جزيرة المعرفة: كيف تعيش مع الغموض في بيئة مهووسة باليقين والإجابات المؤكَّدَة
ماريا بوبوفا
ترجمة: شفاء الكاف
“نسعى وراء المعرفة ونتعطش دومًا للمزيد منها، ولكن يجب أن نعي بأننا دائما ما كنا وسنكون محاطين بالغموض”.
تحدّث بنجامين والكر في إحدى حلقات بودكاسته الرائع «نظرية كل شيء» عن الاستنارة وفن الاكتشاف: “يمنحنا تعريفنا البشري لـ«كل شيء»، على أحسن تقدير، ضوءًا خافتًا يساعدنا في تجوالنا”. التقط ودوّن عالم الفلك كارل ساغان قبل ثلاثين عامًا هذه الفكرة في مؤلفة العظيم «أصناف التجربة العلمية» الذي أكد فيه أننا: “إذا وصلنا إلى المرحلة التي نعتقد فيها بأننا نفهم تمامًا من نحن ومن أين أتينا، فسنكون حتمًا قد فشلنا”. هذا حتمًا أيضًا ما رمى إليه الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه عندما دعانا وحثّنا على أن نعيش الأسئلة في سلسلة رسائله المؤثرة «رسائل إلى شاعر شاب». ولكن رغم ذلك، لو أن هنالك قاسمًا مشتركًا واحدًا فقط عبر تاريخ البشرية بأكمله- سيكون حتمًا هو نهمنا المتواصل لمعرفة المجهول؛ أي معرفة كل شيء، ومعرفته على وجه اليقين. الأمر الذي يُعد بحد ذاته عدوَّ الروح البشرية.
يستعرض عالم الفيزياء الفلكية والفيلسوف مارسيلو غلايزر في كتابة «جزيرة المعرفة: حدود العلم والبحث عن المعنى» الالتباس والمفارقات في ذلك التعطّش المعرفي الذي يستولي على الإنسان ودور تطورات العلم الحديث في تعقيده أكثر فأكثر. وما بين حديث المنظّرة السياسية والفيلسوفة حنة آرنت عن الأسئلة غير القابلة للإجابة وحديث عالم المخ والأعصاب ستيوارت فيرستاين حول قيادة الجهل للعلم، يبحث مارسيلو غلايزر في تناقضنا الذي يكمن بين تشبثنا بالمعرفة واستهوائنا لغموض المجهول. فهو في آن واحد احتفال بالإنجاز البشري وتذكير يسير بأن رد الفعل المناسب للتقدم العلمي والتكنولوجي هو ليس جعل الغطرسة تستولي على المعرفة، والتي يبدو أنها منهجيتنا الحضارية، إنما هو التواضع أمام ما هو معروف، وربما الأهم من ذلك هو التواضع أمام ما قد يظل دائمًا غير معروف.
يبدأ مارسيلو غلايزر بطرح سؤال حول ما إذا كانت هناك حدود أساسية لمقدار ما يمكن للعلم تفسيره في الكون وموقعنا بداخله مع التركيز الفعلي على الواقع المادي. مؤيدًا لاستكشاف العالمة المعرفية أليكساندرا هورويتز المذهل حول سبب إغفال عقلنا البشري لمعظم مما يدور حولنا، كتب مارسيلو:
“ما نراه من حولنا في هذا العالم ليس سوى جزء ضئيل جدا مما يقبع فيه. هنالك الكثير مما لا يُدرك بالنظر، حتى وإن استخدمنا التلسكوبات والمجاهر وأدوات الاستكشاف الأخرى لنضاعف إدراكنا الحسي؛ فتمامًا كحواسنا، كل آلة لها قدرة ونطاق. نظرًا لأن جزءًا كبيرًا من الطبيعة لا يزال في طي الغيب، فإن نظرتنا للعالم تستند فقط إلى الجزء الضئيل من الحقيقة التي يمكننا قياسها وتحليلها. إنَّ العلمَ بكونه سلسلة سردية تصف ما نراه وما نتصوّر وجوده في العالم الطبيعي– حتمًا محدود، ولا يخبرنا إلا جزءًا من القصة… نسعى وراء المعرفة ونتعطش دومًا للمزيد منها، ولكن يجب أن نعي بأننا دائما ما كنا وسنكون محاطين بالغموض… إنه إعجابنا بهذا اللغز ورغبتنا في تجاوز حدود المعروف هو ما يغذي غريزتنا الإبداعية ورغبتنا في معرفة المزيد“.
في فكرة وجدانية تربط بين تصوّر الروائي والكاتب فيليب كيندرد ديك للواقع بأنه “ذلك الشيء الذي، عندما تتوقف عن الإيمان به، لا يزول” وحديث الفيزيائي ريتشارد فاينمان عن المعرفة والغموض، يضيف مارسيلو غلايزر: “إن خريطة ما نسميه واقعًا هو فسيفساء من الأفكار دائمة التغير“. و”إنَّ عدم اكتمال المعرفة والحدود التي تحيط بنظرتنا العلمية للعالم تدفعنا أكثر للبحث عن الحقيقة؛ حيث إنها تتماشى مع تطلعاتنا البشرية وقابليتنا لارتكاب الأخطاء“.
يشير مارسيلو غلايزر إلى أنه في حين أن العلم الحديث قد قطع شوطًا كبيرًا في إيضاح الهيكل العصبي للدماغ، إلا أنه في هذه العملية استصغر العقل وجعله منه مجرد عمليات كيميائية، الأمر الذي لا يُعد فحسب فشلًا في التطور بل إفقار لفهمنا وشعورنا بالوجود. يحذّر مارسيلو غلايزر من الوقوع في الخطأ عند قياس المعنى:
“لا يوجد شيء يسمى بالقياس الدقيق؛ يجب ذكر كل قياس بدقة وإضافة “شريط الخطأ” إلى جانبه مشيرًا ومقدّرًا لحجم الأخطاء. القياسات عالية الدقة هي بوضوح قياسات بأشرطة خطأ يسيرة أو مستوى ثقة عالي، فلا توجد قياسات وقيم صحيحة تمامًا غير قابلة للخطأ“.
“تحدُّ التكنولوجيا من قدرة التجارب على تفحّص الواقع المادي؛ أي إنَّ الآلة تحدد ما يُمكننا قياسه وبذلك تحدد ما يمكن للعلماء معرفته عن العالم وعن الإنسان. كون أن الآلة اختراع بشري، فهي تعتمد على ابتكار الإنسان وتوفّر الموارد، ويمكنها إجراء قياسات عالية الدقة والكشف أيضًا عن اللا متوقع“.
“ولكن جوهر العلم التجريبي هو أن الكلمة الفاصلة هي للطبيعة… ثُمَّ، إذا كنا لا نستطيع الإحاطة الكاملة بالطبيعة من خلال أدواتنا وأساليبنا المحدودة في البحث والاستقصاء، فإن المعرفة التي نملكها عن العالم الطبيعي هي حتمًا محدودة“.
ومع أن الكثير من العالم يبقى محجوب عنّا فإنَّ مارسيلو غلايزر يذهب إلى القول بأن هذه الأمور المحجوبة هي ما تتغذى عليها مخيلة البشر. ولكننا نلاحظ في الوقت عينه أن ما ننتجه بهذا الخيال الذي لا يهدأ يبدأ في تشكيل ما يمكن إدراكه؛ أي «ما هو معروف»، كما لو أن «الواقع» شبيه بآلة روب غولدبيرغ (آلية ميكانيكية مصممة بتعقيد ونحوٍ مبالغٍ به لتؤدي عملًا سهلا نسبيًا) للقياسات القابلة للاكتشاف، يكتب مارسيلو:
“بما أن أجزاء كبيرة من هذا العالم لا تزال محجوبة عنّا ولا يمكن الوصول إليها، يجب علينا هنا أن نعيد النظر فيما نعده «واقعًا» أو «حقيقيًا». يجب أن نتمحص في حقيقة وجود «الواقع المطلق» في هذا العالم -الركيزة الأخيرة لكل ما هو موجود- ولو أننا افترضنا وجود هذا الواقع المطلق، فهل يمكننا أن نأمل يومًا في استيعابه بالكامل؟”.
“إن إدراكنا لما هو حقيقي يتطور تدريجيًا من خلال استخدامنا للأجهزة والأدوات التي نفحص بها الطبيعة من حولنا، فتنكشف تدريجيًا أمامنا الأشياء ويصبح المجهولُ معروفًا، ولهذا فإن ما نطلق عليه «واقعًا» هو أمر دائم التغير… إنَّ نسخة الواقع التي نحسبها «حقيقةً» اليوم قد لا تكون كذلك غدًا“.
“ما دام أن التقنيات التكنولوجية في تطوّر مستمر -ولا توجد أسباب توحي بغير ذلك- لا نلمح في الأفق نهاية لهذا البحث المستمر عن الحقيقة. إنَّ الحقيقة المطلقة أمر صعب المنال، بل وهم“.
لتوضيح هذه الفكرة، شبّه مارسيلو المعرفة بجزيرة محاطة بمحيط شاسع من المجهول، وهي الصورة التي اتخذ منها عنوانًا لكتابه؛ إذ يصوّر مارسيلو الجزيرة (المعرفة) وهي تتوسع في وسط المحيط (المجهول) في حين نحن نتعلم ونكتشف أكثر فأكثر، ويمثّل الخط الساحلي للجزيرة الحدود المتغيرة باستمرار بين المعروف والمجهول. وفي إعادة صياغة للمفارقة السقراطية «أعرف أني لا أعرف شيئًا»، يقول مارسيلو غلايزر:
“إنَّ معرفة المزيد عن العالم لا يقرّبنا من الوجهة النهائية -التي وجودها ليس إلا فرضية مؤمّلة- بل إنَّ معرفة المزيد يقودنا أكثر إلى المزيد من الأسئلة والألغاز، فكلما عرفنا أكثر كنّا أكثر عرضة للجهل ولطرح الأسئلة”.
يضيف مارسيلو في توافقٍ مع معتقد الكاتب الأمريكي راي برادبري بأن البدء بالعاطفة الجياشة حتى نقترب أكثر من الحقيقة هو جزء من الطبيعة البشرية: “يجب أن يفتح هذا الإدراك الأبواب عوضًا عن إغلاقها؛ لأنه يجعل من البحث عن المعرفة مطاردة لا نهائية، قصة حب لا نهاية لها مع المجهول“.
ويعترض مارسيلو غلايزر على الفكرة أو النظرية التي تقيّدنا بوجود خيارين فقط، إما النزعة العلمية وإيمانها الأعمى بقدرة العلم على كشف أسرار المجهول، وإما الغموض الديني وتجنّبه الوهمي للحقائق المزعجة. وبدلاً من ذلك، يقترح مارسيلو نهجًا ثالثًا يرى بأن فَهْم الطريقة التي نبحث بها عن الواقع يمكنه أن يكون مصدر إلهام لا نهاية له، فلا نحتاج إلى تحديد الأهداف النهائية أو إلى قطع وعود بالوصول إلى الحقائق الأبدية. وفي تأكيدٍ يستشهد بالحجّة التي قدّمها كارل ساغان للتوازن الحيوي بين الشك والانفتاح، يقول مارسيلو: “هذا الوجود المتذبذب هو شريان العلم، فالعلم يحتاج إلى الوقوع في الفشل من أجل التطوّر والنظريات يجب أن تنهار وتتعرّى حدودها. فيما تسبر الأدوات أغوارَ الطبيعة، ينكشف الغطاء عن صدوع النظريات القديمة وتنبثق نظريات جديدة، ولكن لا ينبغي أن ننخدع ونصدق بأن لهذه العملية نهاية“.
لقد حاولت جاهدةً مؤخرًا على فَهم جانب آخر من هذه القضية، وهو التفكير في مستقبل الآلات التي تفكر، الأمر الذي تطرّق إليه الكاتب جون بروكمان في السؤال السنوي لعام 2015 لمجلة إيدج الشهيرة، وأجاب عن نخبة من المفكرين والكتّاب. ولكن ما يجعل وجهة نظر مارسيلو تبعث على السرور هو التضمين المضمر بأنه على الرغم من سعيها للحصول على إجابات فهي تؤمن بأنَّ العلمَ يزدهر على عدم اليقين، لذا يستلزم شيئًا من الإيمان الراسخ، الإيمان بعملية السعي لا النتيجة. ومع أن الاختلاف بين العلم والدين قد يكمن، كما اقترحت بروعةٍ الصحافية والمؤلفة كريستا تيبيت، في الأسئلة التي يثيرها كلُا من العلم والدين وليس فيما يقدمان من إجابات، فإن مارسيلو يشيرُ إلى أن كلًا من الأمور التي يختلف عليها الأشخاص وتلك التي يتفقون عليها متعلقة بكيفية ارتباط كل منهما للغموض:
“هل يمكننا أن نفهم العالم من دون إيمان؟ هذا سؤال مهم وراء ازدواجية العلم والإيمان… تحاول الأساطير الدينية شرح المجهول بالمجهول، في حين يحاول العلم شرح المجهول بالمعرفة“.
“يؤمن كلٌ من العلماء والمؤمنين بالسببية غير المبررة؛ أي بالأشياء التي تحدث لأسباب غير معروفة، حتى ولو كانت طبيعة السبب مختلفة تمامًا لكلٍ منهما. ففي العلوم، يكون هذا الاعتقاد أكثر وضوحًا عندما تُوجد محاولة لاستقراء نظرية ما خارج حدودها المُختبرة، كما في النظرية التي تنص بأن «الجاذبية تعمل بالطريقة نفسها في الكون بأكمله» أو تلك التي تنص على أن «جميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي، بما في ذلك الكائنات من خارج كوكب الأرض»، هذه الاستقراءات ضرورية للتقدّم بالمعرفة نحو المناطق غير المستكشفة بعد. يشعر العلماء بأنهم على صواب، بالنظر إلى القوة المتراكمة لنظرياتهم التي تشرح الكثير من العالم، يمكننا حتى أن نقول بأن إيمانهم مثبت تجريبيًا!”.
نقلاً عن نيوتن وآينشتاين بكونهما مثالين بارزين للعلماء الذين استخدموا تمامًا إيمانهم الحدسي لتعزيز اكتشافاتهم التجريبية والنظرية، أحدهما عن طريق استقراء استنتاجاته المتعلقة الجاذبية متوصّلًا بذلك إلى أن الكون لا نهائي، والآخر من خلال اختراع مفهوم «الثابت الفيزيائي» ليناقش به محدودية الفضاء، يضيف مارسيلو:
“لتجاوز المعروف كان على كلٍ من نيوتن وآينشتاين تحمّلُ المخاطر الفكرية، ووضع افتراضات تستند إلى الحدس والتحيّز الشخصي، وقد فعلوا ذلك حقًا، مع علمهم بأن نظرياتهم التأملية كانت حتمًا ركيكة ومحدودة، الأمر الذي يثبت قوة الإيمان في العملية الإبداعية لاثنين من أعظم العلماء في التاريخ، وهذا هو الأمر عينه الذي يقوم به كل شخص يشارك -سواءً بقدر قليل أو كثير- في تقدّم المعرفة“.
وفي حوارٍ رائع بين مارسيلو غلايزر والروائية مارلين روبنسون حول الوجود:
يقول مارسيلو: النظر إلى العلم بأنه منفصل عن الروحانية في نظري خطأ فادح… لا يوجد شيء يقول بأنَّ العلم يجب أن يكون منزّهًا عن الروح أو حياة الروح، بل الأمر في رأيي عكس ذلك تمامًا. هذا بالضبط لأنني أشعر بارتباط روحي كبير مع الطبيعة بالنظر إلى أنني عالم. فكتابة المعادلات على السبورة والتوصّل إلى نماذج حول كيفية عمل الطبيعة هو إلى حد ما شكل من أشكال عبادة تلك الروحانية”.
تقول مارلين: من الأشياء الرائعة هي أننا لا نعلم من نحن. يضع البشر وصفًا لأنفسهم من خلال التاريخ، وكل ملحمة جديدة هي وصف جديد لماهيّة البشر. كل حياة هي وصف جديد لماهية البشر. كل نتاجٍ علمي، كل نتاجٍ فني بمثابةِ معلوماتٍ جديدة. ومن المُحال في هذه المرحلة أن نتمكن من قول كلمة الفصل حول ماهيّة العقل البشري، لأنه يبرهن… بطرق جميلة تارة ومهولة تارة أخرى بأنه سيستمر مرارًا وتكرارًا بمفاجأتنا!”.
إنَّ كتاب جزيرة المعرفة قراءة مضيئة في مجملها، يمضي عبرها مارسيلو غلايزر نحو استكشاف كيف تشكّل القفزات المفاهيمية بحثنا عن المعنى، وما تكشفه ميكانيكا الكم عن طبيعة الواقع المادي، وكيف يمكن أن يؤثر تطوّر الآلات والرياضيات في أفكارنا حول حدود المعرفة.