توماس هوبز (1588-1679)
Great Thinkers
ترجمة: عبد الرحمن يونس
توماس هوبز أحد الفلاسفة الإنجليز في القرن السابع عشر الذي قادنا قُدمًا عبر واحدةٍ من أكثر القضايا السياسية الشائكة: إلى أي مدى يجب علينا الانصياع بصبر للحكام لا سيما الفاسدون منهم، ومتى يجب علينا أن نبدأ الثورات ونخلع الحكومات في سبيل البحث عن عالم أفضل؟ لم يكن تفكير هوبز ينفصل عن أحد أهم الأحداث في حياته وقد عاصره عند بلوغه سن الرابعة والخمسين تاركًا فيه ندبةً ملحوظة وأضاف صبغة على جميع أعماله اللاحقة (توفي توماس هوبز في سن الحادية والتسعين، لكن وعلى نحوٍ مثيرٍ للدهشة فإن جميع أعماله التي عُرف بها كتبها بعد سن الستين). كان هذا الحدث هو الحرب الأهلية الإنجليزية التي اتَّصفت بالوحشية والصراعات الدموية المكلفة والانقسامات، واحتدمت على مدار عقدٍ من الزمن في جميع أنحاء إنجلترا حيث تصارعت قوات الملك والبرلمان، الأمر الذي أدى إلى سقوط ما يقرب المئتي ألف قتيل من كلا طرفي النزاع.
اتَّسم هوبز بأنه رجلٌ حذرٌ ومسالمٌ بسجيته، بغضَ العنف بجميع أنواعه، وابتدأ شعوره هذا مُذ كان في الرابعة من عمره لتأثير والده القس فيه، إذ كان يهين زوجته ولا يحسن معاملتها، وتخلَّى في النهاية عن زوجته وعائلته بعدما دخل في شجار مع قس آخر على عتبة كنيسته الأبرشية في قرية في ويلتشاير. بلغت شهرة هوبز أقصاها عندما نشر كتابه “اللفياثان” في عام 1651. فكان كتابه هذا أكثر الأعمال وضوحاً وإقناعا وبلاغة، تناول فيه سبب طاعة الإنسان لسلطة الحكومة حتى لو كانت فاسدة جداً في سبيل تجنب خطر الفوضى وسفك الدماء. فَهمُ النزعة المحافظة لهوبز يساعدنا على تصور الحالة السياسية في أوربا خلال القرن السابع عشر حين بدأ المنظرون السياسيون بالسؤال بطريقة مباشرة وجديدة عن الأساس الذي يُوجب على الرعايا طاعةَ حكامهم.
لقرون طويلة وبالعودة الى العصور الوسطى، كانت هناك إجابة تقليدية عن هذا السؤال يتضمن مفهوماً يدعى حق الملوك الإلهي، وتميز هذا المفهوم بأنه فجٌ وصريحٌ وسهلٌ في ذات الوقت لكنه كان مؤثراً جداً في أرض الواقع. يتلخَّص هذا المفهوم بأن الملوك هم أوصياء الله على الأرض والشعب وأن طاعتهم واجبة فهي جزء لا يتجزأ من طاعة الله، وينبني على هذا أن من خالف هؤلاء الحكام فالله كفيل بإرساله الى جهنم. لكن هذا التفسير لم يعد مقبولاً ولا محط إقناع عند العقلاء من الناس الذين برروا رفضهم له بإن الحق في الحكم لا يكمن في قرارات الملوك بل بما يختاره الشعب لأنه في نهاية المطاف مَنْ يمدُّ الحكَّام بالقوة. لذا فإن تلقي الأوامر من الملوك سيكون محصورا فقط في إطار المصلحة العامة وهذا ما يسمى بنظرية العقد الاجتماعي للحكومة. لم يكن مفهوم حق الملوك الإلهي في نظر لهوبز أكثر من كونه حماقة وسفاسفَ لا طائل منها، كما أنه في طريقه الى الاندثار مع تراجع الشعائر الدينية حتى إنَّ هوبز ملحدٌ في خاصة نفسه. لكنَّه في المقابل متخوفٌ وبشدة من العواقب المحتملة لنظرية العقد الاجتماعي، التي من الممكن أن تكون سبباً في تهييج الناس على حكامهم وإسقاطهم وقتما أحسُّوا بعدم الرضا عن عطاياهم. روى لهوبز من شهدَ قطع رأس الملك تشارلز الأول على سقالة أمام بيت البانكويت في قصر وايتهول في عام 1649، وركَّزَ مهامه الفكرية للتأكَّد من عدم تكرار مثل هذه المشاهد البدائية المروعة أبدا.
في سبيل هذا، قدَّم هوبز في كتابه اللفياثان فكرة بديعة حاول فيها أن يوفِّق بين نظرية العقد الاجتماعي وبين الدفاع عن الطاعة التامة والخضوع للسلطة التقليدية. عاد هوبز بذاكرة قرائه الى الماضي وبالتحديد لحقبة تدعى “حالة الطبيعة State of Nature” يوم لم يكن ملوكٌ يحكمون، وأعمل عقولهم للتفكير في كيفية نشأة الحكومات في بادئ الأمر. تمثَّلت حجة هوبز في نقاشه هي أن حالة الطبيعة لم تستطع توفير ملجإ مناسب للعيش والسبب المباشر في هذا هو أن البشر تُرِكوا أُسارى لرغباتهم الخاصة دون أي سلطة مركزية حاكمة تبقيهم في خشية دائمة، فانجرفوا سريعا في دوامة المشاحنات والمعارك التي لا تطاق، كما حدث في الحرب الأهلية الإنجليزية غير أن رجالها لبسوا جلود الدببة وقاتلوا بالحديد. وفي صياغة هوبز الشهيرة عن الحياة في حالة الطبيعة مقدر لها أن تكون: “سيئة ووحشية وقصيرة”. نتيجة لذلك، وبدافع الخوف والخشية من الفوضى، إنقاد الناس إلى تشكيل الحكومات. وفعلوا هذا عن رغبةٍ كما نصَّت نظريات العقد الاجتماعي لكن أيضًا تحت طائل الإكراه، فراراً الى أحضان سلطة قوية. وكما بيَّن هوبز فإن من واجبهم فيما بعد أن يستمروا في الانصياع والطاعة، مع القليل من الحقوق التي يمكنهم التذمر والشكوى بشأنها إذا لم تعجبهم. إنَّ السبب الوحيد الذي يضطر الناس إلى التظاهر على الحاكم المطلق، أو ليفاثان كما أطلق عليه هوبز، هو تهديد حياة الناس على نحوٍ مباشر. لذا يرى هوبز إخماد المعارضة وفرض الضرائب الخانقة والإضرار بالاقتصاد وإبعاد وحبس المتمردين هي أسباب غير كافية أبدا للمطالبة بتغيير الحكومة.
“قد يتصور البشر عواقب السلطة المطلقة شرًّا فظيعًا لكن عواقب الافتقار إليها، وهي حرب دائمة بين المرء وجاره، أسوأ من ممارستها بكثير”.
لا ينكر هوبز أن صاحب السلطة قد يكون خبيثاً في قرارة نفسه لكنه رغم ذلك واجب الإتباع لأن الحياة الإنسانية في طبيعتها لا يمكن سياستها الا مع بعض المشقة، لكن هذه المشقة في ذاتها قد تسبب بها المحكومون لا الحاكم. فالبشر إذا تمكنوا من حكم أنفسهم ذاتياً فمن المنطقي أن تنعدم حاجتهم إلى القوة القسرية التي تسيرهم. وكما أشار هوبز: “إن المشتكي من حاكمه هو في حقيقة الأمر يشكو من نفسه، لأنه هو المتسبب في الأصل، فلا يلومن الا نفسه، وعلى أهلها جنت براقش”.
اتَّصف هوبز بنظرة تشاؤمية حذرة، خاصة في ما يتعلق بشؤون الحكومة والسياسة. وفي أشد حالاتِ تفائلنا، فنحن نأمل أن يكون مخطئًا فيما ذهب إليه، لكن سيبقى صدى اسم هوبز بلا شك يتردد في الأرجاء، كلما خرج الناس بحثاً عن الحرية وانحرف بهم السبيل. لم يكن هوبز ضد الثورة لأي دوافع شريرة. لقد أكد، كما في مقدمة كتاب لفياثان شعوره بأنه مضطر “… أن يضع أمام أعين الناس العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة”.