المعرض

تألقت حديقة فيلا مدام إلهام بأنوار فارهة جعلتها تسطع كجوهرة في خلاء ليل مدينة الشيخ زايد، وعشرات من الآلات العازفة تبعث بأنغام متداخلة راقصة تهز بذات الضيوف الأنيقة في خفة ولباقة، وأصناف شهية مستباحة من كل ما يأكل أو يشرب منضودة على طول الطاولات العماد. وقف نجيب هناك في زاوية من الحديقة يطوف بنظره الجمع الذي تحلق في أحزاب من الأحاديث المُنسابة والضحكات الراقية، وبعين الفنان التي يأسرها كل جميل فتنته الفساتين الساحرة على الأجساد النابضة فدقق في القصيرة منها والتي تشي عن أعواد كالبنور متباينة الحجم، والطويلة التامة على الجسم تبرز تضاريسه وتحددها. ولما رفع بصره إلى الوجوه وقعت عيناه على مألوف فتبين أنها لينا جودة مذيعة التلفاز والمؤثّرة السابقة التي داعبت خياله دائما، وكان إذا رآها على التلفاز ثبت المحطة، أو على مواقع التواصل كبّر وتفحص في تفاصيلها ما حلا له، وها هو ذا الآن يراها ماثلة أمامه بشحمها ولحمها. تلفت فكان محمد أنور الممثل حديث الانتشار، وكان علي الحوت رجل الأعمال الشاب ذائع الصيت، وكان المخرج وكان المؤثر وكانت الكاتبة. خالطه شعور الامتنان بالغربة، وغاص إلى نفسه يراجعها متعجبا، كيف وصلنا إلى موقفنا ذاك وشيّدنا جسرا بيننا وبين هذا الجمع من النخب، رغم قول جدته الدائم حظك في الدنيا كالذي يجد عظما في الكبدة.

عاد بالذاكرة إلى ذاك اليوم، يوم حظه الذي دخل فيه ببلوفره الموبر يتأبط لوحات مغلفة بورق بني متين، إلى معرض الأستاذ إكرام للوحات الفنية في حي الزمالك مخلفا منزله في حي عابدين. ونجيب شاب تحدر من أسرة متوسطة الحال هوي الرسم منذ الصبا ووسِم بالموهبة فيه، ولما تخرج في آداب الفلسفة ولم تدر الوظيفة بهمها، ولم ترض الطموح، تفرغ له وامتهنه فصار كسب العيش مما يهوى منة ولزاما. ودله دال من الأقارب البعيدين على أحد أصدقائه من أكبر كسّيبة المجال وبوابته الأوسع وهو الأستاذ إكرام. كان معرضه مقصدا لكل من قصي ودني من المولعين بالفن وأصحاب الأذواق الرفيعة، يتردد عليه ورد من مختلف الأوساط الثقافية والفنية حتى نسج شبكة علاقات واسعة في تلك الأوساط وغيرها، وذيع مبالغة أنه ما عُلقت لوحة رسام ما، على حوائط ذلك المعرض أو زواياه إلا وكانت لصاحبها نهر رزق وعلاقات لا ينضب. ولما كلمه القريب عن نجيب الذي كان قد أنهى مجموعة من اللوحات القابلة للعرض رحَب وعمِل بالصداقة، واتفقا على مقابلة مسائية بعد الساعة الحادية عشرة فيكون المعرض قد أغلق بابه عن الزبائن وخلي الجو للحديث، وكان ذلك سلو مقابلات الأستاذ إكرام عامتا.

من ردهة المعرض حتى مكتب الأستاذ إكرام أخذ نجيب يطالع الجدران المكسوة بلوحاتٍ كالتي يرسمها أنبغ الطلاب في حصص الرسم في الصفوف الابتدائية فارتدته الريبة وارتسم الغباء على قسماته. ولما قابل المكتب في الصدر وبادر بالتحية، بادله الأستاذ إكرام بالنهوض من خلف المكتب ومصافحته ودعوته للجلوس ثم عاد سريعا إلى ما كان منهمكا به في حاسوبه الصغير، وحدثه ناظرا في الشاشة عن علاقة الصداقة التي تربطه بقريبه وسرد ذكرى جمعتهما في كلماتٍ موجزة وبغير شديد بال. كان نجيب يرد في فتور وتوجس وهو يطالع ما حوله. وتحدر الحديث إلى علاقة نجيب بالرسم حتى أطبق الرجل شاشة حاسوبه ودعاه ليطلعه على لوحاته الحاضرة. أخذ الأستاذ إكرام يتفحص اللوحات وهو يُمأمئ، وكان كلما فرغ من لوحة وضعها على الأرض بجانب المكتب، حتى غمغم وهو ناظر إلى إحداها كأنما يستعيد شيئا من خلف الذاكرة:

– مدرسة أثينا، رفائيل، قصر أبوستوليك.

أسرجت تلك الكلمات ما انطفأ في نجيب ودبت فيه حماسة ظهرت في الرد.

– نعم، بالضبط، تحديد الإيماءات لكل فيلسوف لتوضيح الاختلاف الفلسفي كان الأصعب، ومع أن أفلاطون وأرسطو هما الشخصيتان المركزيتان حاولت أن أبرز ابن رشد بشكل..

قاطعه الأستاذ إكرام بصوت حاد وهو ينحي اللوحة إلى أترابها ويخلع نظارته.

– اسمع يا نجيب، من الواضح أنك رسام موهوب حقيقة، ولكن كم من الموهوبين في الخلاء وما سدت موهبتهم حاجة، وبما أنك، على حد فهمي، ترجو أن تكسب جم رزقك من فنك فإني آسف لك أن هذه اللوحات وأمثالها لن تدر لك مليما أبيض.

كان نجيب يتابع صوته بغيظ مكتوم، ولعن تلك اللحظات التي شعر فيها بأنه مرغم على التسول بفنه وتعريضه للتقييم، وتمنى أن يغمض عينيه ويفتحها فيجد ذلك المجلس قد انفض، لكنه رد بصوت باهت.

– وأنا قد جئت لحضرتك وكل غايتي أن ترشدني إلى الطريق الصحيح.

– أنا أفهمك أكثر مما تتصور يا نجيب فأنت تذكرني بشبابي، وإياك أن تعتقد أنك أدهى ذكاءً وأوسع من أوتي موهبة أو ثقافة ولياقة ذهنية، وإني لك في ذلك لناصح أمين.

ثم تنهد وشبك أصابع يديه الموضوعة على المكتب في بعضها وأردف يقول

– قل لي، لماذا تظن أن هذا المعرض قد التمع شهرة عن أترابه من المعارض، وتكاثفت عليه النخب من أوساط مختلفة؟ بل ولعلك ارتبت في نفسك الحذقة من تلك السذاجة المعلقة على الجدران.

اعتدل نجيب في مقعده وأومأ مستفهما يستدعي الإجابة.

– شوف، إن كل من يدخل هذا المعرض إنما يدخله لغاية في نفسه، فهو ما أن يحملق في لوحة ما، والتي تجد فيها أنت من البساطة ما يذهلك ويثير حفيظتك الفنية، ويتموّضع موضع المتأمل النافذ إلى أسرارها فيفّهمها فهما تاما ويحلل تفاصيلها البلهاء ما وسعه التحذلق، والتي إن قال فيها ريان يا فجل صدق، فيخرج من هذا الباب واسما نفسه بالثقافة والذوق وبالغاً من تقدير الذات أشد مبلغ، وكأن كل ما في أرجاء هذا المكان يقول له: أنت تعرف كثيرا. الناس يرتاحون للأبيض والأسود يا نجيب، أما الرمادي فيوترهم.

وبدا على نجيب شيء من الاقتناع والتسليم بجهله.

– ولكن الفن مدعاة للتفكر والاستنباط ولو بكساء الجمال والترفيه، وما تقوله يفرغ فلسفة الفن من لبها تماما.

قهقه الأستاذ إكرام حتى كاد حلقومه يبدو، ثم قال بلهجة واثقة لا تخلو من السخرية

– أحببتك على خفة ظلك يا نجيب، نحن في زمنٍ يسّلع كل شيء، والسعر يحدد القيمة وليس العكس، الوقت له ثمن، وتفكيرك واستنباطك ليسا إلا هدرا له، والمشتري له سعر فكلما شعر بقدراته العقلية أمام لوحة تردد إلى المعرض مرارا واشترى مزيدا، أما سعر الرسام فيحدّده مدى فهمه لهذه المعادلة.

قطع شرود نجيب وأعاده من رحلة الذاكرة إلى حاضره، صوت نسائي يعرفه، فإذا بها مدام إلهام صاحبة الفيلا مقبلة إليه، ولكن راوغتّها عيناه إلى ذاك الجمال بلون الكراميل الذي قبع في عقله دائما، القادم في ذيلها. عرّفته مدام إلهام إلى لينا المذيعة على أنه أكثر رسامي معرض الأستاذ إكرام موهبةً ولوحاته أوسعها انتشارا، بل إنها قد علقت مجموعة من لوحاته التي قد اقتنتها من المعرض على جدران بهو الفيلا. كان في أثناء الوقفة يرمي لينا بلحظٍ خفي فيلتقي عينيها الرماديتين الموترتين فوجدهما لا يجِدان حرجا في مبادلته بعد أن كانا ينظران إلى الخلاء على شاشة الهاتف. أيقن أن كل شيء صار ممكنا، حتى الرمادي صار يوتره. ودعتهُما مدام إلهام إلى البهو ليتفرجوا على اللوحات معا. لما دخلوا البهو قابلت مدام إلهام إحدى المدعوين فسلمت عليها، وعرّفتها إلى من معها ودعتها لتنضم إلى الرحلة الفنية. بدأت باقتياد الفوج إلى لوحتها المفضلة. أمام اللوحة كان شاب ناعم الشعر ممشوق الباد مزين بالعضلات كزهو الطاووس، قد رُسمت عليه بدلته، يتفحص اللوحة، وقال كأنما كان ينتظر وصولهم 

– الشمس الساطعة ترمز إلى نار الحب المتقدة، والسحب ترمز إلى الظروف ومعوقات الحب.

أراد نجيب أن يوقف تلك المهزلة ولكن منعه فهمه لمعادلة الأستاذ إكرام فبلع ريقه. والتفتت لينا للشاب بفضول لا يخلو من الإعجاب بكلام الشاب الذي ينم عن ثقافة وحذق، وبادلته الرأي وانغمسّا في الحديث متجاهلين من معهم تحت أنظار نجيب، حتى دعت مدام إلهام صديقتها ونجيب إلى لوحة أخرى مخلفين العصفورين وراءهم.

أحمد المنجي: قاص من مصر.