ت. س. إليوت الشاعر الإنجليزي الحداثي
UKESSAYs
ترجمة: مؤمن الوزان
توماس ستيرنز إليوت واحد من أهم الشعراء الحداثيين، ومنح محتوى قصائده وأسلوبه الشعري عناصرَ الحركة الحداثية التي اشتهرت في عصره. صُوِّرت الحداثة على أنها “رفضُ المعايير التراثية للقرن التاسع عشر، حيث غيّر أو تخلّى الشعراء والفنانون والمعماريون والمفكرون عن التقاليد القديمة في محاولة لإعادة تصوّر مجتمع في حالة تغيّر متواصل”. مُثِّلت الحداثة على نحو رئيس بالتوجِه نحو التشظي (التجزئة)، والشعر الحر، والتلميحات المتناقضة، ووجهات النظر المتبانية عن الكتابة الفيكتورية والرومانطيقية. ظهرت هذه المزايا الحداثية على نحو كبير في أبرز قصيدتين أظهرتا توجُّه إليوت الحداثي “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك” و”الأرض اليباب”
إنَّ قصيدة “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك” واحدةٌ من القصائد الحداثية المؤسِّسة، وأظهرت عناصر حداثية من تفسُّخ الحياة وفقدان الاستقرار العقلي. تدور القصيدة حول مشكلة إنسان الحداثة، بروفروك، الذي يندب حالته الجسمانية ومعايبه الفكرية- من فقدان الفرص في حياته إلى فقدان تقدمه الروحاني. المثير للإعجاب في هذه القصيدة أنه يُمكن فهمها بكونها تعبيرًا إما عن حالة مُدْرَكة وإما عن حالة ذهنية عاكسة لوعي الإنسان الباطني.
برز تيار الوعي في الحركة الحداثية الشعرية بكونه التقنية الحداثية الأهم التي عكست طبيعة التشظّي لعقلية إنسان الحداثة، وسمحت للقارئ كذلك باستعراض النَفْسِ الداخلية للشخصية. وكما يُرى في القصيدة فإن فكر بروفروك ينتقل في الغالب من القضايا التافهة إلى الجليلة وبالعكس. ويوضِّح هذا الأمر فكرة الزمن الذاتي في الحداثة المناقض للزمن التاريخي الخاص بالماضي والحاضر والمستقبل. شدد تيار الحداثة على نبرة الأفكار التشاؤمية، والوحدانية، والجوانب السلبية للحياة في ظل هذه الظروف داخل القصيدة. ويبدو أنَّ بروفروك كان قادرا على رؤية هذه الجوانب السلبية فحسب، فظهر الموت، العنصرُ المُهيمِن في القصيدة، برمز حشرة مثبتّة على الجدار، ويُشخَّص كذلك بكونه “الخادم الجوَّاني”. والمهم في ذلك أن بروفروك يُصوَّر على أنه ممثل لكل البشر في عصر الحداثة، فهو غير حاسم لرأيه، فلا يمكنه حتى حسم قرار أكل خوخة، ويُرى هذا المشهد من القصيدة سجلًا للأفكار العشوائية في عقل بروفروك.
في الختام، كان الكتّاب الحداثيون مهتمين بإظهار أناس ذوي “شخصيات متعددة”، ويتضِّح هذا مع بروفروك إذ هو المتحدث والمستمع في الآن نفسه. إضافة إلى أن النص الحداثي مليء بالتلميحات إلى نصوص أخرى، وهذا موجود في القصيدة حيث الإحالة إلى دانتي “الاستهلال”، وشيكسبير (هاملت)، والكتاب المقدس (قيامة إلعازر). على الرغم من أن إليوتَ معروفٌ بأنه شاعر حداثي بارع، فإن بعض النقّاد يُجادلون بشأن استخدامه بعض التقنيات التراثية القروسطية في أعماله. ويناقش هؤلاء النقاد بأن “في الوقت الذي يُمكن أن يُطلق على ت. س. إليوت “القروسطي الحداثي” لإعجابه بأصالة وروحانية العصور الوسطى ولغموض (لا شخصية) مفهوم الفن عنده، فإن آراؤه النخبوية والشكلانية تعزله عن المصطلحات التراثية المعرَّفة”. بتعبير آخر، تعرض بعض سمات إليوت الشخصية المواضيع والأساليب القروسطية، وفي ذات الوقت، تُجذِّر هذه الأعمال للتوجه الحداثي للأدب. ولهذا أطلقَ عليه النقّاد “القروسطي الحداثي”. يبدو المغزى في هذا أن لدى إليوت نوستالجيا إلى التراث القروسطي مرتبطًا هذا الحنين باهتمامه بحياة الحداثة. مزج إليوت في شعره بين كلا من همِّه بالقضايا الدينية (الثيمة القروسطية) ونزعته تجاه القضايا المعاصرة (الثيمة الحداثية). لذا وكما لاحظ النقّاد، فإن إليوت يبحث عن نوع من “الاندماج” بين كلا الجانبين. يتضح هذا جليًا في قصيدة “الأرض اليباب” حيث يُبدي إليوت قلقه من حياة الحداثة بتباينها مع السمات القروسطية. يُظهر إليوت الفرق بين الحياة القروسطية ذات الدينية السماوية -التي تفتقر إليها حياة الحداثة- وبين السقوط في المواضيع الروحانية في حياة الحداثة. في الحقيقة، يُمكن عدُّ “الأرض اليباب” نصًا حداثيًا مؤسِسًا، والعنصر الحداثي الرئيس الموجود في القصيدة هو الاعتمادية البيّنة على الصور، التي كانت السمة الأساسية في النصوص الحداثية، وأبانت القصيدة عن العديد من الصور المجزَّأة العاكسة لشعور الضياع لدى إنسان الحداثة. وعلى الرغم من كون القارئ لا يفهم شيئا من هذه الصور، فإن الراوي يعده بإظهار كيفية خلق المعنى من التجزئة (التشظي)، وبناء المعنى من التجزئة أحد أهم السمات الجوهرية للحداثة. تصف الرواية بوضوح عالم الحداثة أو ما يسميه الراوي بمصطلحات مثل: “الصورة البانورامية العملاقة للعبثية والأناركية وهي التاريخ المعاصر”. إن هذا الصور المتكررة للسقوط والاضمحلال ممثلةٌ لحياة الحداثة، فتُصوَّر الحياة تافهة، وتزيد معاناتها مشاكلُ الحرب. يحدث هذا في كلا المستويين المادي الحقيقي والنفسي الداخلي لإنسان الحداثة. ساعدت الصور المجزأة، وتيار الوعي، وكل السمات الأسلوبية الغريبة في إيصال رسالة الشاعر. وفي نظر إليوت، فإن الحياة الحديثة متشظية وغير منطقية، وحاول توصيل هذا من خلال أسلوبه. لهذا السبب فإنه نزعَ في “الأرض اليباب” إلى كسر المنطق والتقاليد، ويمكن رؤية القصيدة على أنها تمثيل لإنسان الحداثة ونفسية إنسان الحداثة شكلًا ومضمونا وفق ما تعنيه هذه المصطلحات.
نستنتج من كل هذا، إنَّ قصيدتا “أغنية حب ج. ألفرد بروفروك، والأرض اليباب” تعدان نصوصا نقدية تمثل فكرة الحداثة، وبتعبير أدق هما مثالان للشعر الحداثي. يعكس محتوى القصيدتين وأسلوبهما حياةَ الحداثة، لا سيما تأثيرها في الفرد. وكان إليوت ماهرا في عرض هذه الفكرة بأسلوبه الخاص في كلا قصيدتيه، مستخدما تيار الوعي في إظهار فوضى تفكير إنسان الحداثة. إضافة إلى ذلك، فقد استخدم إليوت عديد التقنيات مثل التصويرية، والتكرارية، والتجزئة، وتقنيات حداثية أخرى. ساعدت كل هذه التقنيات في وصف حياة الحداثة للقارئ وعكست حالتها بطريقة واقعية. ولأجل هذا يُمكن للمرء بسهولة أن يعدَّ إليوت واحدا من أكثر شعراء الحداثة تأثيرا في الأدب الإنجليزي.