الكلاسيكية مقابل الرومانسية في العلاقات العاطفية

School of life 


حجم الخط-+=

ترجمة: دعاء خليفة 

نعيش في عصر معقّد لا سيما في علاقاته العاطفية والاجتماعية، وصار المرء يسعى جاهدا لمعرفة الآخر جيدا على أمل إنجاح علاقته والمحافظة على حبه. غير أنّ هذا لا ينجح دائما، ويضطره في أحيان كثيرة إلى مراجعة المستشارين والمختصين ليعرف إمكانياته ومواطن الخلل وما يستطيع القيام به. نتج إثر ذلك الكثير من الأنماط الاجتماعية في العلاقات والمناهج في تحليلها للخروج برؤية أشمل لأنفسنا والآخرين. عاد إلى الواجهة صراع الرومانسية والكلاسيكيّة لكن هذه المرة في حقل العلاقات بين الرجال والنساء. ربما من غير المعتاد تصور أنفسنا من مصطلحي الرومانسيّة والكلاسيكيّة في علاقتنا بالآخر، لكن تُبرز هذه التسميات على نحوٍ مفيد بعض الموضوعات الرئيسة عن كيفية تفكيرنا حين نحب. ومع أنهما يتلازمان إلى حد ما في كل واحد منا فإننا جميعًا نميل إلى أحدهما أكثر من الآخر. فيما يلي بعض الخصائص المركزية المتناقضة بين المواقف الرومانسية والكلاسيكية في الحب والعلاقات العاطفية، والتوفيق بينهما في عصر ما بعد الرومانسية.

  1. الحدس مقابل التحليل 

يستمتع الرومانسيون بالطرق التي يمكن أن يبدو فيها الحب كأنه يتحدى التفسير العقلاني قليلا. يناصرون المشاعر ويحذرون من اتخاذ العقل دليلًا للحياة. تفتنهم فكرة أنك تعرف بالفطرة أن شخصًا ما مناسبًا لك، أو أن مشاعرك تدلك ببساطة على انتهاء العلاقة. في نظرهم، من البرودة بل والقسوة أن تتحرى قرارًا أو مزاجًا صعبًا، وعلى وجه الخصوص، يعتقدون أنه لا ينبغي للمرء أن يسعى جاهدًا لإلغاء مشاعره. يكنون احترامًا عميقًا للغة المبهمة عالية المستوى وأساليب التعبير الغامضة، التي تبدو لهم وكأنها تلمّح إلى جوانب قيِّمة من الحب والتقارب يستعصي وصفها. فهم لا يعتقدون بصحة وضع قوائم بالإيجابيات أو السلبيات أو محاولة توضيح ما قد يكون حسنًا أو سيئًا في العلاقة. أما الكلاسيكيون، من ناحية أخرى، يأخذون حذرهم من الحدس. يبدو أنهم تعلموا، انطباعًا من التجربة المريرة، كيف يمكن أن تكون مشاعرهم مخادعة ومضللة، لذا ينظرون إزاءها بتشكك واشمئزاز. فهم لا يرون أي تعارض بين حبهم لشخص ما وطرح أسئلة استقصائية عن سبب حبهم له. ويفضلون أنماط التعبير الواضحة (حتى عن المشاعر النادرة والعابرة، مثل استغراق النظر في عيني شريكهم) ويميلون إلى لغة يستوعبها طفل ذكي في الثانية عشرة من عمره.

  1. العفوية مقابل التعليم

غالبًا ما اتخذ الرومانسيون حذرهم من التعليم والتلقين. يؤمنون أن أفضل الأمور في العلاقة تلك التي تخرج بعفوية، فلست بحاجة إلى تعلم كيفية الارتباط؛ يكفيك أن تتبع دوافعك. فكرة أن الناس تحبذ التفكير بعقلانية وشمولية فيمن يجب الارتباط به أو كيفية التعامل مع مهمة الغسيل أو ما إذا رغبوا في الذرية، تصدم الرومانسيين على أنها تدخل مضلل من التعليم في الأمور التي يجب أن تكون على سجيتها (تستهويهم فكرة الحب من النظرة الأولى). أما أصحاب المزاج الكلاسيكي فلا يحترمون بالضرورة نظام التعليم الحالي كما نعرفه، لكن فكرة التعليم المجردة تبدو لهم غاية في الأهمية. فهم يعتقدون أن التدريب أمر ضروري إذا أردنا تجنب ارتكاب الكثير من الأخطاء في حياتنا العاطفية. فالشخص ذو التفكير الكلاسيكي يرى أن التعليم في وضع مثالي لإصلاح أوجه القصور في طبائعنا الجامحة. فقد نحتاج إلى أن نتعلم كيف نلبي احتياجاتنا الخاصة، وكيف نتنازل وكيف نتحدث مع شركائنا أو نضاجعهم على نحوٍ مرضٍ.

  1. الصدق مقابل المداراة 

يُخلص الرومانسي في التصريح بما يعتمل في فكره أو إحساسه. فيتجنبون سمة الزيف أو الاحتفاظ بالأسرار، ويرون الصدق ضرورة. في منظورهم المداراة غطاء يخفي ما يهم حقًا، لذا فهي تُعارض تصورهم عما يجب أن تكون عليه العلاقة. يحترم الكلاسيكي المداراة كونها غطاء مهما يقمع ما قد يدمرنا، لذا يتبنون مبدأ مداراة الآخرين. لا يعني ذلك خوفهم من إغضاب شريكهم في حد ذاته، لكنهم يشكّون في أن ذلك عادةً ما يكون خطوة بنّاءة، ولا تغرهم الانتصارات الرمزية. يفضلون إقامة علاقات متحضرة مع من يتشاركون حياتهم معه بدلاً من إطلاعه دائمًا بوضوح على ما يدور في ذهنهم. يقرون بأهمية الأسرار والأكاذيب البيضاء في إبقاء الحب حيًّا.

  1. المثالية مقابل الواقعية

يتحمس الرومانسي لما يمكن أن تكون عليه الأمور بمثالية، ويحكم على الوضع الحالي للعلاقة بمعيار البديل الأفضل المتخيل. وفي معظم الأحيان، يثير الوضع الحالي للأشياء خيبة أمل وغضب عارمين حين النظر إلى التنازلات ودرجة التقارب غير الكاملة ومرات الإحباط أو التباعد. قد يثير غضبهم خذلان شركائهم لهم، ويمكن أن يندهشوا ويغضبوا من أي دليل على أنانية تعكس ضيق الأفق أو صراحة دون مستوى الصراحة الكاملة أو أي تلميح إلى أغراضٍ جنسيّة لا تركز عليهم بالكامل. في الطرف الآخر لا يشعر الكلاسيكي بأن السيناريوهات المثالية تستحق تلك الجلبة، فهم معنيون بالتخفيف من الجانب السلبي نظرًا لإدراكهم أن معظم الأمور تحمل احتمالية كونها أسوأ بكثير. وقبل إدانة علاقة ما، يفكرون في طرق سير العلاقات عادةً ويحسبون أن اتحادهم ممكن احتماله في ظل هذه الظروف. إنَّ نظرتهم لأنفسهم ولشريكهم في أصلها قاتمة إلى حد ما، فهم يرجحون كون الإنسان أكثر قلقا وأنانيّة مما قد يبدو عليه، ويفترضون أنهم (وأي شخص آخر قد يرتبطون به في المستقبل) سيكون لديهم بعض النزوات الخطرة، والمراوغات الغريبة من الشهوة والبرود والدوافع التي يصعب السيطرة عليها. عندما يظهر السلوك السيئ من تلقاء نفسه، يشعرون بأن هذا هو ما يميل إليه البشر. تتبدى لهم المُثُل العليا على أنها باعثة على الخذلان.

  1. الجدية مقابل السخرية 

ينصب اهتمام الرومانسي على بحثه عن العلاقة المثالية، فيميلون إلى التفكير في أن كلَّ ما يزعجهم في شريكهم قابل للتغيير. لذلك يقاومون ما يدعو إلى تراجع العلاقة المتمثل في التندر الساخر (الذي يوحي بأشكال شتى إلى أن كلانا في حال من الفوضى) لأنها تبدو انهزامية. لا تكمن القناعة الكلاسيكي في أن علاقتهم (أو شريكهم أو في الواقع شخصيتهم) رائعة حقا، بل على النقيض من ذلك. بالأحرى إن ما يشعرون به هو أن المزاج المبتهج بادئة جيدة للتأقلم في علاقة غير مثالية كليا، وهو ما يقرون على أنه النوع الوحيد من العلاقات الموجودة. فالأولوية في القناعة، وعدم الاستسلام أو اليأس أو الهروب. التندر الساخر هو الملاذ المعتاد للعاشقين ذوي التفكير الكلاسيكي لانبثاقه من التصادم المستمر بين ما يود المرء أن تكون عليه الأمور وما تبدو عليه في الواقع. يقدّر هذا النوع من العشاق قدراً كبيراً من التندر الساخر الذي يدور حول علاقاتهم.

  1. النادر مقابل اليومي

يتمرد الرومانسيون على المألوف، فهم حريصون على الغريب والنادر. يحبون تفرد علاقتهم، ويركزون بخاصة على القيام بأشياء غير عادية. لا يشغل روتين الحياة المنزلية بالهم كثيرًا، وينشدون البطولة والإثارة والقضاء على الملل، ولا تعجبهم فكرة أن يكون المال عاملاً مهمًا فيما إذا كانت العلاقة تسير على ما يرام أم لا. ترحب الشخصية الكلاسيكية بالروتين كونه وسيلة دفاعية في وجه الفوضى، فهم معتادون كفاية على التطرف فيرحبون بالأشياء المملة قليلا، ويمكنهم رؤية الجمال في مهمة الغسيل، لأنهم يتبنون فكرة أن علاقتهم العاطفية تشترك في نواحٍ كما في إدارة شركة صغيرة.

  1. النقاء مقابل التناقض 

ينجذب الرومانسي إما إلى التأييد التام وإما الرفض التام. من الناحية المثالية، يجب على الشريكين حب كل شيء في الآخر أو الانفصال. يفزع الرومانسي من المساومة. في الجدال المنزلي من المهم جدًا للشخص الرومانسي أن يشعر بأنه على حق، أما حل مشكلة بالتعاون مع شريكه فلا يجذبه بذات القَدْر. يتبنى الشخص الكلاسيكي وجهة النظر القائلة بأن القليل جدًا من الأشياء، دون أن ينطبق ذلك على الأشخاص (خاصة أنفسهم أو شركائهم)،  إما حسنة تمامًا أو سيئة تمامًا. ويفترضون أن من المحتمل أن يكون في الأفكار المتعارضة قَدْرٌ مهم وشيء يمكن تعلّمه من كلا الجانبين. من الكلاسيكي أن تظن أن شريكك، على الرغم من لطفه عمومًا، قد يحمل في بعض المجالات وجهات نظر تجدها غير مستساغة وسخيفة بعض الشيء. 

لدى كل من التوجهات الرومانسية والكلاسيكية حقائق مهمة لنقلها، وليس أي منهما صحيحًا أو خطأً كله. يجب أن يكونا متوازنين، فلا أحد منا في أي حال من الأحوال يكون ببساطة أحدهما أو الآخر، والعلاقة الحسنة بحاجة إلى توافق رزين بين الاثنين. في هذه المرحلة من التاريخ، قد يكون الموقف الكلاسيكي هو الموقف الذي يجب أن نستمع إلى ادعاءاته وحكمته المميزة باهتمام أكبر. إنه أسلوب ناضج في مقاربة الحياة يستحق منا إعادة اكتشافه. وهو دافعنا إلى استكشاف العلاقات في عصر ما بعد الرومانسيّة. 

يبدو الهيام بأحدهم أمر شخصيا وعفويا، ومن الغريب وبالأحرى من المهين اقتراح أن أمرًا آخر (ما ندعوه بالمجتمع أو الثقافة) قد يلعب دورًا خفيًا وحاسمًا في ضبط علاقاتنا في أصدق لحظاتها حميمية. ومع ذلك، يزخر تاريخ الإنسانية بمختلف صور الحب، والمزاعم المختلفة حول الكيفية التي ُيتوَّقع أن يتعايش بها الأزواج، والكثير من الطرق الفارقة في التعامل معية المشاعر، وربما علينا أن نتقبل بقدر من الرضا أن النهج الذي نتبعه في علاقاتنا يدين في الواقع العملي بالكثير للبيئة السائدة خارج غرف نومنا. يتجلّى حبنا في مرجعّية ثقافية تولِّد إحساسًا مرهفًا بما هو طبيعي في الحب، فهي توجهنا بمهارة إلى حيث يجب أن نصب ميلنا العاطفي، وتعلمنا ما يستحق تقديرنا، وكيف نجابه الصراع، وما يوقد حماسنا، ومتى نغفر، وما يبرر غضبنا. للحب تاريخ من الإبحار، تجرفنا تياراته أحيانًا بلا حول منا ولا قوة. يبدو من الضرورة مساءلة افتراضات وجهة النظر الرومانسية للحب بمنهجية- لا لدحض الحب، وإنما لاستبقائه. نحن بحاجة إلى تكوين نظرية ما بعد الرومانسية للأزواج، وذلك لما تتطلبه العلاقة المستدامة من نقض العهد بالعديد من الأفكار الرومانسية التي أقحمتنا في العلاقة بادئ الأمر. لا تستبطن “ما بعد الرومانسية” التحلي بالتشاؤم، وفقد المرء الأمل في نجاح العلاقات على الإطلاق. وإنما تتبنى ما بعد الرومانسية موقف الطموح بشأن العلاقات الناجحة، سوى أن لها إحساسًا يختلف تمامًا عن كيفية تقديرها للآمال. نحن بحاجة إلى إزاحة القالب الرومانسي وإحلال رؤية ناضجة نفسيًّا للحب يمكن أن نسميها كلاسيكية، والتي تحفز دواخلنا بمجموعة من المواقف غير المألوفة ولكن نرتجي منها الفعالية:

– من الطبيعي ألا يرتبط الحب بالمضاجعة دائمًا.

– مناقشة الإدارة المالية في وقت مبكر، ومقدمًا، وبجدية ليست نقضًا للحب.

– إن تدارك مدى عيوبنا، وعيوب شريكنا، له فائدة مرجوة للزوجين في زيادة سعة التسامح والكرم المطلوبة.

– لن نعثر أبدًا على جل مبتغانا في شخص آخر، كما لن يناله منا، ليس بسبب بعض العيوب المستهجنة، ولكن نعزو ذلك للطبيعة البشرية.

– نحن بحاجة إلى بذل جهود جبارة وغالبًا ما تقتضي التصنع إلى حد ما من أجل الوصول لأرضية مشتركة من التفاهم؛ لا يسع الحدس إيصالنا إلى حيث مرادنا.

– قضاء ساعتين في مناقشة ما إذا كان ينبغي تعليق مناشف الحمام أم يمكن رميها على الأرض ليس أمراً تافهاً ولا غير جدي، وجدير بالاعتبار النقاش فيما يخص غسيل الملابس وتدبير الوقت.

مثل هذه المواقف، وغيرها الكثير، تنتمي إلى مستقبل جديد وأكثر أملاً في الحب.

 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى