العراق في رسائل المس بيل
مؤمن الوزان
هذا الكتاب مجموعة رسائل المس بيل، التي أرسلتها إلى والدها وزوجته، وهي في الحقيقة يومياتها المدوّنة ومشاهداتها الحيّة ونقلها للأحداث التي وقعت في العراق سياسيا وعسكريا، وكانت شاهدة عليها، إضافة إلى أنها شاهد عصر على مرحلة مهمة من تاريخ العراق ابتدأت مع الرسائل بتاريخ ٢٦ كانون الثاني سنة ١٩١٧ إلى السابع من تموز سنة ١٩٢٦ قبل وفاتها بخمسة أيام، إذ توفت في بيتها في بغداد في الثاني عشر من شهر تموز سنة ١٩٢٦بعد أن نامت ولم تستيقظ، ودفنت في المقربة الموجودة في ساحة الطيران في الباب الشرقي ببغداد.
ولدت غيرترويد بيل سنة ١٨٦٨ في مقاطعة يوركاشير في بريطانيا. بعد أن أنهت دراستها وبسبب حبها للغة العربية والشرق -تعلمت شيئا منها وقواعدها- انتقلت إلى إيران لتقيم عند خالها عدة سنوات، وفي سنة ١٨٩٩ ابتدأت رحلتها في البلاد العربية كسوريا والجزيرة العربية في نجد وحائل والعراق وفلسطين، لتدون في رحلاتها مشبوهة الأهداف وتلتقط الصور وتسجل المعلومات عن السكان والقبائل والطرق وتنقب عن الآثار ودونت المشاهدات وكان مما كتبته كتاب سوريا: البادية والمعمورة. وفي سنة ١٩٠٩ شرعت في رحلة مشبوهة أخرى في العراق وهي تمسحه شمالا وجنوبا، وبلا شك أنها كانت بمهمة استطلاعية تمهيدا للاحتلال الإنجليزي، وقد التقت بيل مع بيرسي كوكس، الذي سيكون المندوب السامي على العراق فيما بعد، في بغداد في هذه السنة. وفي عام ١٩١٥ كانت في القاهرة تعمل موظفة في إدارة المخابرات البريطانية السرية في مصر (المكتب العربي). ونظرا لخبراتها وما تملكه من معلومات عن العراق أرسلت مع الحملة العسكرية البريطانية التي دخلت العراق في عام ١٩١٦، وعينت لأول مرة في ٢٦ حزيران من ذات العام، في المكتب العربي فرع البصرة. وبعد احتلال بريطانيا بغداد في ١٩١٧، انتقلت بيل إلى بغداد لتبدأ رسميا عملها الذي توزع ما بين التجسس وجمع المعلومات وإرسالها إلى بلدها الأم، وتواصلها مع القيادات العراقية وشيوخ العشائر ورجال الدين وأصبحت فيما بعد مقربة من الملك فيصل، وقد ساهمت في وضع مسودة الانتداب البريطاني عام ١٩١٩.
يقسم المؤرخ العراقي عبد الحميد العلوجي رسائلها التي امتدت إلى عقد من الزمن تقريبا إلى ثلاث مراحل هي:
– الأولى (١٩١٧- ١٩ أيلول ١٩١٨) وتمتاز بنشاط الآنسة بيل في جمع المعلومات والتجسس والرحلات والفعاليات الخارقة، وعليها اعتماد سلطات الاحتلال، لقلة الموظفين الأجانب في العراق.
– الثانية (تشرين الثاني ١٩١٨ – نهاية ١٩٢٣) وتمتاز بفعالياتها السياسية في مواجهة تأسيس ما عرف بالحكم الوطني والبلاط.
الثالثة: (١٩٢٤-١٩٢٦) وتمتاز بحياتها التافهة، والخمول الذي أصابها نتيجة حرمانها من التدخل في الشؤون الإدارية التي كانت تصاغ بالتعاون بين الوزارات المختصة في بغداد ودار الاعتماد البريطانية.
نقرأ في رسائلها معلومات مهمة تارة وعادية غير مهمة (أحداث يومية عابرة) تارة أخرى تخص بيل وأخرى تخص العراق دولة ومجتمعا وثقافة وعادات، ونجد لدى بيل الكثير من التخبط فتارة تشتم وتارة تمدح ذات الشخص، وفي الوقت التي تقول عن نفسها عربية وشرقية تراها تزدري الشرق والعرب، إضافة إلى غرورها منقطع النظير إلى حد وصف نفسها بالإله الذي يدير شؤون البلاد، وأنها أخذت على عاتقها النهوض بالعراق وتأسيس دولته، والمشاركة في إنشاء دولة، فيا له من عمل عظيم كما تقول، وبغض النظر عن كل ما تقوله فدورها جاسوسةً لا يخفى عن القارئ من خلال تغلغلها في أروقة المجتمع العراقي واستغلال النساء وزوجات الشخصيات العراقية المرموقة السياسية أو الاجتماعية لمعرفة الأخبار والآراء وتدوينها ثم إرسالها في تقارير دورية إلى المسؤولين، وفي الوقت الذي تصف نفسها بأنها صاحبة شأن وذات قرار تظهر في أحيان أخرى كقطة وديعة لبيرسي كوكس تردد أقواله وتصف نفسها أنها محض خادمة له، ولا تخرج عن رأيه، بل تتحدث أحيانا أخرى بصوت أنثوي محروم حين يحرمه الرجل ما يريد، خاصة في رحلات كانت تود مرافقة كوكس لكنها تتدارك الأمر بأنه سيرفض طلبها. يجعلنا تماهيها مع شخصيتها البريطانية الجاسوسة أو الموظفة وشخصيتها العربية العراقية (التي تدعيها) نقف على شخصية مضطربة فلا هي بريطانية نقية ولا هي مشرقية نقية، هذه الازدواجية التي لم تسيطر عليها نتيجة لحياتها بوجهين جعل من رسائلها تطفح بالتناقض والكذب والادعاءات المزيفة التي يبدو أنها كانت تصدق نفسها بأنها المنقذة لهذا الشعب المسكين، هذه النرجسية البريطانية المقيتة والغرور المقرف، اللذان نفذا إلى شخصيتها، فجعلاها تعيش دور البطلة، لكن أي بطلة!
عاشت مس بيل حياة العزوبية حتى وفاتها، الأمر الذي يثير كثير من الأسئلة إذ لا تجد أي إشارة عن حياة مس بيل العاطفية، إذ لم تذكر أنها أحبت أو أعجبت برجل ومالت إليه، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عن حياتها الشخصية. قد يكون من المستغرب أن تقول أمرا كهذا لوالدها، لكن أن تفني حياتها في العمل أمر يثير الريبة، خاصة وهي تصف نفسها بالتعيسة وأنها تود لو تنام ولا تستيقظ، فهي حين ينتهي اليوم تكون أشبه بالميتة بسبب أتعاب العمل. وتقول زوجة أبيها التي حررت رسائلها أن سبب تعاستها بقائها عزباء، فبعيدا عن دورها السياسي، فإن الجانب العاطفي والأنثوي لبيل في العراق يبقى مجهولا أو ربما متكتمّا عليه من قبلها أو من قبل من حرر رسائلها. وتبدو بيل محبة لحفلات الشاي والسهرات والنقاشات ونظرا لإتقانها العربية قد ساعدها في التقرب من الكثير من الشخصيات العراقية وزيارتهم والخروج بسفرات معهم، وتشيد بالأطعمة وما يُعدُّ منه لها، إذ تصف برتقال بعقوبة بأنه ألذ شيء يمكنك تناوله، وتقول عن المسكوف (السمك المشوي) بأنه ألذ أكلة في العالم. المس بيل تُظهر حبها للشرق وأرض العراق كما يظهر في حوادث كثيرة، لكنها في المقابل تعمل على تنفيذ الإرادة البريطانية، وفي رسائل كثيرة تؤكد بصورة أو بأخرى سعيها إلى بث الدعاية حول تمزق المجتمع العراقي من خلال التفرقة ما بين السنة والشيعة، واستغلال الحوادث للتعريض ولتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، إذ تبدو السيطرة على البلد عبر تمزيقه طائفيا وتشتيته دينيا من مخططات الإنجليز التي سعوا من خلالها للسيطرة على العراق، الطريف أن بيل تحسب نفسها من أهل السنة! في مفارقة واضحة مضحكة إذ تصبح هذه المدعية الكاذبة التي تستغل الفرص للتجسس أو محاولة الإساءة لكل من يقف تجاه المشروع الاستعماري البريطاني. وبالعودة لتبجحها وغرورها بنفسها وثقتها الزائدة بمعرفتها العراق وعادات أهله ودينهم وتاريخهم أنها تجهل من قتل الحسين (رضي الله عنه) إذ تكتب في مشاهداتها لطقوس شهر المحرم، وتذكر في أكثر من مرة (تقريبا أربع أو خمس مرات) أن من قتل الحسين هو معاوية! لندرك أنه باعتدادها بذاتها مدعيّة كبيرة، ولا يمكن التسليم بصحة ما كتبته بالكامل. وتنقل هذه الرسائل أخبارا وحوادث عن شخصيات كثيرة في داخل العراق كأفراد العائلة المالكة (فيصل وغازي) ونوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهم الكثير وشخصيات خارجية كـ عبد العزيز آل سعود. يخرج القارئ لهذه الرسائل بجعبة مملوءة بالأخبار والقصص والأحداث التي تعد وثيقة تاريخية مهمة في تاريخ العراق المعاصر.