2، 3… إلخ. وليضيف تأكيدًا؛ يضاعف الخطوط، أو يدرج ملاحظة في الهامش. كان طابع قراءته المنظم يدعم ذاكرته الاستثنائيَّة. عقب موت ستالين، فُرِّقت معظم كتبه على مكتباتٍ أخرى، لكنَّ المجلدات الألف القليلة التي نجت في السجلات الرسميَّة الروسيَّة تزودنا بعدسات مثيرة للاهتمام تكشف لنا تفكير ستالين في خلوته. تخبرنا حواشي كتب مكتبة ستالين أنَّه كان بلا أدنى شك مؤمنًا حقيقيًّا بأيديولوجيته. “الماركسيَّة هي الأهم” دوَّن ستالين هذه العبارة بسرعة على هامش مجلة عسكرية سوفييتيَّة مغمورة، وكان مؤمنًا بها. في آلاف وآلاف من الصفحات المشروحة في كتب مكتبة ستالين، لا يوجد تلميح على إخفائه أي شك على الإطلاق بشأن القضية الشيوعيَّة.
زُعِم أن ستالين قال: “موتُ امرئ لَهُوَ مأساة، لكنَّ موت الملايين لا يعدو كونه إحصائية” ورغم أنَّ نسبة هذه العبارة له محل شك، غير أنَّها تصوِّر لنا سمة بارزة في ستالين؛ فستالين بصفته مثقَّفًا، عاش في عالمٍ من الكلمات، والأفكار، والنصوص، وفي هذا العالم، توجد وفرة من المشاعر، والعاطفيَّة، والتجريد، لكن القليل من الضمير، والتعاطف الإنساني، ومن السهل اتخاذ وتبرير القرارات القاسية التي تؤثر على مصائر الملايين؛ فقد ساعدته الكتب على عزل نفسه عن الوقائع غير الإنسانيَّة التي صَحِبَت سعيه العنيف نحو العالم المثالي. وحده بين كتبه، وجد ستالين سلوته وغذاءه الفكري.